Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 53-53)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه هي النِّعمة الرابعة عليهم من الله تعالى الفرقان والقرآن والفُرقان في اللغة مصدر فرّقت بين الشيئين فرقاً وفرقاناً ، يطلق على ما به يحصل الفرقان ، والمراد به هاهنا إمّا نفس التوراة باعتبار كونه فارقاً بين الحقّ والباطل ، أو شيئاً داخلاً فيه ، أو خارجاً عنه . فالأوّل : قول ابن عباس . وإنّما صحّ العطف لتغاير اللفظين ، بل لتغاير المفهومين فإنّ مفهوم " الكتاب " يغاير مفهوم " الفارِق " فهو كقولك : " رأيت الغَيث والليث " تريد الرجل الجامع بين الجود والشجاعة ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً } [ الفرقان : 48 ] . يعني الجامع بين هذه الأوصاف . والثاني : يكون إشارة إلى بعض ما في التوراة ، كبيان أصول الدين وفروعه . وأمّا الثالث : فقيل : إنّ المراد به انفراق البحر الذي آتاه موسى ( عليه السلام ) . وقيل : الفرق الحاصل بين أهل الحقّ - وهم موسى وأصحابه المؤمنون - وبين أهل الباطل - وهم فرعون وأصحابه الكافرون - وذلك بأشياء كثيرة منها : نجاة هؤلاء ، وغرق هؤلاء - هذا بحسب الظاهر . وأمّا بحسب الباطن فهؤلاء نجَوا من غرق بحر الطبيعة التي هي بحر مسجور ، فخلصوا من عذاب نيرانها في القيامة ، وهؤلاء غرقوا فيها واحترقوا بنار جهنّم في القيامة ، وقد قال سبحانه : " هؤلاء للجنّة ولا أُبالي وهؤلاء للنار ولا أُبالي " وهذا الفرق المعنوي بعينه حاصلٌ إلى الآن بين المحقّين والمبطلين ، مشهود لأرباب الشهود الباطني . وقيل : الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : النصْر الذي فرّق بينهم وبين عدوّهم ، كقوله : { يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } [ الأنفال : 41 ] . يريد يوم بدْر . وقيل : إنّ المراد بالفرقان : القرآن . ويكون تقديره : " وآتينا موسى التوراة ، وآتينا محمداً الفرقان ، لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب " . وهو قول الفرّاء وقُطرب وثَعلب . وهذا تعسّفٌ شديد ، لأنّ فيه حمل القرآن على مثل هذا المجاز من غير ضرورة ، مع أنّه تعالى أخبَر أنّه آتى موسى الفرقان . إشارة الفرقان والقرآن عند أهل الله وهاهنا دقيقة أخرى لأهل الله في معنى الفرقان ، والتمييز بينه وبين معنى القرآن ، وهو أنّ للنفس الناطقة ضربين من العلوم الإلهيَّة : أحدهما : ما يقال له : " العلْم الإجمالي ، والقضائي ، والعقلاني " ويسمّى عند قوم من الحكماء بـ " العقل البسيط " ويتّصف به العقْل الفعّال ، وهو من صفات المقرّبين ، ومن الملائكة المقدّسين ، والأنبياء ، والأولياء الكاملين . وثانيهما : ما يقال له : " العلم التفصيلي ، والقدَري والنفساني " ويتّصف به العقل المنفعل ، وهو من صفات المتفكّرين في الآفاق والأنفس . فإذا تقرّر هذا فنقول : إنّ القرآن عند أهل الله خاصّة - وهم أهل القرآن - عبارةٌ عن العقل البسيط ، والعلم الإجمالي . والفرقان عندهم عبارة عن العلوم الانفعالية التفصيلية الحاصلة من ذلك العقل البسيط ، فذلك العقل القرآني مبدأ لحصول الصوَر العلميّة الفكريّة للنفس . إذا علمت هذا فاعلم أنّ الله خصّص نبيّنا حبيب الله ( صلّى الله عليه وآله ) من بين سائر الأنبياء ( عليهم السلام ) بإنزال القرآن والفرقان جميعاً ، ولهذا وصَف ما أنزل الله عليه بهما جميعاً ، كما أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) اختصّ من بينهم بإنزال الكلام وتنزيل الكتاب جميعاً ، والمنزَل على سائر الأنبياء ( عليهم السلام ) فرقان فقط وليس بقرآن ، كما أنّ المنزل عليهم كتابٌ فقط وليس بكلام . ومن هذا الوجه يعلم فضيلة هذه الأمّة على سائر الأمم ، لأنّ فائدة الإنزال والتنزيل ترجع إلى الأمَم ، فبقدر فضيلة الكتاب يعلم فضيلة المنزل عليهم ، فيستفاد من هذا البيان أنّه يوجد في هذه الأُمّة جماعة تكون درجتهم درجة إدراك العقل البسيط القرآني ، وأنّه لم توجد هذه الدرجة في سائر الأُمم ، بل في أنبيائهم خاصّة ، وإلاّ لكان كتابُهم المنزَل عليهم من مثل هذا القرآن ، وليس كذلك . وقد مرّ الفرق أيضاً بين كلام الله وكتابه من أنّ الكلام من عالَم الأمر ، والكتاب من عالَم الخلْق . ومن أنّ الكلام منزَل على قلب حبيب الله ( صلّى الله عليه وآله ) بالحقّ ، وكُتب سائرِ الأنبياء ( عليهم السلام ) نازلةٌ عليهم في الألواح والصحُف ، وبين الإنزالين بونٌ بعيد وفرقٌ عظيم . وقد ذكرنا أيضاً فرقاً آخر بين الكلام والكتاب ، بأنّ أحدهما يكون صفة نفسانيّة وخُلقاً ، والآخر يكون فعلاً وأثراً مبائناً . وكذلك العقل البسيط الإجمالي القرآني صفة ذاتيّة للعالِم به ، بل ربما يكون عين العالِم . وأمّا الصوَر والعلوم التفصيليّة فهي من قبيل الآثار ، والأفعال ، بالقياس إلى العقل الكامل الفعّال . فلهذا كان القرآن خُلْق نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله ) كما هو المرويّ . قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي بتدبُّر الكتاب والتفكّر في آياته .