Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 51-51)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الوَعْد ، والموعِد ، والوعيد والعِدة ، والموعِدة مصادر . والفعل يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما . والمفعول الثاني فيه إمّا { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } أو المقدّر ، وهو أن يعطيه الله التوراة ونحو ذلك ، لأنّه لمّا دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعَد الله موسى أن ينزّل عليهم التوراة . و { وَعَدْنَا } قراءة أهل البصرة وأبي جعفر ، وقرأ الباقون { وَاعَدْنَا } - بالألف - وكذا في الأعراف ، وطه . أما حجَّة مَن قرأ بغير الألف فواضحٌ ، لأنّ الوعد كان من الله ، والمواعَدة لا تكون إلاّ من الجانبين . وأمّا حجة الباقين فوجوه : أحدها : إنّ الوعْد وإن كان مِن الله ، فقبوله كان من موسى ( عليه السلام ) ، وقبول الوعد يشبه فعل الوعْد . وهذا كما يطلق أهل الميزان النقيض لكلّ واحدة من القضيتين اللتين أحدهما سلب للأخرى ، مع أن نقيض الشيء رفعه ، فيكون السالبة نقيضاً للموجبة - دون العكس - إلاّ أنّه أطلق عليهما المتناقضتان باعتبار أنّ أحدهما رفع ، والأخرى مرتفعة به ، ففيها أيضاً معنى الرفع في الجملة ، وبهذا القدر صحّ إطلاق المتناقضتين عليهما ، وإن لم يصح إطلاق النقيضين على كلّ منهما بانفراده ، وكذا الحكْم في الزوجين والمتمّمين ، حيث إنّ لكل منهما مدخلاً في الزوجيّة والتتميم . وثانيها : إنّه لا يبعد أن يكون الآدمي يَعِدُ الله تعالى ، بمعنى أنَّه يعاهد الله . وثالثها : إنَّ الله تعالى وعدَه الوحي ، وهو وَعَد الله المجيء للميقات إلى الطور وهذا أقوى . والقراءتان جميعاً قويتان . و { مُوسَىٰ } اسمٌ مركّب من اسمين بلغة القبط ، فـ " مُو " هو الماء . و " سى " الشجر . سمّي بذلك لأنّ التابوت الذي كان جعلت أمّ موسى إيّاه فيه - حين خافت من فرعون ، وألقته في البحر ، فدفعته الأمواج بين أشجار عند بيت فرعون - وجدته جواري آسية امرأة فرعون عند الماء والشجَر ، وقد خرجْن ليغتسلنَ بذلك المكان ، فسمّي ( عليه السلام ) باسم المكان الذي وجد فيه ، وهو الماء والشجر . وهذا أصح الأقوال . وفيه وجهان آخران مقدوحان : أحدهما : إنَّ وزنه " فُعلى " ، والميم فيه أصلية من " مَاسَ ، يَميس ، موساً " إذا تبختَر في مشيِه . وكان ( عليه السلام ) كذلك . وثانيهما : إنَّ وزنه مُفعَل ، من " أوسيت الشجرة " إذا أخذت ما عليها من الورَق . فكأنّه سمي بذلك لصلْعه . ووجه انقداحهما أنّ بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب ، وأيضاً إنّ هذا الاسم عَلَمٌ ، والعلَم لا يفيد معنى غير الذات الشخصيّة . وهو ( عليه السلام ) موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلوات الله على نبيّنا وعليهم أجمعين - . وانتصاب { أَرْبَعِينَ } إمّا بالظرفية ، أو على أنّه مفعول ثان . والثاني أولى ، لأنّ الوعد ليس فيها كلّها ، كما في جواب " كمْ " ولا في بعضها كما في جواب " مَتى " بل يقضي الأربعين ، فيكون انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني ، فالتقدير : وعَدنا موسى انقضاء أربعين