Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 62-62)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ هَادُواْ } بضم الدال . وقرئ بالفتح . والقراءة المعروفة في { ٱلصَّابِئِينَ } وكذا { ٱلصَّابِئُونَ } بإثبات الهمزة في كلّ القرآن . وعن نافع والزهري بترك الهمزة . وعن أبي جعفر بيائين خالصتين فيهما . وترك الهمزة يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من " صَبا ، يَصبُوا " أي : مالَ إلى الشيء . والآخر : قلب الهمزة ياء . واختيار الهمزة أولى ، لأنّه قراءة الأكثر ، ولأنّه أقرب إلى معنى التفسير ، لأنّ أهل العلم قالوا : الصابي هو الخارج من دين إلى دين لم يشرّع له ، فمن قرأ بغير الهمزة يحمل على قلب الهمزة . واختُلف في اشتقاق اسم " اليهود " . فقيل : هو من " الهود " أي : التوبة لتوبتهم من عبادة العِجل . وقيل : إنّما سمّوا بذلك لانتسابهم إلى " يَهودا " أكبر أولاد يعقوب . وقيل لأنّهم هادُوا - أي : مالوا - عن دين الإسلام . وقيل : لأنّهم يتهوّدون - أي يتحرّكون - عند قراءة التوراة ، ويقولون : " إنّ السماوات والأرضَ تحرّكت حين آتى الله موسى ( عليه السلام ) التوراة " . واليهود اسم جمع واحدهم " يهودي " ، كالزنج والزنجي . و { ٱلنَّصَارَىٰ } جمع نَصران ، كسَكران وسُكارى . ومؤنثه : " نَصرانة " والياء في نصراني للمبالغة . واختلفوا في اشتقاقه . فعن ابن عباس : هو من " ناصرة " قرية كان يسكنها عيسى ( عليه السلام ) . وقيل : إنّما سمّوا بذلك لقوله ( عليه السلام ) : { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] . و { ٱلصَّابِئُونَ } جمع الصابي . وهو مَن انتقل مِن دين إلى دين آخر . قال أبو علي قال أبو زيد : صبأ الرجل في دينه يَصبو صبوءاً إذا كان صابئاً . وصَبأ نابُ الصبي ، يصبأ صبأ : إذا طلَع . وصبأت عليهم إذا طلعت عليهم ، وطرأت مثله . فمعنى الصابي التارك دينه الذي شرّع له إلى دين غيره ، كما أنّ الصابئ على القوم تارك لأرضه ، ومنتقِل إلى سواها ، لأنّهم تركوا دين التوحيد إلى عبادة روحانيّات النجوم ، وملائكة السماوات ، أو تعظيمها وجعلها وسائل وشفعاء لهم إلى الله . وقال قتادة : وهم قوم معروفون ، ولهم مذهب يتفرّدون به ، ومن دينهم عبادة النجوم ، وهم يقرّون بالصانع وبالمعاد ، وببعض الأنبياء . وقال مجاهد والحسن : الصابئون بين اليهود والمجوس لا دين لهم . وقال السدّي : هم طائفة من أهل الكتاب يقرؤون الزّبور . وقال الخليل : هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى ، إلاّ أنّ قبلتهم نحو مهبّ الجنوب حَيال منتصف النهار ، يزعمون أنّهم على دين نوح ( عليه السلام ) . وعامّة الفقهاء يجيزون أخذ الجِزية منهم ، وعند أصحابنا الإماميّة لا يجوز ذلك لأنّهم لا كتاب لهم . المعنى : واعلم أنّ من عادة الله الرحيم بعباده ، إذا ذكَر وعيداً عقَّبه بضده ، لئلاّ ييئس عباده من رحمته ، وإذا ذكَر آية رجاء عقَّبها بآية الخَوف ، لئلاّ يأمن عباده من مكر الله . فهاهنا لمّا ذكر أحوال كفَرة أهل الكتاب ، وما نزَل بهم من العقوبة ، أخبَر بما وعَد للمؤمنين من كل طائفة من الثواب الجزيل والأجر العظيم ، دالاًّ على أنّه سبحانه كما يجازي المسيء بإساءته يكافئ المحسِن بإحسانه ، كما قال تعالى : { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] . فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . واختلفوا