Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 7-7)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمّا وصفَ الله تعالى الكفارَ بأخصّ صفاتهم التي كانوا عليها ، وهو عدم تأثّرهم عند الانذار والنصيحة ، والتهذيب والتعليم للإيمان ، بيّن في هذه الآية السبب الذي لأجله لا ينجع فيهم الانذار ولا يؤثّر فيهم التعليم ، وهو الختْم على القلوب ، للقساوة والفظاظة الأصليّة ، والغشاوة على الأسماع والأبصار ، للصمم والبكْم الفطريّة . وأنت تعلم أنّ نظام الدنيا لا ينصلح إلاّ بنفوس غليظة ، وقلوبٍ قاسية ، وطبائع جاسية . فلو كان الناس كلّهم سعداء بنفوسٍ خائفة من عذاب الله ، وقلوبٍ خاشعة خاضعة لآياته ، وطبائع لطيفة منفعلة ، لاختلَّ النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ الشداد ، كالفراعنة والدجاجلة ، والنفوس المكّارة كشياطين الانس ، والنفوس البهيمية كجهَلة الكفّار . وفي الحديث الرّباني : إنّي جعلتُ معصيةَ آدم سبباً لعمارة العالَم ، وقال سبحانه : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] . فكون الناس على طبقةٍ واحدةٍ ، ينافي الحكمة والعناية ، وهو إهمال سائر الطبقات الممكنة الوجود في مَكمن الإمكان ، من غير أن تخرج من القوّة الى الفعل ، وخلوّ أكثر مراتب هذا العالَم عن أربابها ، فلا يتمشّى النظام ، ولا تنصلح العمارة إلاّ بوجود الأمور الخسيسة والنفوس الدنيّة المحتاج اليها هذه الدار ، التي يقوم بها أهل الظلمة والحجاب ويتنعّم بها أهل الذلّة والقسوة وسائر الأنعام والدوابّ ، المبعدين عن دار الكرامة والنور ، المطرودين عن عالَم المحبّة والسرور . فوجبَ في العناية الأولى والحكمةِ الكبرى ، التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات ، في الشرف والخسّة ، والصفاء والكدورة ، والعلوّ والدناءة . وثبت بموجب القضاء اللازم النافذ في القدَر المتحتّم ، الحكمُ بوجود السعداء والأشقياء جميعاً ، والمؤمنين والكفار والمنافقين كُلاً . قال بعض المكاشفين : يدخل أهل الدارين ؛ السعداء بفضل الله في دارهم ، وأهل النار بعدل الله فيها ، وينزلون فيهما بالأعمال ، ويخلّدون فيهما بالنيّات . وفي المقام أسرار أخرى تركناها الى مقام آخر . تبصرة [ الختم وقول الأشاعرة فيه ] الخَتْم والكَتْم ؛ أَخَوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتَم عليه كَتْماً له ، والغِشاوة : الغطاء فِعالة من غَشّاه إذا غطّاه . وهذا البناء لِما يشتملُ على الشيء كالعِصابة والعِمامة . واختلف الناس في هذا الختْم ، أما القائلون بالقضاء والقدَر في الكل ، فهو من فعل الله من جهة خصوصيّة بعض القوابل المتخالفة الطبائع والصور كما مرّ ، ولهم قولان : منهم من قال : إنّ الختْم هو خلْق الكفْر في قلوب الكفّار ، ومنهم من قال : خلْق الداعية التي إذا انضمّت الى القدرة ، صار مجموعُ القدرةِ معها سبباً لوقوع الكفر . والحقّ ، أنّ الختم موجودٌ لبعض الكفّار لا للجميع ، وهو بمنزلة طبيعة جبليّة لذلك البعض ، مستحيل الانفكاك عنه ، وتقريره : أنّ الذي يحصل منه الكفر ، إمّا أن لا يكون قادراً على تركه ، أم يكون . فعلى الأول ، كان مبدأ الكفر صفةً لازمة لا من غير اختياره وعلى الثاني كانت نسبة قدرته الى فعل الكفْر وتركه على السواء ، فإمّا أن تكون صيرورتها مصدراً لأحد الطرفين دون الآخر ، يتوقّف على انضمام مرجّح أَوْلا ، وعلى الثاني ، يلزم صدور الممكن من غير مرجّح ، وتجويزه يؤدّي الى القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثّر ، وينسدّ منه باب اثبات الصانع ، وذلك باطل . وعلى الأوّل : إمّا أن يكون المرجّح من فعْل الله ، أو من فعْل العبْد . وعلى الثاني يلزم التسلسل في الأفعال الاختياريّة للعبد ، وهو محال ، وعلى الأول ، وهو كون المرجّح - ولنسمّه الختْم - من فعل الله ، يلزم المطلوب . فنقول : إذا انضمّ ذلك المرجّح الى تلك القدرة ، فإمّا أن يصير صدور الكفر واجباً ، أو جائزاً ، أو ممتنعاً . والأخيران باطلان ، فتعيّن الأول . أما بطلان كونه جائزاً : فلأنّه لو كان جائزاً ، لكان يصحّ صدورُه في وقتٍ وتركُه في وقت آخر . فلنفرض وقوعَه - إذ المفروض جوازه والجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه محال - فذلك المجموع ، تارةً يترتّب عليه الأثر ، وأخرى لا يترتّب عليه ، واختصاص أحد الوقتين بترتّبه عليه ، إمّا أن يتوقّف على انضمام قرينة إليه أوْلا يتوقّف ، فإن توقّف ، كان المرجّح هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة ، لا ذلك المجموع ، والمفروض خلافُه ، هذا خلف . وايضاً ، فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني ، فإنْ توقّف على قيد آخر ، لزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن لم يتوقّف ، حصل ذلك المجموع ، بحيث يكون مصدراً تارةً للأثر ، وأخرى لا يكون كذلك مع انّه لم يتميّز أحد الوقتين بأمر لا يكون في الوقت الآخر عنه ، فيكون هذا قولاً بترجّح الممكن لا عن مرجّح ، وهو محال . فثبت أنّ عند حصول ذلك المرجّح ، يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً ، وأما انّه لا يكون ممتنعاً فظاهر ، وإلاّ لكان مرجّح الوجود مرجّحاً للعدم ، وهو محال . وإذا بطل القسمان فثبت أنّ عند حصول مرجّح الوجود يكون الأثر واجبَ الوجود عن المجموع الحاصل من تلك القدرة ومن ذلك المرجّح . وإذا عرفت هذا ، كان خلْق الداعية موجبةً للكفر ، أو الأمر الجِبِلّي الموجب له ، ختماً على القلب ، ومنعاً عن قبول الإيمان ، فهذا هو السبب الفاعلي ، والذي ذكرنا في الفصل المتقدّم هو السبب الغائي لوجود الخَتْم وأشباهه ، كالطبع والرَّين والغشاوة والصمَم والبكْم وغيرها ، فإنّه تعالى لما حكَم بأنّهم لا يؤمنون ، ذكَر عقيبَه ما يجري مجرى السبب الموجب له ، لأنّ العلم بالعلّة يفيد العلمَ بالمعلول ، والعلمُ بذي السبب لا يكمل إلاّ من جهة العلم بسببه ، فهذا قول من أضاف جميعَ المحدَثات الى الله على ترتيب الأسباب والمسبّبات ، وأمّا الأشاعرة ، فهم بمعزل عن ذكر المرجّح والعلّة ها هنا ؛ لانكارهم القول بالعلّة والمعلول مطلقاً . فصل [ اقوال المعتزلة في المراد من الختم ] وأمّا المعتزلة ، فلمّا لم يجوزوا بناءً على أصولهم خلْق الكفر وما يشبهه وما يستدعيه من قِبَل الله تعالى ، لا يجوز عندهم إجراء هذه الآية على ظاهرها من المنع من الإيمان ، سيّما وقد ذمّ الله كفاراً قالوا : إن على قلوبنا أكناناً وغطاءً وفي آذاننا وقر ، فقد التجأوا الى حمل الختْم والغشاوة على أمور أخرى . قالوا : لأن إسناد الختْم الى الله - مع كونه دالاً على المنع من قبول الحقّ والتوصل اليه بطرقه - إسناد أمر قبيح اليه تعالى ، والله يتعاظَم عمّن فعَل القبيح علوّاً كبيراً ، لعلمه بقُبحه ، وعلمه بغناه عنه ، وقد نصّ على تنزيه ذاته عنه بقوله : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] . { وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] . { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [ الأعراف : 28 ] . ونظائر ذلك . فذكروا في الآية وجوهاً من المحامل والتأويلات : أحدها : القصد الى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها ، وأما إسناد الختْم الى الله ، فللتنبيه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكّنها وثبات قدمها ، كالشيء الخَلْقي غير العرَضي ، ولهذا قال : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 155 ] . ألا ترى الى قولهم : فلانٌ مجبول على كذا ، مفطور عليه ؟ يريدون أنّه بليغٌ في الثبات عليه . وثانيها : إنّه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، والشيطان هو الخاتِم بالحقيقة ، أو الكافر . إلاّ انّ الله تعالى لمّا كان هو الذي أقدَرهم على ذلك ، أُسند اليه الختْم كما يُسند الفعلُ الى المسبّب . قال صاحب الكشّاف : إن للفعل ملابسات شتّى ، يلابس الفاعلَ والمفعولَ به ، والمصدرَ والزمانَ والمكانَ والمسبِّب ، فإسناده الى الفاعل حقيقة ، والى غيره استعارة ، لمضاهاتها الفاعل في ملابسته ، فيقال : عيشةٌ راضيةٌ ، وشعرٌ شاعرٌ ، ونهاره صائمٌ ، وطريقٌ سائرٌ ، وبنى الأميرُ المدينةَ . وثالثها : إنّهم أعرضوا عن التدبّر ولم يصغوا الى الذِكْر ، وكان ذلك عند إيراد الله تعالى الدلائل ، فأضيف ما فَعلوا الى الله تعالى ، لأنّ حدوثَه إنّما اتّفق عند ايراده تعالى دلائله عليهم ، كقوله تعالى في أهل التوراة : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . أي ازدادوا بها كُفر الى كفرهم . ورابعها : أن يكون ذلك حكايةً لِما كان الكفَرةُ يقولونه تهكّماً به في قولهم : { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . ونظيره في الحكاية والتهكّم قوله : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] . وخامسها : إنّ المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله خالية عن الفطن ، أو قلوب مقدّرة ختم الله عليها . ونظيره : سالَ به الوادي : إذا هلك ، وطارت به العنقاء : إذا طالت غيبته . وسادسها : إنّ المراد من الختم من الله على قلوب الكفار ، وهو الشهادة منه عليهم بأنّهم لا يؤمنون ، وعلى قلوبهم بأنّها لا تعي الذكْر ولا تقبل الحقَّ ، وعلى أسماعهم بأنّها لا تُصغي الى الحقّ ، كما يقول الرجل لصاحبه : أُريُد أن يختم على ما يقوله فلانٌ أي يصدقه ويشهد بأنّه حقٌّ ، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنّهم لا يؤمنون ، وأخبر في هذه الآية أنّه قد شهِد بذلك وحفِظَه عليهم . وسابعها : ما قال بعضهم : إنّها جاءتْ في قوم مخصوصين من الكفّار ، فعَل الله بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل ، كما عجّل لكثيرٍ من الكفّار عقوبات في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] . وقال تعالى { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 26 ] . ونحو هذا من العقوبات المعجّلة ، لما علم الله فيها من العبرة للعباد والمصلحة لهم . فيكون من هذا ما فَعل بهؤلاء من الختْم والطبْع . إلا أنّهم إذا صاروا بذلك الى أن لا يفهموا ، سقط عنهم التكليف كسقوطه عمّن مُسخ . وقد أسقط الله التكليفَ عمَّن يعقل بعض العقل كمن قاربَ البلوغ . ولسنا ننكر أن يَخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار ، إذا عِلم أنّ ذلك أصلح لهم ، كما يذهب بعقولهم ويُعمي أبصارَهم ، ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلَّفين . وثامنها : يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة ، وإنّما أخبر عنه بالماضي لتحقّقه وتيقّن وقوعه ، كما قد أخبر أنّه يُعميهم ، قال : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] . وقال : { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] . وقال : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأنبياء : 100 ] . وتاسعها : ما حكوه عن الحسن البصري ، - وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي - : أن المراد بذلك علامةٌ وسِمَةٌ وسم بها قلوبُهم وسمعهم ، يعرفها الملائكة ويعرفونهم بها أنّهم كفار ، فيبغضونهم وينفرون عنهم ، كما لا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامةٌ يَعرف الملائكةُ بها كونَهم مؤمنين عند الله ، كما قال تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] وحينئذ يحبّونهم ويستغفرون لهم ، والفائدة في تلك العلامة ، مصلحةٌ تعود الى الملائكة . وقالوا : وإنّما خصّ السمعَ والقلبَ بذلك ، لأن أحدهما للأدلّة السمعيّة ، والأخرى للعقليّة . وهؤلاء لم يحملوا الغشاوةَ في البصَر أيضاً على معنى العلامة والسِّمة ، كما حمَلوا الختمَ عليه ، محافظة على مقتضى اللغة من غير مانع في الختم ، إذ لا مانع من حمْله على معناه ، بخلاف الغشاوة ، لأنّها الغطاء المانع عن الإبصار ، ومعلومٌ من حال الكفّار خلاف ذلك ، فلا بدّ فيه من حمله على المجاز ، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية . وعاشرها : إنّ أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت ، بحيث لم يبق لهم طريق الى تحصيل ايمانهم سوى الإلجاء والقَسر ، ثمّ لم يقع الإلجاء والقَسْر إبقاءً على غرَضِ التكليف ، عبّر عن تركه بالختْم ، فإنّه سدٌّ لإيمانهم وفيه إشعارٌ على ترامي أمرهم في الغيّ والضلال ، وتناهي انهماكهم في البطلان والوبال . فهذا مجمع ما ذكَروه في هذا المقام . فصل [ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ … ] أكثر المفسّرين على أن قوله : { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } معطوفٌ على قوله : { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } ، وفاقاً لقوله تعالى : { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] , ولِما مرّ من أن الأدلّة السمعيّة لا تستفاد إلاّ من طريق السمع ، والأدلّة العقلية لا تستفاد إلاّ من طريق القلب ، ولأنهما لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب ، جعل ما يمنعهما من خاص فعْلهما ، الختم الذي يمنع من جميع الجهات ، وإدراك الأبصار لما اختصّ بجهة المقابل ، جعل المانع عن فعلها الغشاوة المختصّة بتلك الجهة . والفائدة في تكرير الجار في قوله : { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ، لاستقلال كلّ منهما