ليلة . أو تمام أربعين ليلة على حذف المضاف ، كقولهم : " أربعين يوماً منذ خرج فلان " أي : تمام الأربعين . و { لَيْلَةً } منتصبة على التمييز للعدد " أربعين " ، وهو شهر ذي القعدة ، وعشر ذي الحجة . ويحتمل أن يكون المراد ، أنّه تعالى وعَد موسى قبل هذا الأربعين أن يجيء إلى الموعد - أي الطور - بعد انقضاء هذا الأربعين ، حتّى تنزل عليه التوراة ويحتمل أن يكون المراد ، أنَّه أمَر بأن يجيء إليه هذا الأربعين ، ووعَد بأنّه ينزّل بعد ذلك التوراة ، وهذا الثاني هو المؤيّد بالأخبار . وعبّر عنها بالليالي ، لأنّها غُرر الشهور ، فإنّ أوّل كلّ شهر إنّما يبيّن بليله الذي يظهر فيه هلاله . وقيل : لأنّ الظُّلمة سابقة على النور وفيه تأمّل . فصل كانت المواعدة ثلاثين ليلة أو أربعين ؟ واعلم أنَّ قوله تعالى هاهنا يدلّ أن المواعدة كانت من أوّل الأمر على الأربعين ، وفي الأعراف حيث قال : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] . يفيد أنّ المواعدة كانت أولاً على ثلاثين ليلة ، ثمّ بعد ذلك واعدَه بعشر ، فلا بدّ في التوفيق بينهما من نكتة . قال الحسن : ليس المراد أنّ وعده كان ثلاثين ليلة ، ثمّ بعد ذلك وعدَه بعشر ، لكنّه وعده أربعين ليلة جميعاً ، وهو كقوله تعالى : { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] . هذا ما في التفسير . وذكر بعض العلماء أنّه روي أنّ موسى ( عليه السلام ) وعد بني إسرائيل - وهم بمصر - أنّ الله تعالى إذا أهلك عدوّهم فرعون ، وقومه ، واستنقذهم من أيديهم ، يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان الحلال والحرام ، والحدود والأحكام فلمّا فعل ذلك ، وأهلك فرعون سأل موسى ربّه الكتابَ . فأمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوماً - وهو ذو القعدة - . ولم يكن صوم موسى ( عليه السلام ) ترك الطعام في النهار وأكْله بالليل . بل طَوى الثلاثين من غير أكْل . فلمَّا تمّت ثلاثون ليلة أنكَرَ خلوفَ فمه . فتسوّك بعود خرنوب فقالت الملائكة : " كنّا نشمّ مِن فِيك رائحةَ المسك فأفسدتَه بالسواك " فأمَره الله تعالى أن يصومَ عشرة أيّام من ذي الحجة . وقال له : " أما علِمتَ أنَّ خُلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك " ؟ واعلم أنّه قد حصَل لموسى ( عليه السلام ) في هذه المدّة المضروبة له من الله استعداد المكالمة له مع الله بواسطة انقطاعه عن الطعام والشراب ، واجتنابه عن اللَّذات ، والشواغل الحسيّة . وكذلك استفاضة العلوم اللدنيّة ، والمعارف الإلهية ، وهي ضرب من المكالمة - لأنّ حقيقة التكلّم إظهار ما يدلّ على المعاني الغائبة عن الحواسّ ، سواء كان بخلْق الألفاظ ، أو بإفاضة صور الحقائق على النّفْس - لا تحصل إلاّ بتخلية المدارك والحواسّ عن الاشتغال بشواغل الدنيا وأغراضها ، وتخلية الجوف عن الطعام ، ومنع اللسان عن الكلام إلاّ بذكر الله ، وعدم اشتغال القلب بما سوى الحقّ ، فإن جميع ذلك مما يعدّ النفس الشريفة الزكيّة للمكالمة الحقيقية مع الله تعالى ، وإفاضة صور الحقائق عليها . ولا يختصّ ذلك بمدّة دون أخرى . غير أنّ تعيين الأربعين والحكمة في ذلك لا يطّلع عليه إلاّ الأنبياء والكمّل من الأولياء ( عليهم السلام ) . وذكَر بعض العرفاء نكتة لطيفة في بيان ذلك وهي : " إنّ الله سبحانه لمّا أراد تكوين آدم ( عليه السلام ) من التراب ، قدَّر التخمير بهذا القدر من العدد ، كما وردت " خمّرتْ طينة آدم بيده أربعين صباحاً " . فكان آدم ( عليه السلام ) لما كان مستصلحاً لعمارة الدارين ؛ لكونه مركباً من جوهرين : أحدهما : ملكوتي أُخروي وهو روحه . والآخر : ملكيّ دنيويّ وهو قالبه ، فأراد الله منه عمارة الدنيا وعمارة الجنّة ، فكوّنه من التراب تكويناً يناسب عالَم الحكمة والشهادة أوّلاً ، ويناسب عالَم الغيب والرحمة ثانياً . وما كانت عمارة النشأة الأولى تتأتّى منه إلاّ ويكون خلقته من أجزاء أرضيّة وقُوى سفلية ، بحسب قانون الحكمة . فمن التراب كوّنه ، وأربعين صباحاً خمّر طينته ، وأودع فيه بحسب كلّ تخمير مرتبة من القوى والآلات ، وطبقة من التجسّم والأعضاء والأدوات ، يوجب كلّ مرتبة وطبقة منها نوعاً من البعد عن الحضرة الإلهيّة في القوى النزوليّة . فاحتجب عن عالَم القدس والوحدة ، بالتوجّه إلى عمارة الدنيا ، وزينة التركيب لبُعده بالتخمير أربعين صباحاً بأربعين حجاباً عن الحضرة الإلهية ، كلّ حجاب معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا وزينتها ، من القُوى النفسانيّة ، والحيوانيّة ، والنباتيّة ، والطبيعيّة . ويتعوّق به عن مراتب القُرب . ولو لم يتعوّق الآدمي بهذه الحُجب والكثائف عن عالَم القدس ، ومواطن القرب ما تعمّرت الدنيا . فمنشأ بُعده عن مقام القُرب لعمارة الدنيا ، وفي ذلك من لطائف صُنْع الله والحكمة ما لا يخفى . فالتبتّل إلى طاعة الله ، والاقبال إليه ، والرجوع عن أمر المعاش ، وما يتعلّق بالدنيا كلّ يوم يخرج عن حجاب من هذه الحُجب ، ويتّخذ منزلاً في القُرب في القوس العروجية من الحضرة الإلهيّة - التي هي مجمع العلوم ، ومنبع المكاشفات ومصدر الحقائق - فإذا تمّت الأربعون زالت الحجُب بالكليّة ، وانصبّت إلى قلبه أنهار العلوم والمعارف انصباباً . ففي كلّ يوم بإخلاصه في العمل لله تعالى يكشف له طبقة من طبقات الحجُب الجسميّة ، والأغشية الظلمانيّة ، والنشأة الترابيّة الطبيعيّة ، ويزول عنه طور من الأطوار الكونيّة الخلقيّة المبعّدة له عن الله ، ويظهر عليه سلطان النشأة الأخروية ، إلى أن ينكشف باستعمال الأربعين أربعين طبقة من أطباق حجابه وأطوار بُعده عن الله ، واشتغاله بعمارة الدنيا ، ولذلك ورَد في الحديث : " من أخلَص للهِ أربعين صباحاً ظهرتْ من قلبه على لسانه ينابيع الحكمة " . فهذا أصل يستفاد منه سرّ تعيين الأربعين في الخلوة والرياضة والعلْم عند الله . عقدة وحل الغرض من تعمير الدنيا ولعلّك تقول : إنّ الحكمة في تعلّق الروح الإنساني بهذا القالب الكثيف لو كانت لمصلحة تعود إلى الكائنات الأرضيّة لكان يلزم منها استخدام العالي للسافل . وأيضاً في تبعيد الروح الإنساني عن عالَم القدس والقُرب إلى عالَم الظُّلمة ، والكُدورة ، والعاهات ، ضرب من التعذيب له ، والتخريج عمّا فطر له من الروح والراحة . فأيّ فائدة في تعذيب أشرف الجواهر الحيوانيّة ، لأجل صلاح سائر المركبات الحيوانيّة ، والنباتيّة ، والمعدنيّة ؟ ! وهذا الإشكال ممّا لا يخلو الجواب عنه عن صعوبة ، لتوقّفه على تحقيق مهيّة الإنسان ومعرفة أطواره ونشآته ، وذلك متعلّق بعلوم كثيرة من علوم المكاشفات . وقد مرّت إشارة إلى سرّ نزول الروح الإنساني إلى هذا العالَم فيما سبق عند قوله تعالى : { وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [ البقرة : 36 ] . والذي نذكر هاهنا في دفع هذا الاشكال هو أنّ المراد بتكوين الإنسان عامراً لهذه النشأة وزينة للكائنات ، هو تعميره على وجه تعود فائدة التعمير إليه ، فإنّ الإنسان الكامل ذو أجزاء كثيرة ، وأطوار متعدّدة ، له بحسب كل قوّة منها كماليّة وتماميّة لا تحصل إلاّ بها ، وليس الغرض من خلافته في الأرض وتعميره للدنيا إلاّ تبقيةَ شخصِه ونوعه ، وتكميل ذاته على وجه يصير مظهراً للأسماء الإلهيّة ، وجامعاً للحقائق الكونيّة والأسرار الربوبية ، خليفة لله في الأرض والسماء ، وزينة للنشأة الباقية بعد الأولى . وأمّا تكوّن سائر الأكوان من النبات والحيوان بسببه فهو إمّا لأجل انتفاعه بها واستخدامه لها كما دلّ عليه قوله في حق الجميع : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] . وقوله تعالى في باب الأنعام والدوابّ : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] . وقوله في باب النباتات : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 11 ] . وقال في باب المعادن والجمادات : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] . وغير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المطلب . وإمّا لأجل أن لا يكون ضائعاً مهملاً ما بقي من فضالة مادّة الإنسان ، وكثائف طينته التي صرفت لطائفه في تخمير قالبه ، فكما أنَّ البنَّاء يستعمل الخشَبَ في غرضه فما فضل لا يُضيعه ، بل يتّخذه قسيّاً وخلالاً وغير ذلك ، فكذلك الغاية القصوى في إيجاد هذا العالَم وتمامه خِلْقة الإنسان الذي من شأنه أن يعرج بالعلم والتقوى إلى جوار الله وملكوته . وأمّا تكوّن سائر المكوّنات ، فلئلاّ يفوت حقّ كلّ عنصر ومادّة ، ويصل إلى كلّ مخلوق من الخير والسعادة قدراً يليق به ، وشرح هذا المقام ممّا يطول . فصل قوله تعالى : { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } أي : اتّخذتموه إلهاً ومعبوداً ، لأنّ بمجرّد فعلهم لتصويره لا يكونون ظالمين ، لأنّ فعل التصوير ليس بمحظور ، وإنّما هو مكروه عند أكثر الفقهاء . وأمّا الخبر الذي رُوي " إنّه عليه وآله الصلاة والسلام لَعَنَ المصوّرين " فالمراد مَن شبَّه الله بخلْقه ، أو اعتقد أنّه صورة جسمانيّة . وقوله : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد خروج موسى وغيبته ، أو مِن بعد وعد الله إيّاكم بالتوراة ، أو مِن بعد غرْق فرعون وهلاك قومه ، أو مِن بعد ما رأيتم من الآيات الباهرات . { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } في اتّخاذكم العِجل معبوداً وإصراركم على ارتكاب الباطل ، ومتابعة الهوى والظُّلمات . روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : كان السامري رجُلاً اسمه موسى بن ظفَر - وقيل : اسمه " ميحا " - وكان من قوم يعبدون البقر ، فكان حبّ عبادة البقر في نفسه ، وقد كان أظهَر الإسلام في بني إسرائيل ، فلمّا قصَد موسى