في المراد منهم . فقال قوم : هم الذين آمنوا بعيسى ( عليه السلام ) ، ثمّ لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يتصبّأوا ، وانتظروا خروجَ محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) . وقيل : هم طلاّب الدين ، منهم : حبيب النجّار ، وقسّ بن ساعدة ، وزيد ابن عمرو بن نفيل ، والبراء الشني ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وبحيرا الراهب ، ووفد النجاشي . آمنوا بالنبي ( صلّى الله عليه وآله ) قبل مبعثه . فمنهم من أدركه وتابَعه ، ومنهم من لم يدركه . وقيل : مؤمنوا الأُمَم الماضية . وقيل : هم المؤمنون من هذه الأمة . وقال السدّي : هو سلمان الفارسي وأصحابه النصارى ، الذين كانوا قد تنصَّر على أيديهم قبل مبعث الرسول ، وكانوا أخبَروه بأنّه سيبعث ، وأنّهم يؤمنون به إن أدركوه . وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية : { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } فإنّ ذلك يقتضي أنّ المراد من الإيمان في أوّل الآية غير المراد به في آخرها ونظير هذا قوله : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ النساء : 136 ] . والأجود أن يكون معنى الإيمان في الأوّل ، الإيمان الظاهري المعروف بين الأُمّة ، ومعناه في الثاني هو الإيمان الحقيقي ، الذي هو عبارة عن عرفان الله بوحدانيّته ، وصفاته الإلهية ، وأفعاله المحكمة ، وعرفان اليوم الآخر ، وحقيقته رجوع الأشياء إليه ، وحشر الإنسان إلى الدار الآخرة كلّ ذلك على وجه اليقين والتحقيق . وهذا أمر في غاية العزّة والشرف ، وقلَّ من المعروفين بالإيمان من تصوّر هذه الأشياء ، تصوُّراً حقيقياً ، أو بوجه خاصّ رسمي . والقرآن مشحون بالإشعار بما ذكرناه ، كقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . وقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] . فالإيمان الحقيقي غير الإيمان الظاهري المجازي . فعلى هذا لا حاجة إلى حمل قوله : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } على غير طائفة أهل هذه الملّة الإسلاميّة ، بل هذه الأقوال لو ذكرت في قوله : { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لكان أولى بأن يقال : من الذين هم مؤمنوا بني إسرائيل ، ومن الذين هم مؤمنوا قوم عيسى ( عليه السلام ) ، ومن مؤمني جماعة الصابئين ، ومِن المؤمن بالله واليوم الآخر ، من هؤلاء الطوائف ، سواء كانوا في سابق الزمان قبل ظهور الإسلام ، أو في عهد الإسلام . ولكن الإيمان بهذا المعنى الحقيقي أمر باطني لا يعرف الموصوف به إلاّ الله وأنبياؤه وأولياؤه ( عليهم السلام ) . ويؤيّد هذا التفسير قول سفيان الثوري ، حيث نقل صاحب الكبير عنه : أنه تعالى لما ذكَر في أوّل هذه السورة طريقة المنافقين ، ثمّ طريقة اليهود . فالمراد من قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب ، وهم المنافقون . فذكَر المنافقين ، ثمّ اليهود ، والنصارى ، والصابئين . فكأنّه تعالى قال : " أولئك المبطِلون كلّ من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من الفائزين عند الله بالأجر العظيم " . ومن هاهنا يعلم أنّ المقصود الأصلي من بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب ، هو الإيمان