Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 54-54)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا هو الإنعام الخامس من الله لهم ، وذلك لأنّه نبَّههم على عظيم ذنبهم ، ثمّ نبَّههم على طريق تخلُّصهم من عذاب يوم القيامة ، وذلك من أعظم النِّعَم في الدين ، ثمّ إنّه تاب عليهم قبل فنائهم بالكليّة ، فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين . يعني : أذكروا يا أهل الكتاب { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } الذين عبَدوا الْعِجْل عند رجوعه من الوعد الذي وعده ربّه : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } . أي نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى ( عليه السلام ) ، أو أضررتم بها حيث وضعتم العبادة غير موضعها { بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً . والمفعول الثاني محذوفٌ لدلالة القرينة عليه ، فإنّ الظلم إمّا بمعنى النقص ، أو الإضرار الذي ليس بمستحقّ ولا فيه نفعٌ ، ولا رفع مفسدة لا علماً ولا ظناً ، فلمّا عبَدوا العِجْل فقد نقَصوا أنفسهم عن تمام الإنسانيّة ، فإنّ الإنسان إذا كفَر بالله انسلخ عن الفطرة ، وانخرط في سلْك البهائم والحشَرات . أو كانوا أضرّوا بأنفسهم لأنّ لا ضرر أعظم مما يؤدّي إلى عذاب الأبد ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } أي : ارجعوا وأنيبوا إلى خالقكم بالطاعة والتوحيد . والفرق بين " البارئ " و " الخالِق " أنّ الباري هو المبدِع المحدِث ، والخالِق هو المقدِّر الناقل من صورة إلى صورة ، ومن حال إلى حال . وأصل التركيب في اللغة لخلوص الشيء عن غيره إمّا على سبيل التقصّي ، كقولكم : " بِرئَ المريضُ من مرَضه ، والمديونُ من دَينه " أو على سبيل الإنشاء ، كقوله : " بَرأَ الله آدمَ من الطين " . سؤالٌ : لِمَ اختصّ هذا المقام بذكر هذا الاسم دون غيره من الأسماء الحسنى ؟ جوابٌ : لأنّ الباري هو الذي خلَق الخلْق بريئاً من التفاوت لقوله تعالى : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] . ومتميزاً بعضه من بعض بصور متباينة وأشكال مختلفة ، فكان فيه تقريعٌ لهم بما وقع منهم من تَرك عبادة العالِم الخبير ، الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال والصور المختلفة ، وأبرياء من التفاوت إلى عبادة البقرَة التي هي مثَلٌ في الغباوة والبلادة وفي أمثال العرب : " أبلَد من ثورة " حتى عرَّضوا أنفسَهم لسخط الله . قوله : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } تتميماً لتوبتكم ، إمّا بترك الشهوات واللَّذات وإماتة القُوى الحيوانيّة ، بمنعها عن دواعيها كما قيل : " مَن لم يعذّب نفسه لم ينعِّمها ، ومن لم يقتلها لم يحيها " وفي كلام بعض أعاظم الحكماء : " مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة " . وفي الحديث النبوي على قائله وآله أشرف سلام الله : " مُوتوا قبل أن تمُوتوا " وروي أنّه قال أيضاً : " من أراد أن ينظر إلى ميّت يمشي فلينظر إليَّ " أو بالبخع ، أو بقَتل بعضكم بعضاً فإنّ الأقوال فيه مختلفة . وقال قوم من المفسّرين - كالقاضي عبد الجبار وغيره - : لا يجوز أن يراد به قتل كلّ من التائبين نفسه ، واحتجّوا عليه بوجهين : أحدهما : إنّهم ما قَتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين به لعصَوا بتركه . وثانيهما : إنّ القتل اسم لنقص البُنية بفعل مزهق للروح في الحال ، وأمّا ما يؤدي إلى الزهوق وقتاً آخر فإنّما سمّي قتلاً على سبيل المجاز . فإذا كان كذلك فلا يجوز من الله الأمر بقتل