إلى ربّه ، وخلَّف هارون في بني إسرائيل ، قال هارون لقومه : " قد حملتم أوزاراً من زينة القوم " - أي آل فرعون - " فتطهّروا منها ، فإنّها نجس " يعني : إنّهم استعاروا من القبط حليّاً واستبدّوا بها ، فقال هارون : " طهِّروا أنفسكم منها فإنّها نجسة " وأوقد لهم ناراً فقال : " اقذفوا ما كان معكم فيها " فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحُلي ، فيقذفون فيها . وكان السامري رأى أثر فرس جبرائيل ، فأخذ تراباً من أثر حافره ، ثمّ أقبل إلى النار ، فقال لهارون : " يا نبيّ الله ألقي ما في يدي " ؟ قال : " نعم " وهو لا يدري ما في يده . ويظنّ أنّه مما يجيء به غيره من الحُلي والأمتعة . فقذَف فيها وقال : " كُنْ عِجْلاً جَسَداً له خُوار " فكان البلاء والفتنة . فقال : { هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } [ طه : 88 ] فعكَفوا عليه وأحبّوه حبّاً لم يحبّوا مثله شيئاً قطّ . قال ابن عباس : " فكان البلاء والفِتنة " لم يزد على هذا . وقال الحسن : " صار العِجْل لحماً ودماً " . وقال غيره : " لا يجوز ذلك ، لأنّه من معجزات الأنبياء " . ومن وافَق الحسن قال : " إن القبضة من أثر الملَك ، وكان الله قد أجرى العادة بأنّها إذا طرحت على أيّ صورة كانت حييت ، فليس ذلك بمعجزة ، إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره " ومن لم يجز انقلابه حيّاً تأوّل الخُوار على أنّ السامري صاغ عِجْلاً ، وجَعل فيه خروقاً يدخله الريح ، فيخرج منها صوت كالخُوار ، ودعاهم إلى عبادته ، فأجابوه وعَبدوه كذا عن الجبائي . تذكرة السامريُّ والعِجل ذكر بعض العلماء أنّ هذه الواقعة على الوجه المنقول مما يأبى العقل عن إذعانها ، لأنّ كلّ عاقل يعلم ببديهة عقله أنَّ الصنم المتّخَذ من الذهب ، الذي لا يتحرّك ، ولا يحسّ ، ولا يعقل ، يستحيل أن يكون إلهاً في السماوات والأرض ، وهبْ أنّه ظهر منه خُوارٌ ، ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شُبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلهاً . ولا يمكن تصحيح هذه الواقعة إلاّ على وجه ، وهو أنَّ السامري ألقى إلى القوم أنّ موسى إنّما قدر على ما أتى به لأنّه كان يتّخذ طلسمات على قُوى فلكيّة ، فأنا أتّخذ لكم طِلسماً مثلَ طِلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث يخرج عنه صوتٌ عجيب ، فأطمعَهم في أن يصيروا مثل موسى ( عليه السلام ) في الإتيان بالخوارق ، ولعلّ القوم كانوا مجسّمة وحلوليّة ، فجوّزوا حلول الإله في بعض الأجسام . وذكر العارف المحقّق محيي الدين الأعرابي في فصوص الحكم : " إنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئاً إلاّ حيِيَ ذلك الشيء وسَرَت الحياة فيه ، ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبرائيل ( عليه السلام ) - وهو الروح - . وكان السامري عالِماً بهذا الأمر ، فلمّا عرف أنّه جبرائيل ، عرف أنّ الحياة قد سَرَت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالضاء أو بالصاد ، أي : بملء ، أو بأطراف أصابعه - فنبذَها في العِجل ، فخارَ العِجل ، إذ صوت البقر إنّما هو خُوار ، ولو أقامه صورة أخرى ، لنسب إليها اسم الصوت الذي لتلك الصورة ، كالرُّغاء للإبل ، والثؤاج للكباش ، واليُعار للشياه ، والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام . فذلك القدْر من الحياة السارية في الأشياء يسمّى " لاهوتاً " و " الناسوت " هو المحلّ القائم به ذلك الروح " - انتهى . تبصرة بماذا نعرف الرسول ؟ اعلم أنَّ طريق الإيمان بالله ، ورسله ، وآياته عند العرفاء ، وأرباب اليقين ، ليس مما يحصل بالنظر في المعجزة ، وخرقِ العادة الواقع من الرسل ، فإنّي قد آمَنت بصدق نبيّنا محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) في جميع ما أتى به ، وبصدق موسى ( عليه السلام ) ، لا بشقّ القمر وقلب العصا حيّة ، بل باعلامات إلهيّة ، وإلهامات ربّانية في القلب التي لا يتطرّق إليها شائبة شكّ وريب ، ولا يقربها وصمة شبهة وعيب . وهي موزونة مع ذلك بميزان صحيح العيار من موازين القسط ليوم الحساب الذي وضعه الله من السماء العقليّة في أرض القلب الإنساني ، الموضوع تحت سماء العقل المرفوع ، وأمَر باقامته كما دلّ عليه قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 7 - 10 ] . وقد أقمتُ هذا الميزان الصحيح كما أمر الله به ، ووزنتُ به جميع المعارف الإلهيّة ، بل أحوال المعاد ، وسرّ حشر الأجساد ، وعذاب أهل الفجور ، وثواب أهل الطاعة ، فوجدت جميعها مطابقة لما في هذا القرآن الذي هو تنزيل من الله العزيز المنّان ، ولما في الأحاديث الواردة من النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتيقّنت أنّ جميع ما صحّ عن رسول الله وآله ( صلى الله عليه وآله ) حقّ وصدْق . وأمّا طريق النظر في المعجزة ، فذلك مما يتطرّق إليه التباس كثير ، فلا يوثق به كلّ الوثوق بل من بنى إيمانَه على قلْب العصا ثعباناً ، يكفر بخُوار عجل السامري ، فإنّ التعارض في عالَم الحسّ والشهادة كثيرٌ جداً ، والعالَم الذي هو عالَم العصمة والطهارة عن الخبْط والغلَط ، هو عالَم القلْب ، وأمّا عالَم البدن فالخطأ والالتباس فيه كثير . وأكثر الناس اعتمادهم على ما تدركه الحواسّ ، وعكوفهم على ما ينتمي إلى الأوضاع الحسيّة ، ولهذا يغلطون كثيراً ، ولو لم يكن لهم قائد يقتدون به ، يسلك بهم كمَن يقود الأعمى في الليل المظلم ، لوقعوا في الحميم ، وسلكوا طريق الجحيم ، وهؤلاء طائفةٌ لا يعرفون الحق إلاّ بالرّجال . وأمّا العرفاء الإلهيون فهم يعرفون أهل الحق بالحقّ ، كما قال أمير المؤمنين وإمام العارفين ( عليه السلام ) : " لا تعرف الحق بالرّجال ، إِعرف الحقّ تعرف أهله " فكانت معرفة العارفين المحقّقين بصدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) ضروريّة ، كمعرفتك إذا رأيت رجُلاً عربيّاً يدّعي الفقه ، ويناظر في مسألة من مسائل الفقه ، ويحسن في البحث عنه ، ويأتي بالفقه الصحيح الصريح ، فإنّك لا تتمارى في أنّه فقيه ، ويقينك الحاصل بفقهه من مناظرته أوضح من اليقين الحاصل به لو قلَب ألف عصا ثعباناً ، لأنّ ذلك يتطرّق فيه احتمال السحر ، والطلسم ، والتلبيس بغيره ، ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلّمين ، فأمّا إيمان الناظرين من مشكاة الملكوت ، فلا يتطرّق إليه تلك الاحتمالات ، وهذا النحو من العلْم والإيمان إنّما يحصل بتعليم من الله ومن جبرائيل بواسطة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) . وهذا أوضح من الاعتقاد الذي يحصل من النصّ أو بالمعجزة ، فإنّ ثلاثة أنفس لو ادّعوا عندك أنّهم يحفظون القرآن ، فقلت : " ما برهانكم " ؟ فقال أحدهم : إنّه نصَّ عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين . أو نصَّ على أستاذي فلان وأستاذي نصَّ عليَّ ، فكأنَّ الكسائي نصَّ عليَّ . وقال الثاني : برهاني أنّي أقلب العصا حيَّة - وقد قلَب العصا حيّة - . وقال الثالث : برهاني أن أقرأ القرآن بين يديك من غير مصحَف - وقرأ - فليتَ شعري أيّ هذه البراهين أوضح ؟ وقلبُك بأيّها أشدّ تصديقاً ؟ لا شكّ أنّك بالذي قرأ القرآن ، فهو غاية البرهان ، وبه يحصل غاية الإيمان إذ لا يخالج فيه ريبٌ . أمّا نصُّ أُُستاذه عليه ، ونصُّ الكسائي على أُستاذه ، فيتصوّر أن يقع فيه أغاليط ، سيما عند طول الأزمنة وبُعد الأسفار . وأمّا قلب العصا حيّة : فلعلَّ ذلك لحيلة وشَعبذة ، وإن لم يكن كذلك فغايته أنّه فعَل أمراً عجيباً ، ومن أين يلزم أنّ من قدر على فعلٍ عجيب ينبغي أن يكون حافظاً للقرآن ؟ ! تنبيه ذكر نكات تلمح إليها الآية اعلم - أيّها العاقل الفهيم - أنّ في هذه الآية تحذيراً بليغاً من التقليد والجهل بالدلائل والبراهين ، فإنّ أولئك القوم لو عرفوا الله بالحُجج الواضحة ، والشواهد الباطنة معرفة تامَّة لما وقَعوا في شُبهة السامري . وفيها أيضاً دلالة على أنّ أمّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) خير الأُمم ، لأنّ أولئك اليهود مع أنّهم شاهَدوا تلك المعجزات الباهرة اغترّوا بهذه الشُّبهة الركيكة ، وأمّا هذه الأُمَّة فإنّهم مع حاجتهم في معرفة اعجاز القرآن إلى الأدلّة الدقيقة لم يغترّوا بالشبهات القويّة ، وذلك يدلّ على أنّ هذه الأُمّة أكمل عقلاً ، وأزكى خاطراً ، وأشدّ تعمّقاً في الحقّ من غيرهم . وفيها أيضاً تسلية لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مما كان يشاهد من مشركي مكّة والمنافقين وأمر له بالصبر على مخالفتهم ، كما صَبر موسى ( عليه السلام ) في هذه الواقعة المنكرة من قومه ، وقد خلصهم ( عليه السلام ) من فرعون ، وأراهم المعجزات القويّة ، فاغترّوا بهذه الشبهة الركيكة . وفيها أيضاً دلالة على مذمّة الاقتداء بالأسلاف والآباء من غير بصيرة ، فإنّ أشدّ الناس مجادلة مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وعداوة للذين آمنوا هم اليهود ، وكانوا يتفاخَرون بأسلافهم ويلتزمون دين أشياخهم وآبائهم ، فكأنّه تعالى قال : " هؤلاء إنّما يتفاخَرون بأسلافهم ويقتدون على آثارهم . ثمّ إنّ أسلافهم كانوا في البلادة وسخافَة العقل والغباوة إلى هذا الحدّ ، فكيف من يقتدي بهم ويقتفي آثارهم " ؟ ! وفيها أيضاً تنبيهٌ يستفاد من قوله : { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } على أن ضرر الكفر والمعاصي لا يعود إلاّ إلى صاحبه ، لأنّهم ما استفادوا بذلك إلاَّ أنّهم ظلَموا أنفسهم وحرّفوها عن جوار الله ودار كرامته إلى الهاوية ودار الهوان والعذاب ، وذلك يدلّ على أن جلال الله منزّه عن الاستكمال بطاعة العباد والانتقاص بمعصيتهم .