بالحكم ، ولأنّها لما اعيدت في السمع ، كان أدلّ على شدّة الختم في الموضعين ، وإنّما وحّد السمع للأمن من اللبس ، كما يقال : أتاني برأس كبشين ، وكقوله ( عليه السلام ) : " كُلوا في بعض بطنكم " ولأن السمع مصدر في أصله ، والمصادر لا تجمع ، فُروُعِيَ الأصل ، دلّ عليه جمع الأذُن في قوله : { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصّلت : 5 ] . ووجهٌ ثالث : وهو تقدير مضاف محذوف ، أي وعلى حواسّ سمعهم ، ووجهٌ رابع إنّه محفوفٌ بين الجمعين فيُراد به الجمع أيضاً ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] . { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ } [ ق : 17 ] . وقرأ ابن أبي عبلة : وعلى أسماعهم . والأبصار : جمع بصَر ، وهو إدراك العين ، وقد يطلق على القوّة الباصرة ، وعلى العضو ، كما يطلق العقل - وهو إدراك الكلّيات - على القوّة الناطقة ، وعلى الشخص المحسوس ، وهذا ليس من باب المجاز كما زعموه ، بل لعلاقة اتّحادية بين الفعل والفاعل ، والقوّة وذي القوة ، كما بين العقل والعاقل ، والنفس والبدن ، كما ذهب اليه بعض أعاظم الفلاسفة المسمّى " بفرفوريوس " ، ودلّ عليه كلام استاذه معلم الفلسفة القديمة " أرسطاطاليس " في كتابه الموسوم بمعرفة الربوبيّة . وكذا الكلام في السمع ، حيث يطلق على الإدراك وقوّته ومادّته ، واختلف الناس في كون أيّهما أفضل ، فقيل : السمع ، لأنّ الله حيث ذكرهما ، قدّمه على البصر ، والتقديم علامة التفضيل ، ولأنّه شرط النبوّة بخلاف البصر ، ولهذا ما بُعث نبيٌّ أصم ، وقد كان فيهم مبتلى بالعمى ، ولِما مرّ من كونه متصرّفاً في الجهات دون البصر ، ولأنّه متى بطل ، بطل النطق ، والعين إذا بطلت لم يبطل النطق ، ولأنّ بالسمع تصل نتايج العقول بعضها الى بعض ، فهو كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف ، والبصر لا يوقفك إلاّ على المحسوسات . أقول : وفي هذا الوجه محل نظرٍ ، وكأنّ مراد القائل ، إنّ الواسطة بين السمع والعقل أقلّ ممّا بين البصر والعقل ، فإنّ العقلَ يفهم المعاني من النقوش والكتابة بواسطة دلالتهما على الألفاظ ، ودلالة الألفاظ على الصوَر العقليّة ، ويفهمهما من النقوش السمعيّة لدلالتها على الصوَر العقلية بلا واسطة ، وكأنّ الهواء بما فيه من صور الألفاظ صحيفة مكتوبة يدلّ على المعاني من غير توسط الألفاظ ، لأنّها نفس الألفاظ . وقيل : بأنّ البصر أقدم ، لأن آلة القوّة الباصرة أشرف ، ولهذا يقال لهما : كريمتان . وفي الحديث : " من أحبّ كريمتاه لا يكتبن بالعصر " ، ولأنّ متعلّق القوّة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوّة السامعة هو الريح . أقول : ولأنّ البصر يعمّ إدراكه القريب والبعيد الى فلك البروج ، والسمع لا يتعدّى إدراكه عن كرة البخار ، ولأنّ إدراك البصر دفعيٌّ وإدراك السمع زمانيّ تدريجيّ ، والأول أشرف ، لكونه يشبه إدراك العقل والثاني يشبه الحركة والاستحالة ، ومعلومٌ أنّ العقل أشرف من الحركة ، لأنّه أشرف الجواهر ، وهي أخسّ الأعراض ، والشبيه بالأشرف أشرف من الشبيه بالأخسّ ، فالبصر أشرف من السمع . فصل فيه ذكر مشرقي [ السمع أشرف من البصر ] لعلك كنتَ ناظراً فيما ذكرنا من قبلُ في المفاتيح الغيبيّة ، الفرق بين كلام الله وكتابه ، وانّ احدهما - لكونه من عالَم الأمر والإبداع - أشرف من الآخر - لكونه من عالَم الخلْق والتقدير - . فاعلم أنّ للنفس الإنسانيّة المخلوقة على صورة الكمال ، وهي على بيّنة من ربّها ، كتاباً وكلاماً وهما يدلاّن على كلام الله وكتابه ، يشهدان عليهما ، الكلام على الكلام والكتاب على الكتاب ، وكل منهما غير صاحبه بوجه ، وعينه بوجه آخر ، كما مرّ بيانه . فكلام الحقّ يدرك بالسمع الباطني ، وكتابه يدرك بالبصر الباطني . وأمّا كلام النفس وكتابها ، فهما يدرَكان بهذا السمع وهذا البصر الحسّيين الظاهرين . فإذا تقرّر هذا ، ظهر وجهُ كون السمع أقدمَ من البصَرِ في الشرف والفضيلة ، ولهذا قُدّم ذكرُه على ذكر البصر في القرآن كما مرّ . وممّا يزيدك استيضاحاً ، أنّ النفس الإنسانيّة متى استيقظت من نوم الجهالة وسِنَة الغفلة ، وتجاوزت حدودَ البهيميّة ، فأول ما أدركته هو العدد ، وبه صارت عادّةً ماسِحة ، والعددُ والمساحة من الخواصّ الشاملة للنفس الناطقة ، لارتفاع الملائكة العقليّة عنها ، وانحطاط النفوس الحيوانيّة عن نيلها . فالنفس الآدمية هي العادّة الماسحة ، كما تقرّر عند القوم ؛ فهي في بداية أمرها عرفت مراتبَ العددِ ، لتَعلم بها مراتب الملكوت الباطنة ، ولكلّ مرتبة منها اسم يخصّه ، فتولّدت من مراتب العدد أساميها ، لكن بحكم أنّ الكلام إنّما يتأتّى من جهة السمع ، فالحروف والأصوات صارت محصّلة لتلك الأسامي تحصيل البسيط للمركب ، فكما أنّ الأسامي المركّبة دالّة على أشخاص وأعداد مركّبة ، سواء كان في عالَم الحسّ كزيد وعمروٍ ، أو في عالم العقل كالمعقول من الإنسان ، والفرس والياقوت والعسل وغيرها ، فكذا الحروفُ المبسوطة ، دالةٌ على أعداد بسيطة ، كالعقل والنفس والطبيعة والهيولىٰ . وأسبق الحروف هي حروف المدّ سيّما الألف ، فلذلك صارت حرف أول الموجودات البسيطة الذوات ، ثمّ تحصل المركّبات من هذه البسائط ، كما تتألّف الأسامي من الحروف الوحدان ، وأسامي المفردات وأرقامها من أرقام المفردات بتركيب مفردات كلّ من هذه العوالم العقليّة العدديّة ، والسمعيّة اللفظيّة ، والحسيّة الرقميّة . فالأعداد دلائل على عالَم العقل ، والحروف بأصواتها دلائل على عالَم المثال البرزخي ، والأرقام الماديّة دلائل على عالَم الحسّ والشهادة . فالعدد وجوده في لوح النفس ، والحروف وجودها في صحيفة الهواء النفسي المتحرّك بسبب قوة التكلّم ، وإنّما يدركها السمع لا البصَر . والبصَر يدرك نقوشاً كتابية للحروف والأسامي الدالّة عليها ، وعلى ما في النفس ، فللأشياء وجود في النفس ، ووجود في النَّفَس الإنساني ، وهو الهواء اللطيف الخارج من باطنه ، بإزاء النَّفَس الرحماني المبعث من فيض وجود الحقّ ، المنبسط على هياكل الماهيات وصحائف القابليّات ، ووجودٌ في الكتابة . فالأول ليس بمداخلة وضع وتعمّل ، بخلاف الأخيرين ، والأول قول النفس ، والثاني كلامها والثالث كتابها . فعلى ما قرّرنا من المقدمات ، ثبت أنّ الكلام أشرف من الكتابة ، كما أنّ القول أشرف من الكلام ، فقد تحقّق وتبيّن أنّ السمع أشرف من البصر . فصل [ اللغة والقراءة ] ذكر صاحب الكشّاف : قرأ " غِشاوةً " بالكسر والنصب ، و " غُشاوةٌ " بالضم والرفع ، و " غَشاوةً " بالفتح والنصب ، و " غِشوةٌ " بالكسر والرفع ، و " غَشوةٌ " بالفتح والرفع والنصب ، و " عشاوةٌ " بالعين غير المعجمة والرفع من " العشاء " . والغشاوة : هي الغطاء ، ومنه الغاشية ، ومنه غشي عليه ، أي زال عقله ، والغشيان : كناية عن الجماع . والعذاب : مثل النكال بناء ومعنىً ، لأنك تقول : أعذَبَ عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول : نكل عنه ، ومنه العَذْب ، لأنه يقمع العطش ويردعه ، بخلاف المِلْح فإنّه يزيده ، ويدلّ عليه تسميتهم إيّاه نُقاخاً لانه ينقخ العطش ، أي : يكسره ، وفُراتاً ، لأنه يرفته عن القلب . ثمّ اتّسع فيه فسمّي كل ألَم قادحٍ عذاباً ، وإن لم يكن نكالاً ، أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة . والفرق بين العظيم والكبير : أنّ العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكأن العظيم فوقَ الكبير ، كما أنّ الحقير دون الصغير ، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا تقول : رجلٌ عظيمٌ وكبيرٌ ، تريد جثّته أو خطره ، ومعنى التنكير : أنّ على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوعٌ عظيم لا يعلم كنهه إلاّ الله . فصل [ عذاب الكفّار وخلودهم في النار ] اتّفق أهل الإسلام ، على أنّه يحسن من الله تعذيب الكفّار وقال بعضهم : لا يحسن ، أمّا الفرقة الأولى ، فمستندهم ادلّة سمعيّة كالكتاب والخبر والإجماع ، وأمّا الفرقة الثانية فمستندهم دلائل عقليّة . الأول : انّه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي ، وذلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق ، لما مرّ من أنّ الناس لو كانوا كلّهم صلحاء مؤمنين خائفين من عقاب الله ، لاختلّ نظام الدنيا ، وبطلت أسباب المعيشة ، ولِما بيّنا انّ صدور الفعل عن قدرة العبد ، يتوقّف على انظمام الداعية من العلم والإرادة وغيرها ، وبعد انضمام الداعي يجب صدور الفعل ، وحصول الداعي ليس بقدرته ، وإلاّ لكان للداعي داعٍ آخر ، ويعود الكلام جذعاً فيتسلسل ، وهو محال ، أو ينتهي الى داعٍ حصل بخَلق الله لا بقدرة العبد ، فإذاً كان الله هو الخالق للدواعي الشيطانيّة التي توجب المعاصي ، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها . وربما قرّروا هذا بوجه آخر وقالوا : إذا كانت التكاليف الشرعيّة قد جاءت الى شخصين ، فقبلها أحدهما فأُثيب ، وخالفها الآخر فعوقِبَ ، فإذا سُئِل : لِمَ أطاع هذ وعصى الآخر ؟ فيجاب : لأنّ المطيعَ أحبَّ الثواب وحذر العقاب ، والعاصي لم يحبّ ولم يحذر ، أو لأن هذا أصغىٰ الى مَن وعظه وفهم عنه مقالته ، فأطاع ، وهذا لم يصغ ولم يفهم ، فعَصىٰ . فيقال : ولِم أحبّ الخير هذا وأصغى وفهم ، ولم يكن الآخر كذلك ولم يفهم ؟ فيجاب : لأنّ هذا حازمٌ لبيبٌ فطِنٌ ، وذاك أخرقُ جاهلٌ غبيٌ . فيقال : ولِم خُصّ هذا بالعقل والفِطنة دون ذاك ؟ ولا شكّ أنّ الفطنة والبَلادة من الأحوال الغريزيّة ، فإذا تناهت التعليلات الى أُمور خلَقها الله اضطراراً ، فعلم أنّ سبب الطاعة والعصيان ، والتوفيق والحرمان ، من الأشخاص ، أمور واقعة عليها بقضاء الله وتقديره . وعند هذا يقال : أين من العدل والرحمة أن يخلق في عبد من الفظاظة والقساوة والغباوة والطيش والخُرق ما يوجب عنه صدور العصيان ، ثمّ يعاقب عليه ، وهذه مما هو مجبولٌ عليه ، كما جُبل على أضدادها الطائع . وأين من العدل أن يسخّن قلب العاصي ويقوّي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ، ولا يرزقه ما يرزق المطيع من أستاذ سليم ، ومؤدب عليم ، وواعِظ مبلّغ ، وناصحٍ شفيق ، بل يقيّض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم ، فيكتسب منهم ما يكسبه المطيع ، ثمّ يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيبَ الحازم العالم ، البارد طبيعة الراس ، الصبور ، المعتدل مزاج القلب ، الزكي ، اللطيف الروح ، الدرّاك ، يقظان النفس ، الحازم . ما هذا من العدل والكرم والرحمة ، فثبت بهذا أن القول بالعقاب على خلاف قضيّة العقول . الثاني : أنّ التعذيب في الآخرة ضررٌ خالٍ من جهات المنفعة ، أمّا أنّه ضرر فظاهر ، وأما انّه خالٍ عن جهات النفع ، فلأن تلك المنفعة إمّا عائدةٌ الى الله او الى غيره ، والأول باطل ، لتعاليه عن وَسمة التغيّر والانفعال . والثاني أيضاً باطل ، لأنها إمّا عائدة الى المعذَّبِ ، أو الى غيره ، أما اليه فهو محال ، لأنّ الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما الى غيره فهو محال ، لأنّ دفع الضرر أولىٰ بالرعاية من ايصال النفع ، فايصال الضرر الى شخص لغرَض ايصال النفع الى آخر ترجيحٌ للمرجوح على الراجح ، وهو باطلٌ . وأيضاً ، فلا منفعة يريد الله ايصالها الى أحد إلاّ وهو قادر عليه بوجوه شتّى ، فالإضرار عديم الفائدة . فثبت أنّ التعذيب ضررٌ خال عن جميع جهات المنفعة ، وأنّه معلوم القُبح بديهةٌ ، بل قُبحه أجلى في العقول من قُبح الكذب الغير الضارّ ، والجهل الغير الضارّ ، بل من قُبْح الكذب الضارّ والجهل الضارّ ؛ لأنّ الكذب الضارّ وسيلة الى الضرر ، وقُبْح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر . وإذا ثبت قُبح التعذيب ، امتنع صدوره من الله تعالى ، لأنّه حكيمٌ ، والحكيم لا يفعل القبيح . الثالث : انّه كان عالماً بأنّ الكافر لا يؤمن ، كما اخبر عنه في الآية السابقة ، فمتى كُلِّف لم يظهر منه إلاّ العصيان ، وهو يكون سبباً للعقاب فكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العذاب ، أمّا لأنه تمام العلّة ، أو لأنّه شطرها . فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً لكونه مستعقباً للضرر الخالي عن النفع ، والحكيم لا يفعل القبيح ، فوجب أحد الأمرين : إما عدم التكليف أو عدم العقاب وعلى أيّهما فالمطلوب حاصل . الرابع : إنّه سبحانه ، إنّما كلّفنا النفع لعوده إلينا ، لأنّه تعالى قال : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] . فإذا عصينا فقد فوّتنا على أنفسنا تلك المنافع ، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول : إني أعذّبك العذاب الشديد لأنك فوّتَ على نفسك بعض المنافع ، فإنّه يقول له : إنّ تحصيل النفع مرجوح بالنسبة الى دفع الضرر ، فهبْ انيّ فوّت على نفسي أدْوَنَ المطلوبين ، فأنت تفوِّت عليَّ لأجل ذلك أعظمها ، أو هل يحسن من السيّد أن يأخذ عبده ويقول : إنّك قدرتَ على أن تكتسب ديناراً لنفسك لتنتفع به خاصّة من غير أن يكون لي فيه شيء ألبتّة ، فلمّا لم تفعل ، فأنا أعذّبكَ وأقطع اعضاءك إرباً إرباً . لا شكّ أنّ هذا نهاية السفاهة ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين ؟ ! ثمّ قالوا : هبْ أنّا سلّمنا هذا العقابَ ، فمن أين القول بالدوام ، وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدّهم غلظةً وبُعداً عن الخير والرحمة ؛ إذا أخذ من بالَغ في الإساءة إليه عذّبه يوماً أو شهراً أو سَنةً ، ثم إنّه يشبع منه ويملّ ، ولو بقي مواظباً عليه يلومه كلّ أحد ويقال : هبْ أنّه بالَغ في الإساءة والإضرار بك ، ولكن الى متى هذا التعذيب ؟ فإمّا أن تقتله وتريحه ، وإمّا أن تخلصه ، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذّ بالانتقام ، فالغني عن الكلّ كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال ؟ ! الخامس : أنّه تعالى نهى عبادَه من استيفاء الزيادة ، فقال تعالى : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] . { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . ثمّ إنّ العبد هبْ أنّه عصى طولَ عمره ، فأين عمره من الأبد ، فيكون العذاب المؤبد ظلماً ؟ السادس : إنّ العبد لو واظَب على الكفر طولَ عمره فإذا تابَ ثمّ مات ؛ عفى الله عنه وأجاب دعاءَه وقبل توبتَه . أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو عقول اولئك المعذَّبين ما بقيت ، فلِمَ يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلِمَ لا يقبل الله توبتَهم ؟ ولِمَ لا يسمع دعاءَهم ولِمَ يخيّب رجاءَهم ، ولِمَ كان في الدنيا في الرحمة والكرم الى حيث قال : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] . { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] . وصار في الآخرة بحيث كلّما كان تضرّعهم إليه أشدّ ، فانه لا يخاطبهم إلاّ بقوله : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ؟ ! قالوا : فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب . واعلم أنّ أكثرها مبنيّة على أصول المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلييّن ، وأنّ الأصلح واجبٌ على الله ، ولا محيص لهم عنها من جهة العقل . والأشاعرة أجابوا عن هذه الشُّبه بمنع صحّة تلك الأصول ، وبما تواتر من الآيات والأخبار المنقولة من الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، الورادة في باب خلود الكفّار في عذاب النار . وأما على أصولنا الحكميّة الإيمانية ، فالجواب عنها بما مرّ من أن العقوبة إنّما لحق الكفار ، لا من جهة انتقام منتقِمٍ خارجي ، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرَض ، حتى يرد السؤال في الفائدة وعدم الفائدة او في كون المنفعة عائدة إليه تعالى أو الى العبد ، بل العقوبةُ إنّما تلحقهم من باب اللوازم والتبعات والنتايج والثمرات ، فهذا هو الجوابُ بحسب الأصول الحقّة عن الإشكال الوارد على أصل العقاب . وأمّا الإشكال الوارد على دوام العذاب وأبديّته للكفار ، فوروده من جهة أخرى غير جهة التحسين والتقبيح ، فلذلك كان موجب تحيّر الحكماء ودهشة أفاضل العرفاء ، حتّى أنّ الشيخ العارف السبحاني محيي الدين الأعرابي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي قدّس سرهما ، صرّحا القول بانتهاء مدّة العقاب وعدم تسرمد العذاب ، وتبعهما غيرهما من شرّاح الفصوص ومن يحذو حذوهم . قال في الفص الإسماعيلي : " الثناء بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلٰهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] . ولم يقل : ووعيده : بل قال : { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [ الأحقاف : 16 ] مع انّه توعّد على ذلك . وقال في الفصّ اليونسي من فصوص الحكم بعدما بيّن فضيلة الإنسان وشرفه بهذه العبارة : " ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر الحق به ، ويكون الحقّ جليس ذلك الجزء ، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ، وما يتولّى الحقّ هدم هذه النشأة بالمسمّى موتاً ، فليس بإعدام ، وإنّما هو تفريقٌ ، فيأخذ اليه وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ اليه ، واليه يرجع الأمر كلّه ، فإذا أخذه الحقّ اليه ، سوّى له مركباً من جنس الدار التي ينتقل اليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال ، فلا يموتُ أبداً ، أي لا تفترق أجزاؤه ، وأما أهل النار ، فمآلهم الى النعيم ، ولكن في النار ، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العذاب أن تكون برْداً وسلاماً على مَن فيها ، وهذا نعيمُهم ، فنعيمُ أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيمُ خليل الله ( عليه السلام ) حين ألقي في النار " - انتهى . وقال في الباب الثامن والخمسين " وأمّا كتاب الفجّار ففي سجّين ، وفيه أصول السِّدرة التي هي شجرة الزقّوم فهناك تنتهي أعمال الفجّارْ في أسفل السافلين ، فإن رَحِمَهم الرحمٰن من عرش الرحمانيّة بالنظرة التي ذكرناها ، جعل لهم نعيما في منزلهم فلا يموتون فيه ولا يحيون ، فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور ، وربما يكون في فراشه مريضاً ذا بؤس وفقْر ، ويرىٰ نفسه في المنام ذا سلطان ونَعمة وملك . فإن نظرتَ الى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذّ به ، قلتَ : إنّه في نعيم وَصَدَقْتَ ، وإن نظرتَ إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشِن ومرضه وبؤسِه وفقره وكُلُومه ، قلت : إنّه في عذاب . هكذا يكون أهل النار ، ( لا يموت فيها ولا يحيى ) أي لا يستيقظ أبداً من نومته ، فتلك ( هي ) الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها ، كالمحرور منهم يتنعم بالزمهرير ، والمقرور منهم يُجعل في الحَرور . وقد يكون عذابهم توهّم وقوع العذاب بهم ، وذلك كلّه بعد قوله : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ الزخرف : 75 ] ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمةُ التي سبقت الغضب الإلٰهي ، فإذا اطّلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلَهم في النار ، وما أعدّ الله فيها ، وما هي عليه من قُبح المنظَر ، قالوا : معذَّبون ، وإذا كوشفوا على الحسن المعنوي الإلٰهي في خلق ذلك المسمى قُبحاً ورأوا ما هم فيه من نومتهم ، وعلموا أحوال أمزجتهم ، قالوا : منعَّمون ، فسبحانه القادر على ما يشاءُ ، لا إلٰه إلاّ هو العزيزُ الحكيم ، فقد فهمت قول الله تعالى : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] . وقول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " أمّا أهل النار الذين هم أهل فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون " انتهى . وقال في الباب الثامن والخمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكيّة : اعلم - أسعدنا الله وإيّاك بسعادة الأبد - أنّ النفس الناطقة سعيدةٌ في الدنيا والآخرة ، لا حظّ لها في الشقاء ، لأنّها ليست من عالَم الشقاء ، إلاّ انّ الله ركبها