الإنسان نفسَه ، لأنّ الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعيّة إنّما وقعتْ لمصلحة للمكلف به في المستقبل ، ولا يتصوّر وجودها بعد عدمه . وفي هذه المقدّمات مواضع نظر ، على أنّ المصلحة لا يجب أن تعود إليه ، بل ربما تعود مصلحة قتله لنفسه إلى غيره ، بأن ينتفع به ذلك الغير ، ثمّ الله يوصل العوض العظيم إليه . ثمّ على تقدير عودها إليه لا يلزم أن يكون في الدنيا بل تكون في العقبى . سلّمنا أنّه يلزم عودها إليه في الدنيا . لكن لِم لا يجوز أن يكون علمُه بكونه مأموراً بهذا القتل ، وامتثاله للأمر مصلحة له في هذا الآن ، أو الزمان القليل ؟ كما أنّه لو أُمر بأن يقتل نفسَه غداً ، فإنّ علمه بذلك يصير داعياً له إلى ترْك المعاصي من ذلك الزمان إلى ورود الغَد ، فالوجه الأوّل أقوى ، ولهذا عوّل عليه المفسِّرون . فعَلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها إمّا إلى ما ذكَرنا أوّلاً ، أو إلى غيره وهو اثنان : أحدهما : أن يقال : أمَر سبحانه التتائبين أن يقتل بعضُهم بعضاً وهو قول ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم وهذا كقوله سبحانه : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] . أي ليسلّم بعضُكم على بعض . وكقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ومعناه لا يقتل بعضكم بعضاً . وتحقيق ذلك أنَّ المؤمنين كنفس واحدة ، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين ، فإنّهم ذو آراء متناقضة ، ومذاهب متخالفة ، وأخلاق متشتّتة بعضها : بهيميّة ، وبعضها سبُعيّة ، وبعضها شيطانيّة . ولذلك حشروا إلى صوَر مختلفة بحسب ما غَلب واستولى على نفوسهم من الأخلاق كما هو معلوم من مباحث علم المعاد . أمّا نفوس أهل الإيمان والتوحيد فقد ثبَت في موضعه أنّها ستَصل بعالَم القدس . ومذهب بعض أئمّة الحكمة والتوحيد من الأقدمين أنّ النفس العارفة العاقلة عند خروجها عن القوّة إلى الفعل في باب العاقليّة والمعقوليّة تتّحد بروح القدس المسمّى عندهم بالعقل الفعّال ، فعلى هذا صحّ القول بأنّها كنفس واحدة . وكذا على مذهب أفلاطن ومن وافَقه من عظماء الحكماء في باب ، أنّ لكل نوع صورة مفارقة في عالَم الأرواح العالية هي حقيقة ذلك النوع وتمامه ، وهي جوهرٌ واحد قائم عند الله ماثلٌ بين يديه . ومع وحدته هو تمام كلّ واحد من أفراد ذلك النوع ، وكذلك لنوع الإنسان وأفراده صورة واحدة في عالَم الربوبيّة هي تمام جوهر الإنسانيّة ، وأن أفراد الناس إذا لم ينسلخوا عن الفطرة الإنسانيّة بالكفر ونحوه ، يكونون متّحدين في تمام حقيقتهم ، وكمال وجودهم العقلي الباطني بجوهر قدسيّ واحد ، هو نفس حقيقة الجميع ، وكانت هذه النفوس البشريّة أجزاء لذلك الجوهر ، لأنّه الأصل . وهذه هي الفروع الصادرة منه ، العائدة إليه عند تمامها وكمالها . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] . وقوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] . ولذا قيل في قوله : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] . أي إخوانكم من المؤمنين . وفي قوله : { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ النور : 12 ] . أي بأمثالهم من المؤمنين . ثمّ قال المفسّرون القائلون بهذا القول : إنّ أولئك التائبين برَزوا صفّين فضرب بعضهم بعضاً إلى الليل . وثانيهما : إنّ الله أمرَ مَن لم يعبُد العِجل أن يقتلوا العبَدَة وأمرَ التائبين أن يسلّموا للقتل ، وهذا أقرب هذين الوجهين . وعن ابن إسحاق والجبائي أنَّ معنى { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } استسلموا