Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 6-6)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" إنّ " من الحروف ، والحروفُ بما هي حروفٌ ، لا أصل لها في العلم ، إلاّ انَّ " إنَّ " وأخواتها لمّا شابهت الفعلَ - في عدد بسائطها ، وبنائها على الفتح ، ولزوم الأسماء ، وإعطاء معانيه وخصوصاً المتعدّي في دخولها على اسمين - عملت عملَه الفرعي ، وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني ايذاناً بأنّه فرعٌ في العمل دخيل فيه . ومعناها ؛ تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقّى بها القسم ، وتصدّر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشكّ . روى الأنباري : انّ الكندي المتفلسِف ركب الى المبرّد وقال : إنّي أجد في كلام العرب حشواً ؛ أجد العربيَّ يقول : عبدُ الله قائم ، ثمّ يقول : إنّ عبد الله قائمٌ ، ثمّ يقول ؛ إنّ عبد الله لقائم ، فقال المبرّد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ . ففي الأول : إخبارٌ عن قيامه ، وفي الثاني : جوابٌ عن سؤال سائل ، وفي الثالث : جوابٌ عن إنكار منكرٍ لقيامه . وتعريف الموصول إمّا للعهد ، إذا كان إشارة الى جماعة معيّنة كأبي جهل وأبي لهب والوليد بن مغيرة وأحبار اليهود ، أو للجنس ، إذا أُريد به المتناول للمصمّمين على الكفر وغيرهم ، فخصّ عنهم غير المصرّين بما اسند إليه . والكُفْر في اللغة : إخفاء حقّ النعمة . وهو منقولٌ لغويٌ عن الكَفر بالفتح ، وهو الستر ، ولهذا يقال للزارع : الكافر ، وكذا الليل . ولكمام الثمرة : كافور . وفي عرف الشريعة : إنكار ما عُلم بالضرورة من دين نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله ) ، وذلك أنّ كل ما نقل عنه ( صلّى الله عليه وآله ) انّه ذهب اليه وقال به ، فإمّا أن يعرف صحّة ذلك النقل بالضرورة ، أو بالاستدلال ، أو بخبرٍ الواحد . أما القِسم الأول - هو الذي علم بالضرورة مجيء الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) به - فمَن صدّقه في جميع ذلك فهو مؤمنٌ ، ومن لم يصدّقه في كل ذلك ، فإمّا بأن لا يصدّقه في جميعها ، أو بأن لا يصدّقه في البعض دون البعض ، فذلك هو الكافر ، إذا الكفر عدم تصديق الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في شيء مما علم بالضرورة مجيئُه به . ومثاله من أنكر وجودَ الصانع ، أو كونه عالِماً قادراً مختاراً ، أو كونه واحداً منزّهاً عن النقائص والآفات ، أو أنكر صحّة نبوّة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو صحة القرآن ، أو الشرائع التي علم كونها من دين نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله ) كوجوب الصلاة والزكاة ، وحُرمة الزنا والخمر ، فهو كافرٌ لإنكاره ضروريّاً من هذا الدين . فأما الذي يعرف بالدليل انّه من الدين ، مثل عينيّة الصفات له تعالى ، أو زيادتها ، وكونه تعالى جائز الرؤية أم لا ، وكون كلام الله قديماً أو محدَثاً ، وكونه خالق أفعال العباد أم لا مما لم ينقل بالتواتر القاطع أحدُ طرفَيه ، فليس إنكاره ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان ، ولا موجباً للكفر . والدليل عليه ؛ انّه لو كان جزءاً لماهية الإيمان ، لوجب أن لا يحكم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بايمان أحدٍ إلاّ بعد أن يعرف انّه هل يعرف الحق في تلك المسألة ؛ ولو كان كذلك ، لاشتهر قول النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في تلك المسألة بين جميع الأمّة ، ولكانَ منقولاً بالتواتر ، وليس الأمر كذلك ، ونفيُ التالي يوجب نفي المقدّم ، فوجب أن لا تكون معرفتها من أجزاء الإيمان ولا إنكارها موجباً للكفر . وأما المنقول بخبر الواحد ، فالأمر فيه أظهر . فهذا تحقيق ماهية الكُفر على قاعدة الإستدلالات الكلاميّة ، وظهَر منه انّه يرجع الى الإنكار الباطني ، أو عدم التصديق القلبي ، فيكون من أعمال القلب كالإيمان ، لكونهما متقابلان إما تقابل التضاد ، أو تقابل العدَم والمَلَكة كالعلْم والجهْل ، فعلى هذا لبس الغبار وشد الزنّار ونحوهما إنّما يسمّى كفراً ، لأنّها تدل على تكذيب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، فإنّ من آمن بالله وصدّق الرسول ، لا يجترئ عليها ظاهراً لا أنها كفر في نفسها كما انّ التزّيي بشعار المسلمين دالٌّ على الإيمان ، لا أنّه إيمان . وأما تحقيق حقيقة الكفر عند العرفاء الذين يعرفون الأمور بالبصيرة الباطنيّة لا بالاستدال الكلامي ، فهو انّه عبارة عن الاحتجاب عن نور الإيمان ، لما علمت انّ الإيمان الحقيقي نور فائض من الله على القلب ، به تنكشف أحوال المبدأ وأسرار المعاد ، ولهذا الإيمان قشرٌ وهو إيمان المتكلّم ، ولقشرة قشرٌ وهو إيمان العوامّ . فالكفر الذي يقابله ، هو الستر والاحتجاب عن ذلك النور بالكليّة ، وهو على ضربين : لأن هذا الاحتجاب : إمّا بأمر وجودي كالظلمة التي تضادّ ذلك النور ، وهو الجحود للحقّ والانكار له عدواناً وعناداً ، للجهل المركّب الراسخ في النفس ، أو بأمر عدمي ، هو عبارةٌ عن عدم الإيمان ، للجهل البسيط المقابل للعلم تقابُل العدم للمَلَكة . وقد وقع الفرقُ بين القسمين في كلام الله كثيراً ، كما في هذه الآية ، والآية التي تتلوها ، ولهذا قيل : إنّ المراد ها هنا بقوله : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مشركو مكّة ، وصناديد قريش من الذين غلظت طبائِعُهم ، وغلبت الكثافةُ والجسميّة على نفوسهم ، والختمُ على قلوبهم ، فقلوبهم في أكنّة ونفوسهم لم تخرج بعد من القوّة الى الفعل ، لعدم المسع الباطني والبصر الباطني لهم . ونظيره ما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] الآية . وقوله : { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصّلت : 4 - 5 ] . والمراد بقوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ البقرة : 8 ] رؤساء اليهود وأحبارهم ، الذين عانَدوا الحقَّ وأنكروا الآيات وجحَدوها ، وكانوا يُخادعون الله ورسوله ، وهؤلاء أسوأ حالاً وأردأ مآلاً من المشركين ، وسنزيدك ايضاحاً إنشاء الله . فصل [ الأقوال في حدوث كلامه تعالى ] احتجّت المعتزلة على حدوث كلامه تعالى - سواء كان ألفاظاً بهذه الحروف والأصوات أو شيئاً آخر - بالإخبارات الواقعة في القرآن بصيغة الماضي ، الدالّة على تقدّم الواقعة المخبَر عنها بهذه الصيغة عليه ، اذ القديم لا يكون مسبوقاً بغيره . وأجابت الأشاعرة عنه بما هو المشهور عنهم بأنّ التجدّد والمضيَّ والانقضاء وغيرها ، كلّها صفة تعلّق الكلام ، وحدوث التعلّق لا يوجب حدوثَ الشيء المتعلّق ، نظيره في صفة العلم ، أنّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنّ العالَم سيوجد ، فلمّا أوجده انقلب العلم بأنّه سيوجد في المستقبل علماً بأنّه قد وجد في الماضي . ولم يلزم حدوث علم الله ، فكذا ها هنا بأن يقال أخبر الله تعالى في الأزل بأنّهم سيكفرون فلمّا وجد كُفرهم صار ذلك خبراً عن أنّهم قد كفَروا ولم يلزم حدوثٌ . وكلمات الفريقين في هذه المسألة كثيرة ممّا لا طائل تحتها ، ولا يزيد الخوضُ فيها إلاّ بُعداً عن الحقّ وقساوة في القلب ، والصوابُ الرجوعُ عنها الى طريقة أهل الله ، والاقتباس عن مشكاة النبوّة بحقّ المتابعة للرسول وآله عليهم السلام . فصل قوله : سواء عليهم ، هو اسم بمعنى الاستواء . وصف به كما وصف بالمصادر ، ومنه قوله تعالى : { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] وقوله : { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصّلت : 10 ] . بمعنى مستوية وهو مرفوع إمّا بأنّه خبر لإنّ وانذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع المرتفع به على الفاعليّة ، كأنّه قيل : إنّ الكافرين مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه . أو بأنّه خبر لأَنذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وانذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع المبتدإ المقدم عليه خبُره ، والجملة خبر لإنّ ، بمعنى إنذارك وعدمه سيّان عليهم . والثاني أَوْلىٰ ، لأنّ " سواء " اسم ، فتنزيله منزلة الفعْل تركٌ للظاهر بلا ضرورة ، فأمّا صيروة الفعل مبتدأ مخبَراً عنه ها هنا - مع انّهم اتّفقوا على أنّ الفعل لا يكون مخبِراً ولا مخبَراً عنه - فمن قال : ( ضرب خرج ) لم يكن آتياً بكلام منتظم ، فالوجه في صحّته : انّ الفعلَ إنّما يمتنع الإخبار عنه إذا كان على صرافة حاله وتمام مفهومه الموضوع له من حيث اشتماله على المعنى النسبيّ الممتنع الحكم عليه وبه . وأمّا لو أُطلق واريد به اللفظ كما في قولك : " ضربَ على وزن فعَل " أو مطلق المعنى الحدَثي الدالّ عليه الفعل ضمناً على سبيل الاتّساع ، فهو كالاسم فيما يختصّ به من الإضافة والإسناد اليه كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [ البقرة : 13 ] ، وقوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] . وقوله : { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] . وقولهم : تسمعُ بالمُعَيْدي خيرٌ من أن تراه . ولأنا إذا قلنا الفعلُ لا يخبر عنه ، فهذا خطأ ، إذ قد صار الفعل مخبَراً عنه ، ولأن المخبَر عنه بأنه فعل ، لا بدّ وأن يكون فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنّه فعل . فإن قيل : المخبَر عنه تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم ، قلنا : إذا كان اسماً كان الإخبار عنه بأنّه فعل ، كذِباً . والتحقيق : انّ المخبَر عنه بأنّه فعلٌ لا يخلو ، إمّا أن يكون اسماً ، أو فِعلاً فإن كان اسماً ، فقد حكمت على الاسم بأنّه فِعل ، فيكون كاذباً ، وإن كان فِعلاً فقد وقع الإخبار عن الفعلِ ، وهو المطلوب . وهذا الوجه الأخير الذي قلته ممّا ذكره صاحب التفسير الكبير . وأقول : هذه شبهة كشبهة المجهول المطلق ، لا يجوز التمسّك بها في هذا المقام ونظائره ، لأنها منحلّة العقدة بما حُقّق في الحكمة الميزانيّة ، وهو أنّ الحَمل - أي الحكم العقلي بالاتّحاد بين شيئين بهو هو - على ضربين : أحدهما : الحمل الشائع ، كما في قولك : زيدٌ حيوان ، في الذاتيات وزيدٌ كاتب ، في العرَضيات ، ومفاده ومصداقه كون الموضوع من أفراد المحمول ، سواء كان فرده بالذات أو بالعرَض ، وسواء كان الحكْم على أفراد الموضوع كما في القضيّة المحصورة ، أو على نفس مفهومه ، كما في القضية الطبيعيّة . وثانيهما : الحمل الذاتي الأولى ، ومفاده : كون أحد المفهومين عنواناً للآخر سواء كان نفسه ، كما في حمل المترادفين أحدهما على الآخر كقولك : الإنسانُ بشَر ، أو كان بينهما تفاوت بالإجمال والتفصيل ، كما في قولك : الإنسان حيوان ناطق ، إذا حكمت على نفس المفهوم في المثالين . فإذا تقررّ هذا فنقول : كل شيء فهو يصدق على نفسه بالحمل الأولي ، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه ؛ وإنّ بعض الأشياء مما لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، بل نقيضه يصدق عليه بهذا الحمل ، وبعضه يصدق على نفسه بكِلا الحملين . فالأول : كالجزئي ، فإنّه ليس بجزئيٍّ ، لأنّ مقهومَه كلي ، وكاللامفهوم ، فإنّه مفهوم ، والثاني : كالكليّ والمفهوم ونظائرهما . فقولك : الجزئيُّ جزئيٌّ . والجزئيُّ ليس بجزئيٍّ ، كلاهما صحيح صادق من غير تناقض عند اختلاف الحملَين . ولهذا اعتبر في شرائط التناقض بين القضيّتين ، وحدةُ الحمْل ، سوى الوحَدات الثمان المشهورات ثمّ إنّ جملة الأشياء التي يصدق ويكذب على نفسها وعينها مفهوم الفِعْل ومفهم الحَرف ، فإن كلاً منهما يصدق على نفسه ويكذب عنها أيضاً من غير تناقضٍ ، فمفهومُ الحَرفِ مفهُوم الحرَف بأحد الحملين ، بمعنى انّه عين مفهوم ما دلّ على معنى في غيره ، كعينية الحدّ مع المحدود وغيره بالحمل الآخر ، إذ يصدق عليه حدّ الإسم . وكذا لفظ " الحرْف " حرفٌ واسمٌ باعتبارين : باعتبار انّه بعينه لفظ الحرف ، وباعتبار انّه يصدق عليه حدُّ الإسم ، أي كلمةُ دلّت على معنى في نفسه ، وعلى هذا فقِس الفعْل . فقد ثبت وتحقّق بما ذكرنا ، أنّ الفعل إذا أريد به المفهوم العنواني ، يجوز الحكم عليه وبه بالاتّفاق من أفراد الإسم ، كقولك : الفعلُ ما دلّ على معنى مقترن بالزمان ، وهذا غير ما نحن فيه ، إذ لا بحث عنه ها هنا ولم ينقل خلافٌ لأحد فيه ، إنّما الكلام في أفراد هذا المعنى ، وهي التي يصدق عليها حدُّ الفعل ومفهومه - كضرَبَ وعَلِم وأمثالهما - ، هل يصح الإخبار عنها أم لا ؟ وهذا هو محل البحْث وموضع الخلاف . وبما ذكره لم يثبت صحّة الإخبار عن ما يصدق عليه الفعْل ، فالوجه كما ذكر أولاً من جواز ذلك عند الضرورة ، وعلى سبيل التجوّز ، أو الحكاية لكن بقي ان يقال : ما الفائدة في العدول ها هنا عن الحقيقية ؟ فنقول : قد عدل من المصدر الى الفعل تنبيهاً على التجدّد ، لأن القوم كانوا قد بلغوا في الاصرار واللجاج والإنكار للحق ، والإعراض عن الآيات والنُّذُر ، الى حالة ما بقي منهم رجاءُ القبول ألبتّة ، وقبل ذلك ما كانوا كذلك ، ولو قال : " سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك " لم يفد تجدّد هذه الحالة في هذا الوقت دون ما قبله . واعلم أنّ " الهمزة " و " أم " ها هنا عاريتان عن معنى الاستفهام ، وإنّما هما لتقرير معنى الاستواء وتأكيده فقط ، قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك : اللهم اغفر لنا ، أيّتها العصابة ، فإنَها لمجرد الاختصاص . ومعنى الإنذار : هو التخويف عن عقاب الله وإنّما اقتصر عليه دون البشارة ، لأنّ تأثيره أوقع في القلب وأشدّ من جهة انّ دفع المضرّة أهمّ من جلب المنفعة . وفي " أَأَنذَرْتَهُمْ " ستّ قراءات : تحقيق الهمزتين بينهما ألف أوْلا ، وتخفيف الثانية بين بين ، وبينهما ألف أَوْلا ، وحذف الاستفهاميّة والقاء حركته على الساكن ، وقرئ بتخفيف الأولىٰ وإبدالها هاءً ، وهو شاذّ . وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مفسرة لما قبلها لإجماله في ما فيه الاستواء ، فلا محلّ لها من الإعراب ، أو حال مؤكِّدة له ، أو بدل عنه ، أو خبر إنّ وما قبلها ، اعتراض بما هو سبب الحكم . فصل [ احتجاجات الأشاعرة والمعتزلة بهذه الآية ونظائرها ] وممّا احتجّ به أهل السّنّة على صحّة القول بالتكليف بما لا يطاق عليه ، هذه الآية ونظائرها . كقوله : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] وقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] . وقوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] . وبيانه من جهة الكلام : أنّه تعالى أخبر عن شخصٍ معيّن انّه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان ، يلزم الكذب على الله في كلامه . ومن جهة العلم ، أنّه تعالى علم منه في الأزل أنّه لا يؤمن . فلو آمن يلزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال ؛ فكذا ما يستلزمه فصدور الإيمان منه محالٌ وقد كلّف به . وأيضاً : الإيمان يُعتبر فيه التصديق بكلّ ما اخبر الله عنه ، ومن جملته : أنّهم لا يؤمنون ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات . فهذه عمدة الوجوه التي تمسّك بها السلفُ من الأشاعرة في دفع أصول المعتزلة وهدم قوانينهم . وهم تفصَّوا عن هذه الاحتجاجات إجمالاً وتفصيلاً . أمّا المقام الأول : فبيان أنّ علم الله تعالى وخبَره عن عدم الايمان ، لا يجوز أن يكون مانعاً من الإيمان لوجوه : الأول : أن القرآن مملوء من الآيات على أن لا مانع لأحد من الإيمان ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } [ الإسراء : 94 ] . والكلام إنكار بصورة الاستفهام ، دالّ على أن المانع من أن يؤمنوا منتفٍ في الواقع . وكقوله لإبليس : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] . وقوله : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الانشقاق : 20 ] { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] . والثاني : أن الله تعالى قال : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] . وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } [ طه : 134 ] . فقد تبيّن انه ما أبقى لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم . فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعاً لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة لاستقحاقهم للعقاب . والتالي باطل ، فكذا المقدّم . والثالث : انه ذكر في مقام الذم والزجر والتقبيح قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } الآية ، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه ، لما استحقوا التقبيح البتة ، بل كانوا معذورين كالأعمى في أن لا يرى . والرابع : إنّ القرآن إنّما أُنزل ليكون حجّة لله ولرسوله عليهم ، لا أن يكون حجّة لهم على الله وعلى رسوله ، فلو كان العلمُ والخبر مانعين ، لكان لهم أن يقولوا : إنّما كفَرنا لسبْق القضاء على كُفرِنا ، وتركُ المقضيّ مستحيل ، فلِمَ يُطلب المحالُ مِنّا ولِمَ يأمرنا بالمحال ؟ ! والخامس : إنّه لو كان علمُه السابق بعدم الإيمان مانعاً عن الإيمان ، لوجَب أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً . والتالي باطل فكذا المقدم بيان الملازمة : أنّ الذي علم وقوعه واجب والذي علم عدم وقوعه ممتنع ، وشيء من الواجب والممتنع لا يكون مقدوراً ، إذ المصحّح للمقدوريّة هو الإمكان ، دون قسيميه . والسادس : إنّ الأمر بالمحال سفَه وعبث ، فلو جاز ورود الشرع به ، لجاز وروده بكلّ أنواع السفَه ، فما كان يمنع وروده باظهار المعجزة على يد الكاذب ، فلا يبقى وثوقٌ بصحّة النبوّات ولا بصحّة القرآن وسائر الكتب ، بل يجوز أن يكون الكلُّ سفَهاً وباطلاً . والسابع : لو جاز ورود الأمر بالمحال ، لجازَ الأمر للأعمىٰ برؤية النجوم في السماء ، والزمِن بالطيران في الهواء ، ولو جاز ذلك ، لجازَ بعثةُ الأنبياء ( عليهم السلام ) الى الجمادات والعجماوات ، وإنزال الكتب والملائكة عليها لتبليغ التكاليف حالاً بعد حال ، ومعلومٌ أنّ ذلك سخريّة وتلاعب بالدين . قال الصاحب بن عبّاد في فصل له في هذا الباب : كيف يأمره بالإيمان وقد منعَه منه ؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ؟ وكيف يصرفهم عن الإيمان ثمّ يقول : { أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ } [ غافر : 69 ] . ويخلق فيهم الإفك ثمّ يقول : { أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75 ] . وأنشأ فيهم الكفر ثمّ يقول : { لِمَ تَكْفُرُونَ } [ آل عمران : 98 ] . وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ، ثمّ يقول : { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } [ البقرة : 42 ] . وصدّهم عَن السبيل ثمّ يقول : { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 99 ] . وحالَ بينهم وبين الإيمان ثمّ قال : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ } [ النساء : 39 ] . وذهب بهم عن الرشد ثمّ قال : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } [ التكوير : 26 ] . وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ثمّ قال : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] . والثامن : من الآيات الدالّة على أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقعْ قال سبحانه : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] . وقال : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] . وأيّ حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال . أما المقام الثاني ، فهو الجواب على سبيل التفصيل فللمعتزلة فيه طريقان : أحدهما : طريقة أبي هاشم ، وأبي علي الجبائي ، والقاضي عبد الجبّار : قالوا لمن قال : " لو وقع خلافُ عِلْمِ الله ، لانقلبَ علمُه جهلاً " إنّه قد أخطأ من قال : " إنّه لانقَلَب علمُه جهلاً " ، وأخطأ أيضاً من قال : " إنَ علمَه لا ينقلب جهلاً " ولكن يجب الإمساك عن القولين . وثانيهما : طريق الكعبي ، واختيار أبي الحسين البصري والمتأخرين منهم : انّ العلمَ تبعُ للمعلوم ، فإذا فرَضت الواقعُ من العبد هو الايمان ؛ عرفت أنّ الحاصِلَ في الأزل لله تعالى العلمُ بالإيمان ومتى فرضت الواقع منه هو الكفْر بدلاً عن الإيمان ؛ عرفت أنّ الحاصلَ في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان ، فهذا فرض علمٍ بدلاً من علْم آخر ، لا انّه انقلابٌ في العلم وتغيّر له . تبصرة مشرقية [ الجبر والتفويض ] إعلم أنّ مسألة الجبر والاختيار من المسائل العظيمة المهمّة في الاسلام ، وهي ممّا لم تتنقّح بعدُ الى الآن بين جمهور أهل الكلام ، مع أنّهم صرفوا عمرَهم في تحرير الدلائل والمناقضات ، وتقدير المباحث والمناظرات ، وتطويل الكلام وكثرة الردّ والإحكام والنقض والإبرام ، حتّى صارت معارك للآراء ومصادم للأهواء ، ولم يبق لأحد من الجانبين منزعة في كان فكره إلاّ ورماها الى صاحبه في ميدان المجادلة والمناظرة ، ومع ذلك لم يأت أحد منهما بحاصل في الدين ، ولم يظفر بطائلٍ في سلوك طريق اليقين . بل ما زادتهم هذه إلاّ استكبارً وجحوداً وعناداً ، ولم تزدهم إلاّ نفرة عن الحقّ وبعاداً ، وذلك لاشتغالهم بالفروع عن الأصول ، واهتمامهم عن الواجب المهمّ بالفضول ، واستغراقهم في المجادلة بالردّ والقبول ، ولذلك حُرموا عن الوصول ، ومُنعوا عن معاينة المعاني ، لا بفكر ونظم قياسي ، ويئسوا عن مشاهدة الحقائق لا باعتمال ونصْب تعريف حدّي أو رسمي ، بل بأنوار شارقة متفاوتة ، وإلهامات بارقة متتالية ، تزيد في العمر والبقاء ، وتطلق الروح عن المهوى ، وتسلب النفس عن هذه القوى وترغبها عن الدنيا ، وتسوقها الى العُقبى ، وتشوّقها الى لقاء الربّ تعالى . واعلم أنّ أكثر أصحاب البحوث ، قد تركوا وصيةَ ربّهم ونصيحةَ نبيّهم سلام الله عليه وآله فيما أُمروا ، من تزكية نفوسهم ، وتصفية بواطنهم ، وإصلاح قلوبهم ، وتعديل قُواهم ، وتهديب أخلاقهم ، وتصقيل ، مرآة قلوبهم لتتجلّى فيها خبايا عالَم الملكوت ، وتنكشف لديها خفايا أسرار الجبروت ، وادركوا الأشياء كما هي ، كما وقع دعاء نبيّهم ( صلّى الله عليه وآله ) له ولأمته : " اللّهم أرنا الأشياء كما هي " . فرفضوا طريق الهداية والسعي في بلوغ النهاية ، ولم يقرؤوا صحيفةَ الملكوت من كتابها ، ولم يأتوا البيوت من أبوابها ، فاغترّوا من حقائق الدين بلوامع سرابها ، وقنعوا فيه من أنوار وجوه الحكمة واليقين بظلمات نقابها ، فاشتَغلوا بما قد نُهوا عنه بذكر عيوب بعضهم بعضاً ، وشنعة بعضهم على بعض ، فصاروا فِرقاً ومذاهب وشِيَعاً وأحزاباً ، كلّ حزبٍ بما لديهم فرِحُون ، وهم في العذاب مشتركون ، إلاّ مَن آمنَ منهم بالله واليوم الآخر ببصيرة صافية عن غشاوة الشكّ والامتراء ، وقلبٍ فارغ عن مرَض العناد والمراء . ولما تركوا وصيّة ربّهم ، ونصيحةَ رسولهم ، ونسوا يومَ الآخرة ، وركَنوا الى الدنيا ، توقّدت بينهم نيرانُ العداوة والبغضاء الى يوم القيامة ، فيلعنُ بعضُهم بعضاً ، ويكفّر بعضُهم بعضاً ، ويطعن بعضه على بعض ، بحرقة في قلوبهم ، وألم في نفوسهم ، كما حكى الله عن أهل الجحيم بقوله : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 - 39 ] . وقالوا : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 - 39 ] يعني : من كان بينهم رئيساً ومقتدىً في رأيهم في الضلال ، وقيل لَهُمْ : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 38 - 39 ] . وبظهور هذه الآراء الفاسدة ، والبِدع الخبيثة ، والأهواء الرديّة ، انطمَس أهل الحقّ وضاعت السَيرُ الفاضلة ، وغابت العلوم الإلٰهية من بين الخلْق ، وصارت كأنْ لم تكن شيئاً مذكوراً . وهذه الآراء والأهواء كثيرة كلّها من هذا القبيل ، وستعلم وجهَ بطلانها مع هذه الشهرة العظيمة للقائلين بها ، والرواج لها ، حيث ترى الكتب الكلامية وغيرها مشحونة بذكرها وذكر نظائرها ، ونسبة قائلها الى الفضل والبراعة ، والخوض في تحقيق أُصول الشريعة وفروعها بهذه الكلمات الواهية والآراء العاطلة . فكانوا يتصدّون في المجالس ، ويتفاخَرون على الأماثل ، ويُعيَّنون بالأنامل ، وبضاعتهم في العلم والمعرفة ، ورأس مالهم في الفضيلة أمور لا تفيد علماً ولا تنتج فائدة . مثل كلامهم في الطفرة والتفكيك ، وسكون المتحرّك ، والتداخل ، وشيئية المعدوم وإعادته ، ونفي الجزء وإثبات الخلاء ، وإنكار الروح ، ونفي التوحيد ، وإثبات الكثرة على الله ، وتجويز الرؤية له ، وخلْق الأعمال ، ونفي القدرة عن العبد ، ونفي الوجود الذهني ؛ وانكار عالَم الملكوت والنشأة الباقية ، وجوهرية الطعوم والروائح بل رؤيتها ، الى غير ذلك من المسائل المموّهة المزخرفة التي لا حقيقة لها ولا وجود إلا في الأوهام الكاذبة ، لا تصحّ لمدع فيها حجة ولا لسائل عنها برهان . وثلّة من الأولين منهم قد بقوا في هذا الزمان ، شاهَدناهم يخوضون في الثواني والمعقولات ، وهم لا يعرفون الأوائل والمحسوسات ، ويتعاطون البراهين من غير ممارسة علم المنطقيّات ، ويتكلّمون في الإلٰهيّات ، وهم يجهلون الطبيعيّات ، وإذا سئلوا عن أشياء مقرون بها عند أكثر الناس ، لا يُحسنون أن يجيبوا عنها . وإذا استقصى عليهم السؤال والبحث ، فكلامهم فيها أوهن من بيوت العنكبوت ، ويأبون أن يقولوا : لا ندري ، الله ورسوله وأولياؤه أعلم ، بل يلجّون في خيالاتهم الواهية وهي طغيانهم يعمهون . فلنرجع الى تحقيق القول في هذه المسألة ، وتوهين ما قرّروه ، والجواب عمّا ذكروه وكشف الفضيحة عما تصوّروه ، في فصلين نذكر فيهما فساد القولين وبطلان المذهبين : الجبر والاختيار . فصل [ رد احتجاجات المجبرة ] أما قول المجبّرة بجواز تكليف المحال ، والجبر للعبد في الأفعال من جهة علم الله بحقيقة الأحوال ، أو إخباره عن كفر طائفة ونكالهم في الآخرة والمآل ، ففي غاية السخافة والوهْن ، فإنّ العلم والجَبر لا يسلبان عن العباد القُوى والقُدرة ، بل القدرة ثابتة للعبد ، والتمكّن من أفعاله وأقواله مبذولٌ له ، والتصرّف في قواه الإدراكية - كالمسع والبصر - وأعضائه التحريكيّة - مثل اليد والرِّجل - متى شاء وكيف شاء مفوَّضٌ إليه ميسّر له ، والعلم بوجوه النفع والضرّ ، والخير والشرّ ممنون عليه من قِبَل الله ، لأنّ هذه المبادي والقوى القريبة خلقتْ موجبةً لأفاعيله وحركاته ، مقتضيةً لآثاره وتبعاته ، جعلها الله خادمةً للقلب ، مسخرةً له ، وهو المتصرّفُ فيها بقوتّه المدبّرة ، وهي مجبولة على طاعة القلب ، لا يستطيع له خلافاً ولا عليه تمرّداً . وفائدة التكليف له والإنذار كالابتلاء وغيره ، عائدة إليه ولو قليلاً ، وإلى غيره كثيراً ، ولا يلزم أن تكون فائدة التكليف لأحد بشيءٍ ، نفس ذلك الشي ؛ إذ ربما يترتّب على التكليف فائدة اخرى ، غير ما كلّف به ، فلي لهم أن يقولوا بنفي الأعراض وبطلان الدواعي واثبات التعطيل ، والعبَث في فعل العبد ، ذلك ظنّ الذين كفروا من المجوس والثنويّة ، النافين لاختيار العبد ، المثبتين لإجباره ، ولهذا المعنى قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " القدرَيّة مجوس هذه الأمّة " . ومن الحكايات المأثورة عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في ذلك ، ما رواه جماعة من علماء الإسلام أنّه قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " لُعنت القدَرية على لسان سبعين نبيّاً ، قيل : ومَن القدَرية يا رسول الله ؟ قال : قومٌ يزعمون انّ الله سبحانَه قدَّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها " . ومنها أيضاً ما رواه صاحب الفائق محمود الخوارزمي وغيره من العلماء ، عن محمد بن علي المكّي باسناده قال : " إنّ رجلاً قدِم على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : أخبرني بأعجب شيء رأيته ، قال : رأيت قوماً ينحكون أمَهاتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لِمَ تفعلون ؟ قال : قضى الله تعالى وقدَّره . فقال : سيكون في أُمّتي أقوام يقولون مثلَ مقالتهم ، أُولئك مجوس أمتي " . ومنها أيضاً ما ذكره صاحب الفائق وغيره من علماء الاسلام ، عن جابر بن عبد الله أنّه قال : يكون في آخر الزمان قومٌ يعملون بالمعاصي ويقولون : إن الله قد قدَّرها عليهم ، الرادّ عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله . ومن الحكايات في هذا الباب ما يروى من انّ أبا حنيفة اجتاز على موسى بن جعفر الكاظم ( عليهما السلام ) فقال سائلاً : المعصيةُ ممّن ؟ فقال له موسى الكاظم ( عليه السلام ) : اجلس حتّى اخبرك ، فجلس أبو حنيفة ، فقال ( عليه السلام ) : لا بدّ أن تكون المعصية من العبد أو من الله تعالى أو منهما جميعاً ، فإن كانت من الله تعالى ، وهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضعيف ، ويؤاخذه بما لم يفعله ، وإن كانت المعصية منهما ، فهو شريكه ، والقويّ أَوْلىٰ بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت المعصية من العبد وحده ؛ فعليه وقعَ الأمر وإليه توجّه النهي ، وله حقّ الثواب والعقاب ، ووجبت له الجنّة والنار ، فقال أبو حنيفة : ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم . وقد نظم هذا بعض شعرائهم : @ لم تخلُ أفعالُنا اللاتي نلام بها إحدى ثلاث خصالٍ حين نأتيها إمّا نفرّدَ بارينا بصنعتها فيسقط اللوم منّا حين نُبديها أو كان يُشركنا فيها ، فيلحقه ما سوف يلحقه من لائمٍ فيها أولم يكن لإلٰهي في جنايتها ذنبٌ ، فما الذنب إلاّ ذنب جانيها @@ ومنها ما رواه جماعة من العلماء ، أنّ الحجاج بن يوسف كتبَ الى الحسن البصري والى عمرو بن عبيد والى واصل بن عطاء والى عامر الشعبي : أن يذكروا ما عندهم وما وصل اليهم في القضاء والقدَر . فكتب اليه الحسن البصري : إنّ مِن أحسن ما انتهى الينا ما سمعتُ عن امير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنّه قال : أتظنّ أنّ الذي نهاك دهاك ؟ إنّما دهاك أسفلك وأعلاك ، والله بريٌّ من ذاك . وكتب إليه عمرو بن عبيد : أحسن ما سمعت في القضاء والقدَر ، قولُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : لو كان الوِزْر في الأصل محتوماً ، كان الوزر في القصاص مظلوماً . وكتب إليه واصلُ بن عطاء : أحسن ما سمعت في القضاء والقَدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : أيدلّك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبي : أحسن ما سمعت في القضاء والقدَر قول أمير المؤمنين علي يبن أبي طالب ( عليه السلام ) : كلّما استغفرتَ الله منه فهو منك ، وكلّما حمدتَ الله تعالى عليه فهو منه ، فلما وصلت كتبُهم الى الحجّاج ووقَف عليها قال : لقد أخذوها عن عينٍ صافيةٍ . هذا مع ما كان عنده من الفضاضة والأمور الواهية . ومما روي أيضاً أن رجلاً سأل جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) عن القضاء والقَدر ؟ فقال : ما استطعت أن تلوم العبدَ عليه فهو فِعلُه ، وما لم تستطع أن تلومَ العبدَ عليه ، فهو فعلُ الله يقول الله للعبد : لِمَ عصيتَ لِمَ فسقتَ لِمَ شربتَ الخمرَ لِمَ زنيتَ ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول : لِمَ مرضتَ ؟ لِمَ قَصُرتَ ؟ لِمَ ابيضضت ؟ لِمَ اسوددت ؟ لأنه من فِعل الله في العبد . ومن الحكايات أيضاً : أنّ الفضل بن سهل سأل علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) بين يدي المأمون ؛ فقال : يا أبا الحسن ، الخَلقُ مجبورون ؟ فقال : الله تعالى أعدل من أن يجبر خَلقَه ثمّ يعذبهم ، قال فمُطْلَقون ؟ قال : الله تعالى أحكم من يهمل عبدَه ويُكله الى نفسه . ومنها : أنّ رجلاً وقَف على جماعة من المجبّرة فقال لهم : أنا ما أعرف المجادلَة والإطالَة في الكلام ؛ لكنّي أسمعُ في القرآن قوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } [ المائدة : 64 ] . ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل ، أنّ الموقِد للنار غير المطفئ . فانقطعوا ولم يردّوا جواباً . وقيل لجبري : نرى الله يقول : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] مَن هذا الذي قد خاب ؟ فلم يكن له من ذلك جواب . وقال معتزلي لجبري : ممّن الحقُّ ؟ فقال : من الله . قال له : فمَن المحقّ ؟ قال : هو الله قال له : فممّن الباطلُ ؟ قال : من الله . فقال له : فمن هو المبِطلُ ؟ فانقطع المجبّر ولم يقدم على أن يقول : إن الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - هو المبطِل . وكان يلزمه ذلك على مذهبه . ومن عجائب ما يعتقده المجبّرة ويلزمهم أيضاً ، أنّه يجوز من الله في عقولهم مع عدله وحكمته ، أن يجمع الأنبياءَ والمرسلين والملائكةَ المقرّبين وعباده الصالحين ، فيخلّدهم في الجحيم والعذاب الأليم أبد الآبدين ، ويجمع الكفّار والملحدين والزنادقة والمنافقين وإبليس والشياطين ، ويخلّدهم في الجنة والنعيم دهر الداهرين ، وزعموا ذلك إنصافاً منه وعدلاً ، وركبوا في ذلك مكابرةً وجهلاً ولعلّه قد كان لهم سلَفٌ صدرت منهم كلماتٌ على سبيل الزمر والإشارة وما بلغت عقول هؤلاء على كنْه أقوال أولئك الأوائل ، أو كان في عقول طائفة من رؤسائهم جهلٌ وسفَه أوجبَ مثلَ هذا الاعتقاد ، وجاء الخلفُ مقلّداً للسلف ، محبّاً للمنشأة وسنّة الآباء ، كما حكى الله عن أشباههم من الأخلاف الذين قلّدوا آراء الأشياخ والأسلاف ، حيث ذكر : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . وإن كان ذلك كذلك ، فأيّ عذرٍ بقيَ للمتأخّرين من الأحياء والأبناء في اتّباع السلَف والآباء على الضلال في أمرٍ لا يخفى على أدنى العقلاء ؟ فما أحسن ما يقرؤونه في كتابهم : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] لا والله ما قدَروا الله حقَّ قدره ، ولا هذا قدْرُ جلالته وعظمته ، ولا جزاء إحسانه ونعمته . والعجب ، أنّهم زعموا أنّ هذا ما عليه أكابر العرفاء ومحقّقو الصوفيّة من القول بالتوحيد الأفعالي ، وليس كذلك ، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وتصفّح مقالاتهم ، قال الشيخ العظيم محيي الدين الأعرابي في الباب التاسع عشر وثلاثمأة من الفتوحات المكيّة : " إنّ رافعَ الأسباب سّيء الأدب مع الله ، ومَن عزلَ مَن ولاّه الله تعالى فقد أساء الأدبَ وكذّب في عزْل ذلك الوالي ، فانظر ما أجهلَ من كفَر بالأسباب وقال بتركِها ، ومَن تَرك ما قرّره الحقُّ ، فهو منازعٌ لا عبد ، وجاهل لا عالم واني أعظِك أن تكون من الجاهلين ، وأراك في مذهب الجبر تكذب نفسك في ترك الأسباب ، فإنّي أراك في وقت حديثك معي في تركِها ورمْيها يأخذكَ العطشُ ، فتترك كلامي وتجري الى لماء فتشرب منه لتدفعَ بذلك المَ العطش ، وكذلك إذا جِعتَ تناولتَ الخبزَ ، وغايتك أن لا تتناوله بيدك حتى تجعل في فيك ، فما حصل في فَمِك مضغته وابتلعته فما اسرَع ما اكذبتَ به نفسك بين يدي . وكذلك إذا أردتَ أن تنظر الى شيء افتقرتَ الى فتح عينك ، فهل فَتَحها إلاّ سبب ، فكيف تنفي الأسبابَ بالأسباب ؟ أترضى لنفسك بهذه الجهالة ؟ فالأديب الإلٰهي العالِم مَن اثبتَ ما اثبتَه الله في الموضع الذي أثبته ، وعلى الوجه الذي أثبته ، ثمّ تكذب نفسَك في عبادة ربّك . أليست عبادتُك سبباً في سعادتك وأنت تقولُ بترك الأسباب ؟ فلِمَ لا تقطع العملَ . أرأيت أحداً من رسولٍ ولا نبيّ ولا وليٍّ ولا مؤمنٍ ولا كافرٍ ولا شقيٍّ خرجَ قطّ عن رقِّ الأسباب مطلقاً ، أدناها التنفّس ؟ فيا تارك السببِ لا تتنفّس ؛ فإنّ التنفّس سببٌ لحياتك فأمسِكْ نفسَك حتّى تموتَ فتكونَ قاتلَ نفسك فتحرُم عليك الجنة . وإذا فعلتَ هذا فأنت تحت حكم السبب … " " فما اظنّك عاقلاً إن كنتَ تزعم أن ترفعَ ما نصبَه الله وأقامه علماً مشهوداً ، ودعْ عنكَ ما تسمعُ من كلام أهل الله ، فإنّهم لم يردوا بذلك ما توهّمته ، بل جهلتَ ما أرادوا بقطع الأسباب ، كما جهلتَ ما أراد الحقُّ بوضع الأسباب ، ولقد ألقيتُ بكَ على مدرجة الحقّ ، واتيتُ لكَ الطريقة التي وضعَها لعباده وأمرهم بالمشي عليها فاسلُكْ : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل : 9 ] . وقال في الباب السادس والتسعين ومائتين : " ولقد نبّهني الولدُ العزيز العارف شمسُ الدين إسماعيل بن سودكين التوري على أمرٍ كان عندي من غير الوجه الذي نبَّهنا عليه هذا الولد ؛ وهو التجلّي في الفعل ، هل يصحّ أو لا يصحّ ؟ فوقْتاً كنتُ أنفيه بوجهٍ ، ووقْتاً كنتُ اثبته بوجهٍ يقتضيه التكليفُ ، إذ كان التكليفُ بالعمل لا يمكن أن يكون من حكيمٍ يقول : " اعمَلْ وافعل " لمَن يعلم انّه لا يعملُ ولا يفعلُ ، إذ لا قدْرة له عليه . وقد ثبت الأمرُ الإلٰهي بالعمل للعبد ، مثل قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ البقرة : 43 ] و { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 200 ] { وَجَاهِدُواْ } [ التوبة : 41 ] . فلا بدّ أن يكونَ له في المنفعل عنه تعلّق من حيث الفعل فيه ، فيسمّى به فاعلاً وعاملاً ، وإذا كان هذا ، فبهذا القدر من النسبة يقع التجلّي فيه ، فبهذا الطريق كنتُ أثبته ، وهو طريقٌ مرضيٌّ في غاية الوضوح ، يدلّ على أنّ القدْرةَ الحادثة لها نسبةُ تعلّقٍ بما كُلّفت عليه لا بدّ من ذلك ، ورأيتُ حجّة المخالف واهية في غاية من الضعف والاختلال . ولمّا كان يوماً فاوضَني في هذه المسألة هذا الولدُ فقال لي : وأيّ دليلٍ أقوى على نسبة الفعل إليه والتجلّي فيه ، إذا كان من صفته من كون الحقّ خلَق الإنسانَ على صورته ، فلو جرّد عنه الفعْلَ ، لما صحَّ أن يكون على صورته ، ولما قَبِل التخلّقَ بالأسماء ، وقد صحّ عندكم وعند أهل الطريق بلا خلاف ، أنّ الإنسان مخلوق على الصورة ، وقد صح التخلُّق بالأسماء ؟ فلا يقدر أحد أن يعرف ما يدخل عليّ من السرور بهذا التنبيه ، فقد يستفيد الاستاذ من التلميذ أشياء من مواهب الحقّ تعالى لم يقض الله للاستاذ أن ينالَها إلاّ من التلميذ ، كما يعلم قطعاً انّه قد يفتح للإنسان الكبير في أمر يسأله عنه بعض العامّة ، فيرزق العالِم في ذلك الوقت لصدْق اللسان علم تلك المسألة ، ولم يكن عنده قبل ذلك عناية من الله بالسائل ان حصل للمسؤول علماً لم يكن عنده ، ومن راقَب يجدُ ما ذكرناه . فالحمد لله استفَدنا من أولادنا مثل ما استفاد منّا شيوخنا أموراً كانت أشكلت عليهم " انتهى كلامه . فصل فيما يرد على المعتزلة القائلين باستقلال العبد في أفعاله وحركاته فممّا يرد عليهم أنّهم اشركوا بالله في أفعاله ، ولم يتّفق لهم التوحيد الأفعالي ، كما لم يبق للأشاعرة - المثبتين للصفات - التوحيد الوصفي . ويرد عليهم أيضاً ؛ انّهم منكرون لقضاء الله وقدَره في كلّ شيء ، ولم يذعنوا انّ الخيرات والشرور كلّها بقضائه وقدَره . أمّا الخيرُ فهو مقضيٌّ بالذات ، وأما الشرّ فهو مقضيٌّ بالعرَض . ومذهبهم في صدور الأفاعيل من العباد قريبٌ من مذهب بعض الطبيعيّين والأطبّاء الذين جعلوا مبدأ فعل الآدمي طبيعتَه ومزاجَه ، ولم يرتفع نظرُهم الى ما فوق الدهر والطبيعة من الملكوت الأعلى والأسباب القُصوى ، ولم يعلموا أنّ كل ما يقع في هذا العالَم من الحوادث والأكوان والأفعال والإرادات والحركات والسكَنات ، مقدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر قبل ؛ كما دلّت عليه البراهين العقليّةُ والمشاهدات الذوقيّةُ والمناماتُ الصادقة ، والإلهامات ، والكلمات الإلٰهيّة ، والأحاديث النبويّة ، منها قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 - 53 ] . ومنها قوله تعالى : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . ومنها قوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] . وكذا قوله : { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . وقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [ الحديد : 22 ] . الى غير ذلك من الآيات . ومن الأحاديث النبويّة قوله عليه وآله الصلاة والتحيّة : " جفَّ القلمُ بما هو كائن " " اعلموا فالكلُّ ميسّر لما خُلق " . ومنها قوله : " إنّ أحدَكم يجمَع في بطنِ أمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون مضْغةً مثل ذلك ، ثمّ يُرسل الله مَلكاً فينفخ فيه الروحَ فيؤمَر بأربع كلماتٍ فيكتبُ رزقَه ، وأجلَه ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إلٰه غيره ، إنّ أحدكم ليعملُ عملَ أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبين الجنّة إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم الله له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدَكم ليعلمُ بعمل أهل النار حتّى [ ما ] يكون ما بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيختم الله له بعمل أهل الجنّة فيدخلها " . وقريبٌ من هذا ما ورَد من طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) ، رواه رئيس المحدّثين محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله عن عدّة من أصحابه ، مسنداً الى أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، أنّه قال : " يُسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتّى يقولَ الناسُ ما أشبهه بهم بل هو منهم ، ثمّ تتداركه السعادة . وقد يُسلك بالشقيّ طريق السعداء حتّى يقولَ الناسُ ما أشبهه بهم ، بل هو منهم . ثمّ يتداركه الشقاءُ . إنّ من كتَبه الله سعيداً وإن لم يبق من الدنيا إلاّ فواق ناقة خُتم له بالسعادة " . ونقل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " اعلموا علماً يقيناً أنّ الله لم يجعل للعبد وإن عظمتْ حيلتهُ وقويتْ مكيدتُه واشتدتْ طَلِبته ، أكثر ممّا سمّى له في الذكر الحكيم " . وفي طريقتهم أيضاً رواه الكليني عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) يقول : " إنّ ممّا أوحى الله الى موسى ( عليه السلام ) وأنزل عليه [ في ] التوراة : إنّي أنا الله لا إلٰه إلاّ أنا ، خلقتُ الخلْقَ وخلقتُ الخيرَ وأجريته على يدي مَن أحبّ فطوبىٰ لمَن أجريته على يديه ، وأنا الله لا إلٰه إلاّ أنا خلقتُ الخلْقَ وخلقتُ الشرَّ وأجريتُه على يدي مَن أريده ، فويلٌ لمَن أجريتُه على يديه " وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : " ما من قبضٍ وبسطٍ إلاّ ولله فيه [ مشيئةٌ وقضاءٌ وابتلاءٌ " . وعنه ( عليه السلام ) : " إنّه ليس شيءٌ فيه ] قبض أو بسطٌ ممّا أمر الله به أو نهى عنه ، إلاّ وفيه لله عزّ وجلّ ابتلاءٌ وقضاءٌ " . وعنه ( عليه السلام ) أيضاً في كتاب الكافي انّه قال : " لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدَر ، وقضاء ، وإذن ، وكتابٍ وأَجَل ؛ فمَن زعم انّه يقدِر على نقْض واحدة فقد كفَر " . وعنه أيضاً ( عليه السلام ) مثله بسند آخر . وفيه أيضاً عن أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) قال : " لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلاّ بسبع : بقضاءٍ ، وقدَرٍ وإرادةٍ ، ومشيئةٍ ، وكتابٍ وأجَلٍ ، وإذْنٍ ، فمَن زعم غير هذا فقد كذب على الله " . ومن طريقه فيه باسناده عن محمّد بن عبد الرحمن [ عن أبيه ] رفعه الى من قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقول : " قدَّر الله المقاديرَ قبل أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسين الف سنة " . ومن طريقه رحمه الله في كتاب مَن لا يحضره الفقيه مسنداً الى اسماعيل بن مسلم انّه سأل جعفر الصادق ( عليه السلام ) عن الصلاة خلفَ رَجل يُكَذّبُ بقَدَر الله عز وجل ؟ قال : " لِيُعِدْ كلّ صلاةٍ صلاّها خلفه " . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : " خرجَ رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله ) وفي يده كتابان ، فقال للذي في يده اليُمنى : " هذا كتاب من ربِّ العالَمين ، فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً " ثمّ قال للذي في شماله " هذا كتابٌ من ربّ العالَمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً " . ثم مال بيده فنبذهما ثمَّ قال : " فرغ ربُّكم من العباد ، فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السعير " " . ومن الحكايات التي نقلها أهلُ الإسلام في كُتب الحديث عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، مناظرةُ آدم وموسى ( عليهما السلام ) ، وهي انّه قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " احتجّ آدم وموسى عند ربّهما ، فحجَّ آدمُ موسى ، قال موسى : أنت آدمُ الذي خلقَكَ الله بيده ونفخَ فيكَ من روحه وأسجدَ لكَ ملائكتَه ، وأسكنكَ في الجنّة ، ثمّ أهبطت الناس بخطيئتك الى الأرض فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقرّبكَ نجيّاً ، فبِكَمْ وجدتَ الله كتبَ التوارة قبل أن أخلَق ؟ قال موسى : بأربعين عاماً . قال آدم : فهل وجدتَ فيها : وَعَصَى آدمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ ؟ قال : نعم قال : أفتلومني على أن عملتُ عملاً كتَبه الله عليَّ أن أعملَه قبلَ أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله ) : فحجَّ آدمُ موسى ( عليه السلام ) " . والمعتزلة طعنوا في هذا الحديث من وجوه : أحدها : أنّ هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذمَّ آدمَ على الصغيرة ، وذلك يقتضي الجهلَ في حقّ موسى ( عليه السلام ) ، وذلك غير جايز . وثانيها : إنّ الولدَ كيف يُشافه الوالدَ بالقول الغليظ ؟ وثالثها : إنّه قال : " أنتَ أشقيتَ وأهبطتَ الناس من الجنّة " وقد علِم موسى أنّ شقاء الناس وإخراجهم من الجنّة لم يكن من جهة آدم ، بل الله أخرجه منها . ورابعها : إنّ آدم احتجّ بما ليس حجّةً . إذ لو كان حجّة ، لكان لفرعونَ وهامانَ وسائر الكفار أن يحتجّوا به ، ولمّا بطل ذلك ، علِمنا فسادَ هذه الحجّة . وخامسها : إنّ الرسولَ صوّبَ آدمَ في ذلك ، مع أنّا بيّنا أنّه ليس بصواب ، إذا ثبت هذا وجب حملُ الحديث على أحد ثلاثة أوجه : أحدها : إنّه ( صلّى الله عليه وآله ) حكى ذلك عن اليهود - لا انّه حكاه عن الله أو عن نفسه - واشتبه على الراوي . وثانيها : انه قال : " فحجّ آدم - منصوباً - أي : إنّ موسى جعلَه محجوجاً . وثالثها : وهو المعتمَد أنّه ليس المراد من المناظرة الذمّ على المعصيَّة ، ولا الاعتذار منه بعلم الله ، بل موسى سأله عن السبب الذي حملَه على تلك الزَّلة حتّى خرجَ بسببها من الجنَّة ، فقال آدمُ : إنّ خروجي منها لم يكن بسبب تلك الزلّة ، بل بسبب أنّ الله تعالى كان قد كتَب عليَّ أن أخرج إلى الأرض وأكونَ خليفة فيها ، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوارة ، فلا جرم كانت حجّة آدمَ قويّة ، وصار موسى في ذلك كالمغلوب . واعلم أنّ الكلام يؤدّي الى التطويل ، وإلاّ لأّجبتُ عن تلك الوجوه الخمسة متفصّيا ، ولناقَضتُ لهذه الوجوه الثلاثة مفصِحاً عن فسادها ، فاضحاً لقصور قائلها ، كاشفاً عن اختلال أحواله ، وبطلان مقاله ، واعوجاج سبيله ، وانبتات سلوكه لفقدان دليله ، حيث لا حجّة ولا برهان ، ولا حديث ولا قرآن ، ولا عقل ولا ايمان . قال بعض أكابر الحكماء في وصفهم عندما نقَل بعضاً من الآراء السخيفة عنهم في إثبات شيئيّة المعدوم وثبوت الأحوال : " وهؤلاء قومٌ نبَغوا في ملّة الإسلام وما كانت لهم أفكارٌ سليمةٌ ، ولا حصَل لهم ما حصل للصوفيّة من الأمور الذوقيّة ، ووقع بأيديهم ممّا نقل جماعةٌ في عهد بني اميّة ، من كتب قوم كانت أساميهم تُشبه أسامي الفلاسفة ، فظنَّ القومُ أنّ كلّ اسم يوناني [ هو ] اسم فيلسوف ، فوجدوا فيها كلمات استحسنوها وذهبوا عليها وفرّعوها رغبة في الفلسفة ، وانتشرت في الأرض وهم فرِحون بها ، وتبعَهم جماعةٌ من المتأخّرين وخالفوهم في بعض منها ، إلاّ انّ كلّهم إنّما غلَطوا بسبب ما سمعوا أسامي يونانيّة لجماعة صنّفوا كتباً يتوهم انّ فيها فلسفةً - وما كان فيها شيء منها - فقبِلَها متقدّموهم ، وتبَعهم فيها المتأخّرون ، وما خرجت الحكمةُ عن يونان ، إلاّ بعد انتشار أقاويل عامّة اليونان وخطبائهم وقبول الناس لها . ولنرجع الى طريق العقل في هدم قاعدة الاعتزال ، بعد أن ذكرنا من طريق السمع ما يليق بذلك من الأقوال . تبصرة عقلية [ علمه تعالى وقضاؤه ] قد علمت أنّ جميع الأشياء صادرة من الله تعالى وهو عالِمٌ بصدورها عنه راضٍ بذلك غير كاره ، وهذا معنى مختاريّته الخالي عن النقص والقصور والتغيّر . وقد ثبتَ في العلوم اليقينيّة : أنّ العلمَ بالسبب التام يستلزم العلمَ بالمسبّب ، فإذاً كان تعالى عالِماً في الأزل بجميع الموجودات الروحانيّة والجسمانيّة ، والعلويّة والسفليّة على ما هي دفعة واحدة من غير تجدّد وانفعال في علمه - وهو معنى قضائه - ويكون مخرِجاً إيّاها من القوّة الى الفعْل شيئاً بعد شيءٍ على سبيل التجدّد والانقضاء على التفصيل - وهو معنى قدره - ، وقد ثبت أنّ كلّما لم يجب لم يوجَد ، فقضاؤه نافذٌ في قدَره ، حاكمٌ على كل أحد من هذا العالَم في نفعه وضرّه وخيره وشره ، فالإيمان بالقدَر واجبٌ من هذه الجهة ، والرضا بالقضاء فرضٌ متحتّم من هذا البرهان . كما ورد في الحديث الإلٰهي : " من لم يرضَ بقضائي ولم يصبر على بلائي فليبعدْ رباً سوائي وليخرج من أرضي وسمائي " . ومن الأحاديث المستفيضة الشائعة بين طوائف العلماء المتَّفق عليها ، ما رواه محمد بن عقوب الكليني رحمه الله في باب الجبْر والقدَر والأمر بين الأمرين منه عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، وإسحق بن محمد ، وغيرهما رفعوه ، قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبَل شيخٌ فجثا بين يديه ، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين ، أَخبرِنا عن مسيرنا الى أهل الشام ، أبقضاء من الله وقدَر ؟ فقال له أميرُ المؤمنين ( عليه السلام ) : أجَلْ يا شيخ ، ما عَلَوتُم تلعةً ولا هبطتم بطنَ واد إلاّ بقضاء من الله وقدَرٍ ، فقال له الشيخ ، عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له : مَهْ يا شيخ ، فوالله لقد عظّم الله لكم الأجرَ في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مُقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرَفكم وأنتم منصرفون . ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرَهين ، ولا إليه مضطرّين . فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرَهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدَر مسيرُنا ومنقَلبنا ومنصرَفُنا ؟ فقال : أو تظنّ أنّه كان قضاء حتماً وقدَراً لازماً إنّه لو كان ذلك كذلك ، لبطلَ الثوابُ والعقابُ ، والأمر والنهي ، والزجرُ من الله وسقط معنى الوعْدِ والوعيدِ . فلم يكن لائِمةٌ للمذنبِ ، ولا محمَدةٌ للمحسِن ، ولكان المذنبُ أولى بالإحسان من المحسِن ، وكان المحسنُ أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدةِ الأوثان ، وخُصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ، وقدَريّة هذه الأمّة ومجوسها ، إنّ الله تباركَ وتعالى كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُعطِ مكرَهاً ولم يملك النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً : { ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ ص : 27 ] . فانشأ الشيخ : @ أنتَ الإمامُ الذي نرجو بطاعتهِ يومَ النجاةِ من الرحمٰنِ غُفرانا أوضحتَ من أمرنا ما كان ملتبسا جزاكَ ربُّك بالإحسانِ إحسانا @@ ومما رواه أيضاً عن عليّ بن إبراهيم [ عن أبيه ] عن اسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن قال : قال لي أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) : يا يونس ، لا تقل بقول القَدَريّة ، فإنّ القدَريّة لم يقولوا بقول أهل الجنّة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس ؛ فإنّ أهل الجنّة قالوا : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } [ الأعراف : 43 ] . وقال أهل النار : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } [ المؤمنون : 106 ] . وقال إبليس : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] . الحديث . وروى أيضاً عن الحسين بن محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشّا ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : " من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاءِ فقد كذبَ على الله . ومن زعم أنّ الخيرَ والشرَّ إليه فقد كذبَ على الله " - الظاهر أنّ الضمير في " إليه " راجعٌ الى الموصول . وعن الحسين ، عن معلّى ، عن الحسن بن علي الوشّا ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : سألته فقلت : الله فوَّضَ الأمرَ إلى العباد ؟ قال : الله أعزُّ من ذلك ، قلتُ : فجبَرهم على المعاصي ؟ قال : الله أعدلُ وأحكمُ من ذلك ، ثمّ قال الله : يا ابن آدم ، أنا أَوْلىٰ بحسناتِك منكَ . وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملتَ المعاصي بقوّتك التي جعلتُ فيك . وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة الله ، فقد أخرج اله من سلطانه . ومن زعَم أنّ المعاصي بغيره قوّة الله ، فقد كذب على الله . وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) سأل عنه رجلٌ قال : قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : لا ، قال : قلت : ففوّضَ إليهم الأمَر ؟ قال : لا ، قلتُ : فماذا ؟ قال : لطفٌ من ربّك بين ذلك . عُقدة وحَلّ [ اختيارنا في أفعالنا ] ولمّا ثبت وتحقّق ممّا ذكر من الكلام أنّ كلّ ما يقع في هذا العالَم أو سيقع مقدّر مكتوبٌ بهيئته وزمانه ووضعه ومكانه في عالم آخر ، فإن اشتبه عليك أيّها القدَري حالُ الأفعال المنسوبة الى الاختيار ، وتخيّل لك أنّها على هذا التقدير واقعة بالاضرار والإجبار ؛ فما بالنا نتصرفُ فيها بالتدبير والتغيير ، ونصرّفها بالتقديم والتأخير ، ونجد الفرق بين المجبور عليه والمخيّر ، والمختار والمضطرّ في جريان الأمر الإلٰهي في مجاري القضاء والقدر . وتفكّر في ترتيب سلسلة الأسباب والعلل ، واعلم أنّ قدرةَ العبد وإرادته وعلمه وشوقه من الأسباب القريبة لفعله ، وهي مستندة بأسباب أخرى متوسطة ، وأخرى بعيدة ، حتى تنتهي الى قدرة الله وعلمه وإرادته ومشيئته وقضائه وقدَره . فالقضاءُ والقدَر ، إنّما يوجبان ما يوجبان بتوسّط أسبابٍ وعللٍ بعضها مقدّمات مدبّرات ، كالملائكة السماوية ، عقليّة كانت أو نفسيّة ، قلميّة كانت أو لوحيّة وبعضها فاعلات محرّكات وموجبات مقتضيات ، كالمبادي العالية من الجواهر الفلكيّة والصوَر المنطبعة ، وبعضها قوابل واستعدادات ذاتيّة وعارضيّة . والصور اللاحقة الماديّة والأوضاع الفلكية والأمور الاتفاقية كالإدراكات والإرادات الإنسانية ، والحركات والسكنات الحيوانيّة ، تختصّ بحال دون حال ، وبصورة دون صورة ، ترتّباً وانتظاماً معلوماً في القضاء السابق . فاجتماع تلك الأسباب والشرائط ، مع ارتفاع الموانع ، سببٌ تامٌّ يجب بها وجودَ ذلك الأمر المدبَّر المقضيّ المقدّر ، وعند تخلّف شيء منها ، أو حصول مانع ، يبقى في حيّز الإمكان أو الامتناع ، فإذا كان من جملة الأسباب - وخصوصاً القريبة - وجودُ هذا الشخص الإنساني وعلمه وإرادته وقدرته وتشوّقه وتفكّره وتخيّله اللذان هما مختار أحد طرفي الفعل والترك ، كان ذلك الفعل اختياريّا واجباً وقوعه بجميع تلك الأمور التي هي علّة تامّة لوجود المقدور ، ممكناً بالنسبة الى كل واحد منها ، فوجب الفعل لا ينافي اختياريّته . كيف ! وقد مرّ أنّ الشيء ما لم يجبْ لم يوجَد . فإن قلت : مع حصول القُدرة والإرادة إن كان الترك ممكناً ، لم يكن الفعل واجباً ، وإن لم يكن ممكناً لم يكن العبدُ مختاراً ؟ قلت : التركُ غير ممكن ، ولا يلزم من ذلك أن يكون مختاراً ، فإنّ الفعل الاختياريّ ما يكون الاختيار من جملة أسبابه ، ويكون صدوره موقوفاً بالاختيار ، لا ما يكون ممكناً على تقدير تحقّق علّته التامّة التي من جملتها الإرادة . عقدة وَحَلّ [ لِمّية التكليف ] ثمّ إذا رجعت إلينا ثانياً وقلت : فما فائدة التكليف على هذا التقدير ؟ لأنّه إذا كانت الأسبابُ العالية مقتضية ، والقوابل السفلية حاملة ، والاستعدادات الماديّة مهيّئة ، أو متأبّية معوّقة ؛ فصدور الفعل إمّا واجب او مستحيل ، وعلى أي الوجهين فالتكليف بالأفاعيل عبثٌ . وأيّ فائدة للتكليف بالطاعات ، وبعثة الأنبياء بالمعجزات والآيات ، وأيّ تأثير للسعي والجهد وأي توجيه للوعيد الوعْد ، وما معنى الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] إذا كان الكلُّ بالتقدير والقضاء ؟ إذ مدار التكليف والسعي والجهد والوعيد والوعْد على الاختيار ، لا على الإجبار والاضطرار . قلنا : فائدة التكليف والوعْد الوعيد ، تحصيل الشوق الذي هو مبدأ الإرادة للأفعال الجميلة ، فإنّ المراد ها هنا بالإرادة : هي العزيمة الثابتة الباعثة الجازمة على الفعل أو الترك ، فإذا أدركنا شيئاً وعلمناه ؛ فإن اعتقدنا ملائمة أو منافرة لنا دفعة بالتوهّم أو ببديهة العقل ، انبعث منه شوق الى جذبه او دفعه يتبعه إرادة ، فإذا انضمّت الى المقدرة ، انبعثت تلك القوّة لتحريك الأعضاء ليحصل الفعل بالاختيار ، وإن لم نعتقد بالضرورة ، الملائمة والمنافرة ، أعملنا الرويَّة ، واستعملنا القُوى الدرّاكة لطلب الترجيح بإرادة عقليّة أو وهميّة . فربما كان ملائماً ببعض الوجوه ، غير ملائم ببعضها ، أو ملائماً للحسّ ، غير ملائم للعقل ، أو بالعكس ، أو نافعاً في العاجل غير نافع في الآجل ، أو بالعكس ، ويحدث بسبب كلّ ملائمة داعٍ ، وبحسب كلّ منافرةٍ صارف ، ويترجّح عزْم أحد طرفَي الفعل والترك بحسب ترجيح دواعيه ، وعند تعارض الدواعي وتكافؤ الأشواق ، يقع التحيّر ، ونستعمل القوّة الفكريّة حتى يسنح ما يرجّح أحد الطرفين ، فنفعل بحسبه . فنقول : كما تفطّنتَ أنّ الأشياء الداخلة في وجود الإنسان كالعلم والقُدرة والإرادة من جملة أسباب الفعل ، فاحدسْ أنّ هذه الأمور الخارجة أيضاً من جملتها ، فالدعوة والتكليف ، والإرشاد والتهذيب ، والوعد والترغيب ، والإيعاد والتهديد ، أمورٌ جعلها الله مهيّجات الأشواق ، ودواعي الى الخيرات والطاعات ، واكتساب الفضائل والكمالات ، ومحرّضات على أعمال حسنة ، وعادات محمودة ، وملكات مرضيّة ، وأخلاق فاضلة نافعة لنا في معاشنا ومعادنا ، يحسن بها حالنا في دنيانا ويحسن بها سعادة عقبانا . أو محذّرات عن أضدادها من الشرور والقبائح والذنوب والرذائل ، مما يضرّنا في العاجل ، ونشقى بها في الآجل . وكذلك السعي والجدّ والتدبير والحذر ، إذا قدّرت مهيّئة لمطالبنا ، موصِلة إيّانا الى مقاصدنا ، مخرِجة لكمالاتنا من القوّة الى الفعل ، فجعلت أسباباً لما يصل إلينا من أرزاقنا ، وما قدّر لنا من معايشنا ، أو هيّىء لنا في آخرتنا ، أو لما يصرفه الله عنّا من المكاره ويدفع عنّا من المضارّ والمفاسد ، لم يحصل ذلك إلاّ بها ، وكانت تلك الوسائط أيضاً مقدّرة لنا ، واجبة باختيارنا ، كما قال عليه وآله السلام لمن سأله : " هل يغني الدواء والرقية من قدَر الله ؟ قال : الدواء والرقية أيضاً من قدَر الله " . ولما قال ( عليه السلام ) : جفّ القلمُ بما هو كائنٌ ، قيل : ففيمَ العمل ؟ فقال : اعملوا ، فكلٌّ ميسَّر لما خُلق . ولما سئل : أنحن في أمر فُرغ منه ؟ قال : في أمر مفروغ منه وفي أمر مستأنف . ومن هذا عُلم أنّ كل ما يصدر عنّا من الحركات والسكَنات ، والحسَنات والسيِّئات ، محفوظةٌ مكتوبةٌ علينا ، واجبٌ صدورها عنّا مع كونها باختيارنا ، كما قال : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 - 53 ] وغير ذلك من الآيات التي نقلناها . فهذه معرّفات لسعادتنا وشقاوتنا في العقبى ، ليست بموجبات ، وكذلك ما يصل الينا من الرغائب والمكاره ، كما قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : " واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء كتبه الله عليك ، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف " . تحقيق حكمي [ لا جبر ولا تفويض ] وإذا ثبت وتحقّق انّ جميع الممكنات ، وسلسلة الأسباب التي من جملتها قدرة العبد وإرادته وعلمه ، وشوقه ومشيئته ، مستندة الى مشيئة الله وعلمه ، مثبتة في قضائه وقدَره ، وأنّ من الأسباب القريبة الظاهرة لأفاعيلنا إنّما هي قدرتنا وإرادتنا فمَن نظَر اليها قاصراً نظره الى هذه الأسباب القريبة ، قال بالقدَر والتفويض ، أي واقعةٌ بتقديرنا ، مفوّضةٌ الى تدبيرنا . قال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : " القَدريّة مجوس هذه الأمَّة " ، لأنّهم يثبتون مبدأين كالمجوس القائلين بيزْدان ، , وأَهْرِمَن . ومن نظرَ الى السبب الأوّل ، وعلِم كون تلك الأسباب والوسائط بأسرها مستندة على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات الى الله استناداً واجباً وترتيباً معلوماً على وفْق القضاء والقدَر ، وقطَع النظر عن الأسباب القريبة مطلقاً ، قال بالجبر ، وخلْق الأفعال ، ولم يفرّق بينها وبين أفعال الجمادات . وكِلاهما أعور يبصر بإحدى عينيه . أما القدريّة فبالعين اليُمنى - أي النظر الأقوى الذي به يدرك الحقائق - وأما الجبريّة فباليسرى - أي الأضعف الذي به يدرك الظواهر - فأما من نظَر حقّ النظر فأصاب ، فقلبُه ذو عينين ، يبصر الحقَّ باليمنى فيضيف الأفعال إليه خيرها وشرّها ، ويبصر الخلْق باليُسرى فيثبت تأثيرهم في الأفعال به سبحانه لا بالاستقلال ، ولا بمعنى الاشتراك كما توهّم بل بمعنى آخر يعلمه العارف الحكيم ، وأشار اليه الصادق ( عليه السلام ) " لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين " ، فيذهب اليه ويتذهّب به وذلك هو الفضل الكبير . روى صاحب الكافي رحمه الله ، عن عليّ بن ابراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس عبد الرحمن [ عن غير واحد ] عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليهما السلام ) قالا : إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقَه على الذنوب ثمّ يعذبهم عليها ، والله أعزُّ من أن يريد أمراً فلا يكون . قال : فسئلا ( عليهما السلام ) : هل بين الجبر والقدَر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض . وعن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن صالح بن سهل ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : سئل عن الجبر والقدر ؟ فقال : لا جبَر ولا قدَر ولكن منزلة بينهما ، فيها الحقّ التي بينهما ؛ لا يعلمها إلاّ العالِم أو من علّمها إيّاه العالِم . وأما من أضاف الأفعال الى الله تعالى بنظر التوحيد ، وإسقاط الإضافة ، ومحو الأسباب والمسببّات كما هي عليها عند الغايات ، وعند فناء الممكنات ، لا بمعنى خلْق الأفعال فينا ، أو خلق قدرة وإرادة جديدتين مستقلّتين عند صدور الفعل عنّا - كما عليه المجبرة - ، فهو الذي طوىٰ بساطَ الكون ، وخلص عن مضيق البون ، وخرج من البين والأين وفني في العين ، لكنّه تروّح في المحْو ، ولم يجئ الى الصحْو ، مستغرقاً في عين الجمع ، محجوباً بالحقّ عن الخلْق ، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبَحات وجهه وذاته ، الى ملاحظة صفاته ، فاضمحلّت الكثرة في شهوده ، واحتجب التفصيل عن وجوده ، وذلك هو الفوز العظيم . فإذا رجع الى الصحْو بعد المحو ، نظَر الى التفصيل في عين الجمع ، غير محتجب برؤية الحق عن الخلْق ، ولا بالخلْق عن الحقّ ، ولا مشتغلاً بوجود الصفات عن الذات ، ولا بالذات عن الصفات ، فذلك هو الوليّ المحقّ ، والصديق المحقّق ، صاحب التمكين والتحقيق ، ينسب الأفعال الى الله بالايجاد ، ولا يسلبها بالكليّة عن العباد ، كما في قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . وذلك هو الفوز العظيم والمنُّ الجسيم . عقدة وَحَلّ [ بماذا يتفاضل السعيد على الشقي ] ولعلّك تضطرب أيّها القدَريّ وتصول ، فتقول : إذا كانت الفضائل والرذائل والمحاسن والقبائح ، والطاعات والمعاصي ، وبالجملة الخيرات والشرور كلّها مقدّرة مكتوبة علينا قبل صدورها منّا ، معجونة فينا ، مربوطة بأوقاتنا التي تصدر فيها عنّا ، فما بالُنا لا نتساوى فيها ولا نتعادل ؟ ولِمَ لا نتشاكل فيها ونتماثل ؟ وكيف نحترز عمّا يجب الاحتراز عنها ، فننجو من وَبالِها وتَبعاتها ؟ وبأيّ شيء يتفضّل السعيد على الشقيّ وقد تساوَيا فيما قدِّر لهما ؟ وأين عدلُ الله فينا وقد قال تعالى : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] . فنجيبك أيّها القدريّ بما قد مرّ ذكره في تفسير قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] من أنّ الاستعدادات مختلفة ، والصور النوعيّة الفائضة عليها من جهة الوسائط العقليّة الّتي ( هي ) مظاهر الأسماء الإلٰهيّة متنوّعة ، فالأرواح الإنسيّة بحسب الفطرة الأولى متباينة ، وفي درجات القُرب والبُعد من الله تعالى متفاوتة ، وفي مراتب الصفاء والنوريّة والكدورة والظلمة متخالفة . والموادّ السفليّة التي هي بإزائها أيضاً متفاوتة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي ، فقابليّتها لما يتعلّق بها من الأرواح متباينة ، وقد قدّر الله بإزاء كلّ روح فيضها في قضائه ، ما يناسبها من الموادّ ، وحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والادراكات دون بعض ، موافق لبعض الأعمال والصناعات دون بعض ، على ما قدّر لها في العناية الأولى والقضاء السابق ، كما قال : " الناسُ معادن كمعادِن الذهب والفضَّةِ " وتتفاوت العقول والإدراكات ، والأشواق والإرادات ، بحسب اختلاف الطبائع والغرائز ، فينزع بعضهم بطبعه الى ما ينفر عنه الآخر ، ويستحسن أحدهما بهواه ، ما يستقبحه الثاني . والعناية الإلهيّة تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن . وأما كيف السبيل الى الاحتراز عمّا يجب الاحتراز عنه ، فإنّ شريف النفس ، نجيب الجوهر ، طيّب الأصل ؛ قلّما يهمّ بشيء ممّا ليس في فطرته ، ولم يقدّر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة ، وإذا همّ نادراً لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه ، ولاستيلاء داعية من دواعي الوهم وهيجان من شهوة ، زجرَه زاجرٌ من عقله . وهذا كما قال تعالى في حقّ يوسف ( عليه السلام ) : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] . فإذا كان دون ذلك في صفاء الاستعداد ، فلا ينزجر الاّ بزجْر زاجر من الشرع والسياسة ، والناصح والأديب وغير ذلك ، ويستحيي منه ، وإذا همّ بشيء مما فطربه من المحاسن ، وَجَدَ باعثاً من عقله ودرايته ، وناصراً من توفيقه وهدايته ، فيقدر عليه بشوقه وشغفه لمناسبته إيّاه ، لا ينتهي عنه بدفع دافعٍ ولا يمنعه منعُ مانعٍ ، وإن كان دون ذلك ، احتاج الى محرّض باعثٍ ومشوّقٍ من خارج . والخسيسُ النفسِ ، الخبيثُ الجوهرِ ، الرديُّ الأصلِ ، بالعكس ، وكل يشتاق الى ما يفعله بطبعه وبحبّه ويستحسنه ، وإن كان الثاني يعمل أنّ ضده أجود وأحسن ، كمحبّة الزنجي ولده مع قُبحه ، دون الغلام التركي مع علمه بحسنه ، وأما حديث السعادة والشقاوة فيسأتي تحقيقه . عقدة اخرى وَحَلّ [ لماذا الثواب والعقاب ] ثمّ لعلك تعود وترجع الى حال الثواب والعقاب فتقول : إذا كان الكلّ بقضاء الله وكتابه ، فلِماذا يعاقَب من ساقَه القدرُ الى ارتكاب خطيئة أو اقتراف سيّئة ؟ فنُجيبكَ يا أخا القدرَيّ : بأنّ العقابَ على فعل السيئات والخطيئات ، ليس لمنتقمٍ خارجيّ غضبان يريد أن ينتقمَ من عدوِّه نيلاً لما يطلبه من إزالة ألم الغيظ ؛ أو التشفيّ عن حرقة لهب الغضَب ، بل النفسُ العاصيةُ الخاطئةُ ، هي حمّالةُ حطب نيرانها الى يوم القيامة . فإنّها ستحترق بنيران عقائدها الباطلة ، وشهواتها الكامنة ، وتلتدغ بحيّات وعقارب منبعثة عند الآخرة من سموم أخلاقها وعاداتها الرديّة . فمن ساء عملُه ، وأظلم جوهرُ نفسه ، وكدّر مرآةُ فطرته ، وأخطأ في اعتقاده واحتجب عن مراده بحسب ما اقتضاه في أصل استعداده ، فقد ظلَم نفسَه بظلمة جوهره ، وبطلان استعداده ، فكان أهلاً للشقاوة في مرجعه ومعاده ، ينادى على لسان المالك : " مهلاً ، فيَداك أوكتا وفوكَ نفخ " كما قال سبحانه : { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] وقوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 33 ] . فثبت وتحقّق ، أنّ ترتّب العقوبات ومقابلاتها من المثوبات ، هي ثمراتٌ ولوازم ، وتبعات وعوارض لأمور موجودةٍ فينا بالقوّة ، تخرج اليوم الآخر من القوّة الى الفعل ، بل هي مطويّةٌ في نفوسنا في هذه النشأة ، مكمونةٌ في مكامن الطبيعة وغشاوات المادّة ، فإذا قامت القيامة وكُشف الغطاء ، وحُشرت النفوس ، ونُشرت الصحائف ، أظهرها الله وأبرزها ، بحيث تترتّب عليها المثوبةُ والعقوبة ، وتنبعث منها النعمةُ والنِّقمة ، والراحةُ والمصيبة ، والنعيم المقيم والعذاب الأليم . عقدة اخرى وحَلّ [ الخلود في النار ] ولك أن تقول : إنّ الذي بقي من الإشكالات المتعلّقة بهذا المقام ، والعقود المفصلة الغير المنحلّة الى الآن عند جمهور العلماء وأهل النظر والكلام - إلاّ من نوّر الله بصيرتَه بنور الكشف - إعضالُ خلودِ الكفار في النار بالعذاب الدائم ، فإنّ شيئاً ممّا ذُكر من الأسباب الفاعلة ، والمدبّرات العالية ، لا يوجب ذلك - لأنّها مبرّأة عن الشرور والنقائص - ولا شيئاً من القوابل الماديّة يحتمل التعذيب الدائم والانفعال الغير المتناهي - كما بيّن في مقامه - والرحمةُ الإلٰهيّة التي وسعتْ كلَ شيءٍ تنافي التعذيبَ الدائم - كما مرّت الإشارة إليه عند قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الفاتحة : 7 ] . وهذه إحدى المسائل التي من مواضع الخلاف بين علماء الكشف وعلماء الرسوم ، بل هي موضع الخلاف بين علماء الكشف بعضهم مع بعض أيضاً ، فإنّهم اختلفوا على يُسَرْمد العذاب عليهم الى ما لا نهاية له ، أو يكون لهم نعيمٌ بدار الشقاء ، فينتهي عذابُهم الى أجلٍ مسمّى ؟ مع الاتّفاق للجميع على عدم خروج الكفّار من دار البوار ومحلّ الأشرار ، وأنّهم ماكثون . قلنا : كلّ ما ذكرتَ في باب الاستحالة في صدور التعذيب الأبدي والايلام السرمدي ، وقبولهما من الجهات الفاعلة والقابلة ، ومخالفة ذلك للرحمة والعناية المقتضيتين لحفظ النظام ، وإقامة القوام ، وإبقاء الأنواع بالديمومة السرمديّة بتعاقب الأفراد وتوارد الأعداد ، إنّما يقتضي الاستحالة والامتناع ، إذا كان المعذَّب واحداً شخصيّاً ، على صورة واحدة ، واستعداد واحدٍ لقابلٍ واحد . وأما إذا كانت الصوَر متواردة على قابلٍ واحد ، والاستعدادات متعاقبة لمادّة واحدة ضعيفة الوحدة واهنة الوجود ما بين صرافة الوجود الفعليّة ، ومحوضة العدم والقوّة ، كما فصح عنه قوله تعالى : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] فتواردُ العقوبات الإلٰهيّة ، وتعاقب التعذيبات والنقمات الجبّارية ، على حسب توارد الصوَر المستقبحة ، وتعاقب الاستعدادات الظلمانيّة في أزمنة متمادية الى ما لا نهاية له ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] . مما لا ينافي شيئاً من الأصول الحِكَميّة والقواعد العقليّة والسمعيّة . فأهل الحجاب الكلّي والشقاء الطبيعي ، ممّا لا طريق لهم إلا طريقَ جهنّم ، ومسلك الطبيعة والهوى ، وانسدّت عليهم سبل الاهتداء والاتقاء من هذه الهاوية السفلىٰ ، ولا يفتّح لهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنّة والمنزل الأعلى ، والأصول الحكميّة دالّة على أنّ القسر لا يدوم على طبيعة واحدة ، وأنّ لكلّ موجود غاية يصل اليها يوماً ، وأنّ الرحمة الإلٰهيّة نائلة لكلّ أحد ، واسعة على كلّ شيء ، كما قال تعالى : { عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . وعندنا أيضاً أصول دالّة على أنّ الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها ، كما أنّ الجنّة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها ، إلاّ انّ الدوام في كلّ منهما على معنى آخر ، ولكلّ من الدارين عمّار من أهلها . ولهذا المقام شروحٌ كثيرةٌ وتحقيقات لطيفةٌ واستبصارات شريفةٌ ، ذكرنا طرفاً منها في آخر سورة الفاتحة ، وشطراً صالحاً في كتاب الشواهد الربوبيّة ، وسنستقصي القول فيها في مواضع متفرّقة من هذا التفسير ، إن ساعدَتني المشيّة الإلٰهيّة النافذة في التقدير ، وفيما ذكرنا كفايةٌ ها هنا ، ولنرجع الى ما نحن بصدده ، مستعينين بالله وتوفيقه وتسديده .