هذا المركب البدني المعبَّر عنه بالنفْس الحيوانيّة ، فهي لها كالدّابة ، وهي كالراكب عليها ، وليس للنفْس الناطقة في هذا المركب الحيواني إلاّ المشي بها على الصراط المستقيم الذي عيّنه لها الحقّ ، فإن أجابت النفس الحيوانيّة لذلك ، فهي المركَب الذَّلول المرتاض ، وإن أبتْ ، فهي الدابّة الجَموح ، كلّما أراد الراكبُ أن يردّها الى الطريق ، جمَحت وحَرَنَت عليه ، وأخذت يميناً وشمالاً لقوّة رأسها ، وسوء تركيب مزاجها . فالنفس الحيوانيّة ، ما تقصد المخالفة ولا تأتي المعصية انتهاكاً لحرمة الشريعة ، وإنّما تجري بحسب طبعها ، لأنّها غير عالمة بالشرع ، واتّفق انّها على مزاج لا يوافق راكبها على ما يريد منها . والنفس الناطقة ، لا يتمكن لها المخالفة ، لأنّها من عالَم العصمة والأرواح الطاهرة ، فإذا وقع العقاب يوم القيامة ، فإنّما يقع على النفس الحيوانيّة ، كما يَضربُ الراكب دابّته إذا جَمَحَت وخرجت عن الطريق الذي يريد صاحبها أن يمشي بها عليه . ألاَ ترى الحدودَ في الزنا والسرقة والافتراء ، إنّما محلّها النفس الحيوانيّة البدنيّة ، وهي التي تحسّ بألم القتل وقطع اليَد وضرب الظَّهر ، فقامت الحدود بالجسم ، وقام الألم بالنفس الحسّاسة الحيوانيّة التي يجتمع فيها جميع الحيوان المحسّ للآلام . فلا فرق بين محلّ العذاب من الإنسان ، وبين جميع الحيوان في الدنيا والآخرة . والنفس الناطقة على شرفها مع علمها في سعادتها دائمةٌ ، ألا ترى أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قد قام لجنازة يهوديٍّ فقيل له : إنّها جنازةُ يهودي ؟ ! فقال : أليست نَفْساً فما علّل بغير ذاتها ، فقام إجلالاً وتعظيماً لشرفها ومكانتها . وكيف لا يكون لها الشرف وهي منفوخة من روح الله ، فهي من العالَم الأشرف الملكي الروحاني ، عالَم الطهارة . فلا فَرْق بين النفس الناطقة الموجودة لكل أحد ، وانّها ما عصتْ ، وإنما النفس الحيوانيّة ما ساعدتها على ما طلبت منها ، وانّ الحيوانيّة خوطبت بالتكليف فتتّصف بطاعة أو معصية . فاتّفق أن كانت جموحاً اقتضاه طبعها لمزاج خاصّ ، فاعل ذلك . وان الله يعمّ برحمته الجميع لأنّها سبقت غضبه لما تجاريا الى الانسان " انتهى كلامه . وقال في الباب الخامس وثلثمائة من الفتوحات أيضاً : واعلم أنّ من الأحوال التي هي الأمّهات من هذا الباب … أحوال الفطرة التي فطَر الله الخلَق عليها ، وهو أن لا يعبدوا إلاّ الله ، كما قال : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله ، فما جعلوا مع الله مسمّى آخر هو الله بل ، جعلوا آلهة على طريق القربة الى الله ، ولهذا قال : { قُلْ سَمُّوهُمْ } [ الرعد : 33 ] ، فإنّهم إذا سمّوهم بانَ أنّهم ما عبَدوا إلاّ الله ، فما عبَد عابدٌ إلاّ الله في محل الذي نصب الألوهيّة له ، فصحَّ بقاء التوحيد لله الذي أقرّوا به في الميثاق ، وانّ الفطرة مستصحبة . والسبب في نسبة الألوهيّة لهذه الصوَر المعبودة ؛ هو أنّ الحقّ لمّا تجلّى لهم في أخذ الميثاق ، تجلّى لهم في مظهَر من المظاهر الإلٰهيّة ، فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصوَر . ومن قوّة بقائهم على الفطرة ، أنّهم ما عبدوه على الحقيقة في الصوَر ، وإنّما عبَدوا الصوَر لِمَا تخيّلوا فيها من رتبة التقرّب كالشفعاء ، وهاتان الحقيقتان إليهما مال الخلْق في الدار الآخرة ، وهما الشفاعة والتجلّي في الصور على طريق التحوّل . فإذا تمكّنت هذه الحالة في قلب الرجل ، وعرف من العلم الإلٰهي ما الذي دعى هؤلاء الذين صفتُهم هذا وانّهم تحت قهر ما إليه يؤولون ، تضرّعوا الى الله في الدياجير ، وتملّقوا له في حقّهم وسألوه أن يدخلهم في رحمته إذا أخذَتْ منهم النقمةُ حدَّها ، وإن كانوا عمّار تلك الدار فيجعل لهم فيها نعيماً به إذا كانوا من جملة الأشياء التي وسعتهم الرحمةُ العامّة ، وحاشى الجنابُ الإلٰهي من النقمة وهو القائل بأنّ رحمتَه سبقتْ غضبَه ، فلحق الغضبُ بالعدم فإن كان شيئاً فهو تحت إحاطة الرحمة الإلٰهيّة الواسعة . وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ الأنبياء ( عليهم السلام ) يوم القيامة إذا سُئلوا في الشفاعة قالوا : إنّ الله قد غضب اليومَ غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " ، وهو من أرجى حديث يُعتمد عليه في هذا الباب أيضاً ، فإنّ اليومَ المشار اليه - وهو يوم القيامة - هو يوم قيام الناس من قبورهم لربّ العالمين ، وفيه يكون الغضبُ من الله على أهل الغضب ، وأعطى حكم ذلك الغضب الأمر بدخول النار ، وحلول العذاب والانتقام من المشركين وغيرهم من القوم الذين يخرجون بالشفاعة ، والذين يُخرجهم الرحمن كما ورد في الصحيح ، ويُدخلهم الجنّة إذا لم يكونوا من أهل النار - الذين هم أهلها - ولم يبق في النار إلاّ أهلها الذين هم أهلها ، فعمّ الأمر بدخول النار كلّ من دخل فيها من أهلها ومن غير أهلها لذلك الغضب الإلٰهي الذي لن يغضب مثله بعده ، فلو سرمدَ عليهم العذابَ لكان ذلك عن غضب أعظم من غضب الأمر بدخول النار . وقد قالت الأنبياء : إن الله لا يغضبُ بعد ذلك مثل ذلك الغضب ، ولم يكن حكمُه إلاّ الأمر بدخول النار ، فلا بدّ من حكم الرحمة على الجميع ، ويكفي من الشارع التعريف بقوله : " وَأما أهل النار الذين هم أهلها " ولم يقل أهل العذاب . ولا يلزم من كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا معذَّبين بها ، فإنّ أهلَها وعمّارها مالك وخزنتها ، وهم ملائكة ، وما فيها من الحشرات والحيّات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة - ولا واحد منها يكون النار عليه عذاباً - كذلك مَن يبقى فيها ، لا يموتون فيها ولا يحيون ، وكلّ من ألِف موطنه كان به مسروراً ، وأشدّ العذاب مفارقة الوطن ، ولو فارقَ النار أهلُها ، لتعذّبوا باغترابهم عمّا أُهِّلوا له ، وأنّ الله قد خلقَهم عل نشأة تألف ذلك الموطن . فعمّرت الداران ، وسبقت الرحمةُ الغضبَ ، ووسِعتْ كلَّ شيءٍ - جهنم ومن فيها - والله أرحم الراحمين كما قال في نفسه . وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جَبَلهم الله على الرحمة ، أنّهم يرحمون جميعَ عباد الله ، حتّى لو حكّمهم الله في خلْقه لأزالوا صفة العذاب من العالَم ، ممّا تمكّن حكمُ الرحمةِ من قلوبهم ، وصاحب هذه الصفةَ أنا وأمثالي - ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض - وقد قال عن نفسه جلّ علاؤه : انَّه ارْحَمُ الرَّاحِمين ، فلا يشك أنّه أرحم منّا بخلقه ، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة فكيف يتسرمد العذابُ عليهم وهو بهذه الصفة العامة ؟ إنّ الله أكرمُ من ذلك ، ولا سيّما وقد قام الدليلُ العقليّ على أنّ الباري لا تنفعه الطاعات ولا تضرّه المخالفات ، وأنّ كلّ شيء جارٍ بقضائه وقدَره وحكمِه ، وأنّ الخلْقَ مجبورون في اختيارهم . وقد قام الدليل السمعي على أنّ الله يقول في الصحيح : " يا عبادي " فأضافهم الى نفسه ، وما أضاف قطُّ العبادَ الى نفسه إلاّ مَن سبقت له الرحمة ، وأن لا يؤبد عليهم الشقاء فقال : " يا عبادي ، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً " . فقد أخبرَ بما دلّ عليه العقل ، أنّ الطاعات والمعاصي ملكه ، وأنّه على ما هو عليه لا يتغيّر ولا يزيد ولا ينقص ملكه مما طرأ عليه وفيه ، فإنّ الكلّ مُلكه ومِلكه . ثم قال من تمام هذا الخبر الصحيح : يا عبادي ، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كلّ واحد منكم مسألتَه ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً . الحديث . وما نشكّ انّه ما من أحد إلاّ وهو يكره ما يؤِلمه طبعاً ، فما من أحدٍ إلاّ وقد سأله أن لا يؤلمه ، وأن يعطيه اللذّة في الأشياء ، ولا يقدح ما أومأنا اليه في الحديث إذا تعلّق به المنازع في المسألة إدخال " لو " في ذلك ، فإنّ السؤال من العالم قد عُلم وقوعه بالضرورة من كلّ مخلوق ، فإنّ الطبع يقتضيه ، والسؤال قد يكون قولاً ، وحالاً ، كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسّي بالوجع أو الألم النفسي لمخالفة الغرَض إذا مُنِع من الثدي ، وقد أخذت المسألة حقّها . والأحوال التي ترِدُ على قلوب الرجال لا تحصىٰ كثرته ، وقد أعطيناك منها في هذا الباب أنموذجاً على هذا الأسلوب " . انتهى كلامه . وقال العلاّمة القيصري في شرح الفصّ الهودي من الفصوص : اعلم أنّ من اكتحلت عينُه بنور الحقّ ، يعلم أنّ العالَم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجودٌ وصفةٌ وفعْل إلاّ بالله وحولِهِ وقوّته ، وكلهم محتاجون الى رحمته ، وهو الرحمن الرحيم ، ومن شأن من هو موصوفٌ بهذه الصفات ، أن لا يعذّب أحداً عذاباً أبديّاً ، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضاً إلا لأجل ايصالهم الى كمالاتهم المقدَّرة لهم ، كما يُذاب الذهبُ والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره ، وهو متضمّن لعين اللطف والرحمة كما قيل : @ وتعذيبكم عذبٌ وسخطكم رِضىً وقطْعكم وصلٌ وجوركم عدلُ @@ والشيخ - رضي الله عنه - إنّما يشير في أمثال المواضع ، الى ما فيه من الرحمة الحقّانية ، وهو من المطّلعات المدرَكة بالكشف ، لا انّه ينكر وجودَ العذاب وما جاءَت به الرسلُ من أحوال جهنّم ، فإنّ من يبصر بعينه أنواعَ التعذيب في النشأة الدنيوية بسبب الأعمال القبيحة ، كيف ينكر في النشأة الأخرويّة ، وهو من أكبر ورثة الرسل صلوات الله عليهم ، فلا ينبغي أن يسيء أحدٌ ظنّه في حق الأولياء الكاملين الكاشفين لأسرار الحقّ بأمره " . انتهى . وقال في موضع آخر من شرحه للفصوص : اعلم أنّ المقامات الكليّة الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاثة ، وإن كان كلٌّ منها مشتملاً على مراتب كثيرة لا تُحصى وهي : الجنّة والنار ، والأعراف الذي بينهما ، على ما نطَق به الكلام الإلٰهي . ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام لأنهم رعاياه ، وعمارة الملك بهم ، والوعْد شامل للكلّ ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا الى كماله المعيَّن له أزلاً ، فكما أنّ الجنّة موعود بها ، كذلك النار والأعراف موعود بهما . والإيعاد أيضاً شامل للكلّ ؛ فإنّ أهل الجنة إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق ، قال تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] . والجاذب : المناسبة الجامعية بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء ، والسائق : هو الرحمن بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن . كما ان الجاذب الى النار : المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها ، والسائق : الشيطان ، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعَّد بها . والوعيد : هو العذاب الذي يتعلّق بالاسم المنتقِم ، وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير . لأن أهل النار إما مشركٌ أو كافرٌ أو منافقٌ أو عاصٍ من المؤمنين ، وهو ينقسم بالموحّد العارف الغير العامل والمحجوب . وعند تسلّط سلطان المنتقِم عليهم ، يتعذّبون بنيران الجحيم كما قال تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] وَقَالُوا : { يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] . { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 86 ] وقال : { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] . { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] . فلما مرّت عليهم السِنون والأحقاب ، واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان ، قالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] فعند ذلك تعلّقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب . مع أن العذاب بالنسبة الى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها ، عذبٌ من وجه ، وإن كان عذاباً من آخر كما قيل : وتعذيبكم عذبٌ - البيت . لأنه يشاهد المعذِّب في تعذيبه ، فيصير التعذيب سبباً لشهود الحقّ ، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقّه . وبالنسبة الى المحجوبين الغافلين عن اللّذات الحقيقة أيضاً ، عذْبٌ من وجهٍ ، كما جاء في الحديث : إنّ بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار . والملاعبة لا تنفكّ عن التلذّذ وإن كان معذّباً ، لعدم وجدانه ما آمن به من جنّة الأعمال التي هي الحُور والقصور . وبالنسبة الى قوم يطلب استعدادهم البُعدَ من الحقّ والقربَ من النار - وهو المعنيُّ بجهنم - أيضاً عذبٌ وإن كان في نفس الأمر عذاباً ، كما يشاهد ها هنا ممّن تقطع سواعدهم وترمى أنفسهم من القلاع مثل بعض الملاحدة . وقد شاهدتُ رجلاً سُمِّر في أصول أصابع إحدى يديه خمسةُ مسامير ، غلظ كلّ مسمارٍ مثل غلظ القلم ، واجتهد المسمِّر ليخرجه من يده فما رضِيَ بذلك ، وكان يفتخر به وبقيَ على حاله الى أنّ استدركه الأجل . وبالنسبة الى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص وإن كان أليماً لإدراكهم الكمال وعدم إمكان وصولهم إليه ، ولكن لما كان استعداد نقصهم أغلب ؛ رضَوا بنقصانهم ، وزال عنهم تألّمهم بعد انتقام المنتقِم منهم بتعذيبهم ، وانقلب العذاب عذْباً ، كما يشاهدَ ممّن لا يرضى بأمر خسيس أولاً ، ثم إذا وقع فيه وابتلي به وتكرّر صدورُه منه ، تألّف به واعتادَ فصار يفتخرُ به بعد أن كان يستقبحه . وبالنسبة