للقتل . فجعل استسلامهم للقتل قتلاً منهم لأنفسهم على وجه التوسّع . واعلم أنَّ الروايات مختلفة في باب المأمورين بالقتل ، ففي بعضها أنّ موسى ( عليه السلام ) أمَرهم أن يقوموا صفّين ، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم ، وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممَّن لم يعبد العِجل ، ومعهم الشّفار المُرهَفة ، وكانوا يقتلونهم ، فلمّا قَتلوا سبعين ألفاً تاب الله على الباقين ، وجعل قتْل الماضين شهادة لهم . وفي بعضها : إنّ السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممّن عبَد العِجل سبعين ألفاً ، فما تحرّكوا حتى قتلوا ثلاثة أيام ذكره محمد بن إسجاق . وفي بعضها : - وهي رواية الكلبي - : لمّا أمَرهم موسى ( عليه السلام ) أجابوا ، فأخَذ عليهم المواثيق ليصبرنّ على القتْل ، فأصبحوا مجتمعين كلّ قبيلة على حدة . فأتاهم هارون بالإثني عشر ألفاً الذين ما عبَدوا العِجل ، وبأيديهم السيوف وقال التائبون : إنّ هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف ، فاتّقوا الله واصبروا ، فلعَن اللهُ رجلاً قام من مجلسه ، أو مدّ طرْفه إليهم ، أو اتَّقاهم بيدٍ أو رِجْل ، يقولون " آمين " فجعلوا يقتلونهم إلى السماء ، وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : " البقيّة ، البقيّة يا إلهنا " فأوحى تعالى إليه : " قد غفرتُ لمن قُتل . وتبتُ على مَن بقي " قالوا : وكان القتلى سبعين ألفاً . وفي بعضها : إن بني إسرائيل كانوا قسمين : منهم من عبَد العِجل ، ومنهم من لم يعبده ، ولكن لم يُنكِر على مَن عبَده ، فأمَر مَن لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة . وفي الكشاف وغيره : روي أن الرجل كان يبصر ولدَه ووالدَه وجارَه وقريبَه ، فلم يمكنهم المضيّ لأمر الله ، فأرسل الله ضَبابة وسَحابة سَوداء لا يتباصرون تحتَها ، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ، فقُتلوا إلى المساء ، حتّى دعا موسى وهارون ، فقالا : " يا ربّ هلكت بنو إسرائيل ، البقيّة البقيّة " فانكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وسقطت الشّفار من أيديهم . وقوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } أي : فعْل التوبة ، أو القتل من حيث كونه طهارة عن الشرك ، أو وصلة إلى الحياة الأبديّة ، والبهجة السرمديّة ، خيرٌ لكم عند خالِقكم ، فإنّ حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا ونعيم الآخرة أبداً ، وبين التمتّع في الدنيا أيّاماً قليلة ، والعذاب في الآخرة أبداً ، وضرر الدنيا أولى بالتحمّل ، لأنّه متناه من ضرر الآخرة ، لأنّه غير متناهٍ ، ونعيم الآخرة أولى بالإيثار من نعيم الدنيا لأنّه دائم وهذا منقطع . ولأنّ الموت واقع لا محالة ، فليس في تحمّل القتل إلاّ تقديم أمر ضروري الوقوع لا محالة ، وفي عدم تحمّله تأخيره ، وأمّا النجاة مِن العقاب الدائم والفوز بالثواب الدائم ، فهو سعادة لا أعظم منها . وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : قبِل توبتكم . واعلم أنَّه قد تقرَّر عند أهل المعرفة والشهود ، وثبَت بالأخبار المتكثّرة المتظافرة أنّ الإنسان كلّما قرُب من الحقّ قرُب هو تعالى منه ، وكلّما رجع إلى الله رجع إليه . وفي الحديث الإلهي : " مَن قرب إليّ شِبراً قربت إليه ذراعاً ، ومَن قرب إليّ ذراعاً قربت إليه باعاً " . قوله : { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي قابل التوبة عن عباده مرّة بعد أخرى ، كثير العطوفة عليهم ، يمحو السيّئات ويغفر الخطيئات .