بالمبدإ والمعاد ، مع العمل الصالح ، حتّى لو فُرض أحدٌ لم يكن يرى نبيّاً من الأنبياء ، ولم يصل إليه خبره ، أو كان في أزمنة الفتَرات ، وهو مع هذا عالِم بالله واليوم الآخر ، عاملٌ بالعمل الصالح ، لكان من السعداء الناجين . وروي عن ابن عباس أنّ هذه منسوخة بقوله : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] . وهذا بعيدٌ لأنّ النسخ لا يجوز أن يرد على الخبر الذي هو متضمّن للوعد . وإنّما يجوز دخوله في الأحكام الشرعيّة ، التي يجوز تغيُّرها ، وتبدّلها ، بتغيّر المصلحة ، فالأولى أن يُمنع صحّة هذا النقل عن ابن عباس . وذهب بعضُهم إلى أنّ حكم الآية ثابت . والمراد بها : إنّ الذين آمَنوا بأفواهِهم ولم تؤمن قلوبُهم من المنافقين ، واليهود ، والنصارى ، والصابئين إذا آمنوا بعد النفاق ، وأسلَموا بعد العناد ، كان لهم أجرهم عند ربّهم ، كمن آمن في أول استدعائه إلى الإيمان ، من غير نفاق ، ولا عناد ، لأنّ قوماً من المسلمين قالوا : " إنّ من أسلَم بعد نفاقه وعناده كان ثوابُه أنقص ، وأجرُه أقلّ " فأخبَر الله بهذه الآية أنّهم سواء في الأجر والثواب . فصل قوله : { بِاللهِ } متعلّق بقوله : { آمَنُواْ } أي : آمَنوا بتوحيد الله ، وعلْمه ، وقدرته ، وسائر صفاته الكماليّة ، وصفاته التقديسيّة ، وعدله ، وحكمته . وقوله : { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي : بيوم القيامة ، والبعث ، والنشور ، والحساب ، والكتاب ، والجنّة ، والنار ، وقوله : { عَمِلَ صَالِحاً } أي : عمل ما به يصلح لدخول الجنّة ، والقُرب من الله من الطاعات والعبادات . وإنّما لم يذكر ترك المعاصي لأنّ تركها من جملة الأعمال الصالحة . { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي : جزاؤهم معدّ وموجود لهم . وهذا يدلّ على أنّ الأجر والثواب من النتائج اللازمة ، والغايات التابعة ، للإيمان والعمل الصالح ، كما أنّ الألم والعقاب من لوازم الكفر والمعاصي . وقوله : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } مضى تفسيره . وقيل معناه : لا خوف عليهم فيما قدّموا ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا . وقيل : لا خوف عليهم في العُقبى ، ولا هم يحزنون على فوات الدنيا . فصل ما هو الإيمان ؟ إعلم أنّ هذه الآية دالّة على أنّ الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب ، لأنّه تعالى قال : { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ثمّ عطف عليه بقوله : { وَعَمِلَ صَالِحاً } والعطف يدلّ على المغايرة . ومَن حمَل ذلك على التأكيد ، أو الفصل فقد ترك الظاهر بلا حجّة ، وكلّ موضع يذكر فيه أمْر ثمّ يذكر فيه ما يدخل تحته فهو محمولٌ على التوسّع والمجاز . مثل قوله تعالى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] . وغيرهما ولو لم يحمل على المجاز لقلنا : إنّه ليس بداخل في الأوّل . واعلم أنّ من اعتبر في الإيمان عمل الأركان ، كأنّه رأى أنّ الإيمان من لوازمه غالباً إتيان العمل الصالح ، أو أراد بالإيمان الإيمان الظاهري ، فمَن ادّعى الإيمان وترك الصلاة والزكاة والحجّ ، وغيرها فلا يعدّونه من جملة المؤمنين ، لكن الإيمان الحقيقي يمكن أن يتحقّق بدون العمل ، كمن استبصر ، وتنوّر قلبُه بنور العرفان ، وقضى نحبَه مقارناً بإيمانه ، فهو مؤمنٌ عند الله حقّاً .