الى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات ، فينتقم منهم لكونهم حصروا الحقّ في ما عبدوه ، وجعلوا الإلٰه المطلق مقيّداً ، وأمّا من حيث انّ معبودهم عين الوجود الحقّ الظاهر في تلك الصورة ، فما يعبدون إلاّ الله ، فرضي الله عنهم من هذا الوجه ، فينقلب عذابهم عذباً في حقهم . وبالنسبة الى الكافرين أيضاً ، وإن كان العذاب عظيماً ، لكنهم لم يتعذّبوا به لرضاهم بما [ هم ] فيه ، فإنّ استعدادهم يطلب ذلك كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه ، وعِظَم عذابه بالنسبة الى من يعرف انّ وراء مرتبتهم مرتبة ، وانّ ما هم فيه عذابٌ بالنسبة إليها . وأنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث إنّه عذاب ، لانقطاعه بشفاعة الشافعين ، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين ، كما جاء في الحديث الصحيح ، ولذلك ينبت الجرجير في قعر جهنّم لانطفاء النار وانقطاع العذاب ، وبمقتضى " سبقتْ رحمتي غضبي " فظاهر الآيات التي جاءت في حقّهم بالتعذيب ، كلّها حقٌّ ، وكلام الشيخ لا ينافي ذلك ، لأنّ كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عذْباً . وإنّما بسطتُ الكلام لئلا ينكر على هذا الخاتَم المحمدي فيما أخبر ، فإنّ الأولياء - رضوان الله عليهم - ما يخبرون إلاّ ما يشاهدونه يقيناً من أحوال الاستعدادات في الحضرة العلميّة ، وعوالم الأرواح والأجساد ، لعلْمهم بالحقائق وصوَرها في كل عالَم . والله أعلم " انتهى كلامه بألفاظه . وممّا يدل أيضاً على نفي تسرمد العذاب ، حديث : سيأتي على جهنّم زمانٌ ينبت في قعرها الجرجير ، وذكر البغوي المشهور بمحيي السُنَّة ، في معالم التنزيل ، في تفسير قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } [ هود : 108 ] أنه قال ابن مسعود : ليأتينّ على جهنّم زمانٌ ليس فيها أحدٌ ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً . فصل [ احتجاجات القائلين بالخلود في النار والنافين له ] واعلم أنّ القائلين بنفي تخليد الكفّار في العذاب ، زعموا أن لا دليل يفيد القطع واليقين في تخليدهم في العذاب ، أما التمسك بالدلائل اللفظيّة ، فلا يفيد اليقين ، بل يفيد الظنّ . والدلائل العقليّة في مقابلها تفيد اليقين ، والمظنون كيف يعارض المقطوع ؟ وإنّما قلنا : " إنّ الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين " لأنها مبنيّة على أصول كلّها ظنيّة ، والمبنيّ على الظني لا يكون إلا ظنيّاً . وإنّما قلنا إنّها ظنية ، لأنها مبنيّة على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف . ورواةُ هذه الأشياء لا يُعلم بلوغُهم الى حدّ التواتر ، فكانت روايتهم مظنونة . وأيضاً ، فهي مبنيّة على عدم الاشتراك ، وعدم التخصيص ، وعدم الاضمار بالزيادة والنقصان ، وعدم التقديم والتأخير ، وكلّ ذلك أمور ظنيّة ، وأيضاً فهي مبنيّةٌ على عدم المعارض العقليِّ ، فإنّ بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً ، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل ، لأنّ العقل أصل النقل ، فالطعن في العقل يوجب الطعنَ في النقل والعقل معاً ، لكن عدم المعارض العقليِّ مظنون . هذا إذا لم يوجَد ، فكيف [ وقد ] وجَدنا ها هنا دلائل عقليّة على خلاف هذه الظواهر . فثبت أنّ دلالة هذه الدلائل النقليّة ظنيةٌ ، وأما أنّ الظنيَّ لا يعارض فلا شك فيه . الثاني : هو إنّ التجاوز عن الوعيد مستحسنٌ فيما بين كما مرّ في كلام صاحب الفصوص ، قال الشاعر : @ فإنّي إذا أوعدتُه أو وعدتُه لمُخِلفُ معيادي ومُنجزُ موعدي @@ بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يُعدّ لؤماً . وإذا كان كذلك وجب أن لا يقبح من الله تعالى وهذا بناءً على حرفٍ ، وهو أنّ كثيراً من أهل الإسلام جوّزوا نسخ الفعل قبل مضيّ مدّة الامتثال ، وحاصل حرفهم فيه ، أنّ الأمر يحسن تارةً لحِكمة تنشأ من نفس المأمور به ، وتارةً لحكمة تنشأ من نفس الأمر ، فإنّ السيد قد يقول لعبده : إفعل الفعلَ الفلاني غداً وإن كان يعلمُ في الحال انّه سينهاه غداً ، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يُظهر العبدُ الانقياد لسيّده ، ويوطّن نفسه على طاعته ، وكذلك إذا علم الله من العبد أنّه سيموت غداً ، فإنّه يحسن عند هؤلاء القوم أن يقول : صلّ غداً إن عشتَ . ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل الأمور به لأنه ها هنا محالٌ ، بل المقصود حكمةٌ تنشأ من نفس الأمر فقط . وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرّد . وإذا ثبت هذا فنقول : لِمَ لا يجوز أن يقال : الخبر أيضاً كذلك ، فتارةً يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبَر ، وذلك في الوعد ، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر ، لا المخبَر عنه ؛ كما في الوعيد ، فإن الإخبار على سبيل الوعيد ، مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات ، فإذا حسن هذا المقصود ، جاز أن لا يوجد المخبَر وعند هذا قالوا : إن وعد الله الثواب حقّ لازمٌ ، أما توعيده بالعقاب فغير لازمٍ ، وإنما قصد به صلاح المكلّفين ، مع رحمته الشاملة لهم كوالد يهدّد ولده بالقتل والسَّلِّ والقطع والضرب ، فإن قَبل الولدُ أمره فقد انتفع ، وإن لم يقبل ؛ فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته . فإن قيل : فعلى جميع التقادير ذلك كِذباً ، والكذب قبيحٌ . قلنا : لا نسلّم أنّ كلّ كذْبٍ قبيحٌ ، بل القبيح هو الكذب الضارّ ، أما الكذْب النافع فلا ، ثمّ - إن سلّمنا - لكن لا نسلم انّه كذبٌ . أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا نسمّي ذلك كذْباً ؟ أليس أنّ كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها وعند الأكثر لا يسمّى ذلك كذباً ؟ فكذا ها هنا . الثالث : أليس أن آيات الوعيد في حقّ الكفار مشروطة بعدم التوبة ، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النصّ ، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو ، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً . أو نقول : معناها : أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب ، فيحمل الإخبار عن الوقوع الى الإخبار عن استحقاق الوقوع ، فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب . وأما الذين أثبتوا وقوعَ العذاب ، فقالوا : إنّه نقل إلينا على سبيل التواتر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وقوع العقاب ، فإنكارُه يكون تكذيباً للرسول صلوات الله عليه وآله ، وتفتيحاً لأبواب القدح في نصوصيّة القرآن ، فغير مسموع ، والله الهادي الى سبيل الصواب وبيده مفاتيح الأبواب .