Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 11-11)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" التوفّي " و " الاستيفاء " بمعنى واحد ، فالمتوفي للنفوس والأرواح هو المخرج لها كلها من الأبدان ، بحيث لا يترك منها شيئاً ، من قولك : " توفيت حقي من فلان " " واستوفيته " إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان . وفي الكشّاف ، نقلا عن مجاهد : " حُوِيَت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء " ، وهذا تمثيل لتصرفه في جذب الأرواح إلى الله تعالى من أصول الأشباح ، كجذب الثمار بالقوة النامية من أسافل الشجر إلى أعاليها ، وقريب منه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : جُعِلَت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء الله إذا قضى عليه الموت من غير عناء ، خطوته ما بين المشرق والمغرب . وقيل : ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها . وعن قتادة : يتوفاهم ملك الموت ومعه أعوان كثيرة من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . ووجه ذلك : ان نزع الصورة الشريفة من مادة غير لائقة ، وقبض الروح من بدن إلى عالم آخر أعلى رتبة منه ، رحمة بالقياس إلى الصورة المنتقلة ، وعذاب بالقياس إلى المادة المنتقلة هي عنها ، فالملائكة النقّالة والقوى الفعّالة موكلة من عند الله لايصال الرحمة إلى مستحقيها ، والطبائع المنفعلة والقوى الحافظة لصورة المادة السفلية المفارقة عن الأرواح العالية ، هي من سدنة العالم الأدنى ، وهي المسماة بملائكة العذاب ، وإن كانت في فعلها رحمة ومصلحة بوجه آخر . فعلى هذا المراد بملك الموت الجنس كما ذهب إليه جمع ، ويدل عليه قوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] . ونسبة القبض والتوفي إلى ملك الموت وأعوانه من قبيل نسبة الفعل إلى الآلة ، لئلا ينافي قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] ، ويلائم ذلك قوله تعالى : { ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } ، إذ التوكيل تفويض الأمر إلى غيره للقيام به ، وليس ها هنا تفويض محض ، ولا جبر محض ، بل أمر بين أمرين أي وكل ملك الموت بقبض أرواحكم أجمعين ، أو واحداً واحداً حتى لا يبقى أحد منكم . ثم إلى ربكم تُرجعون بجذبة " ارجعي " ، وإن كان الواصل إلى حضرته هم النفوس المطمئنة ، فاختص هذا الخطاب بهم في قوله تعالى : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 27 - 28 ] ، والباقون يُحشرون إلى جزاء ربهم من الثواب والعقاب . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت ، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه ، فقال : يا أيها العبد ، كم خبر بعد خبر ؟ وكم رسول بعد رسول ؟ وكم بريد بعد بريد ؟ أنا الخبر الذي ليس بعدي خبر ، وأنا الرسول . أجب ربك طائعاً ومكرهاً . فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه ، قال : على من تصرخون وعلى من تبكون ؟ فوالله ما ظلمت له أجلاً ، ولا أكلت له رزقا ، بل دعاه ربه ، فليبكِ الباكي على نفسه ، فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحداً " . وهذا الحديث قد دل على ما بيّناه ، من كون القابض للأرواح إنما نصب من الله لإيصال كل أحد إلى جوار الله ورحمته ودعوة ربه ، لا للنقمة والعذاب ، إلاّ أن النفوس الشقيّة الجاهلة بنعمة الله ورحمته ، تستوحش من الحق لا لفهم بهذا العالم وأنسهم بالحشرات واعتيادهم باللّذات الخسيسة ومقارنة المؤذيات ، كما أشار إليه قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " فليبكِ الباكي على نفسه " . رموز قرآنية ولوائح ربّانية منها : أنه يستفاد للمتأمل في هذه الآية ونظائرها أنك قاصد إلى ربك منذ يوم خلقت نطفة في الرحم وتعلقت بها نفسك ، فإنك أبداً منتقل من حالة هي أدون إلى حالة هي أعلى وأشرف ، ومن مرتبة هي أنقص إلى أخرى هي أتم وأكمل ، وهكذا إلى أن تلقى ربك وتشاهده ويوفيك حسابك ، فإن لم تتعلق بك أثقال وأوزار من جنس هذه الدار الفانية ، فتبقى عنده مخلدة مسرورة دهر الداهرين مع النبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا ، وإلاَّ فتكون من الخاسرين والمنكوسين والمتردّين إلى أسفل السافلين ، ومما ينبه على ذلك قوله سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الإنشقاق : 6 ] - إلى قوله - { كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ الإنشقاق : 13 ] . ومنها : إن هذه الآية وقعت جواباً تفصيلياً للشبهة المنقولة عن المنكرين للمعاد وحشر الأجساد ، بعد الجواب الأول الإجمالي على الوجه الذي أوضحناه بفضل الله وإلهامه ، إذ قد علمت أن توجه النفوس والأرواح إلى عالم المعاد وقرب المبدأ الجواد أمر فطري فطر عليه العباد ، لأن الموت نوع من الاستكمال ، لأنه بالقياس إلى الروح العلوي وجود وحياة ، وبالقياس إلى البدن العنصري المركب والهيكل المحسوس عدم وموت ، ولكل استكمال بعد استكمال ، لا بد من وسائط بين الله وبين الخلق هي المسماة بملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وقد يختلفان بحسب الإضافات كما أشرنا إليه ، فملَك الموت يقبض الأرواح من عالم أدنى إلى عالم أعلى ، ونفس هذا القبض إماتة في هذا العالم وإحياء في عالم الآخرة ، ولهذا يسمى بأبي يحيى ، لا بما ظن من أنه من باب تسمية الشيء باسم ضده كما هو من عادة العرب ، بل في تسميته بهذا روعي كلا الوجهين بحسب النسبتين . ووجه كون الآية بياناً وموضحاً لمسألة الحشر الجسماني ، أن أجناس العوالم مختلفة بعضها فوق بعض ، وقد ثبت في الحكمة الإلهية ، أن الطبيعة ما لم تستوف النوع الأخس لم تقصد النوع الأشرف ، وما لم تصل إلى العالم الأدنى لم تتخط إلى العالم الأعلى ، أوَلاَ ترى أن المني في الرحم يزداد كمالاً بعد كمال على الولاء حتى يصير إنساناً ، فيصير أولاً ذا نفس نباتية ، ثم حيوانية ، ثم بشرية ، من غير أن يطفر مرتبة من المراتب ؟ وإلى هذا المعنى أشار تعالى في كثير من الآيات الفرقانية كقوله : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] . وكقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } [ الواقعة : 58 ] . ثم لما كانت أجناس العوالم منحصرة في أربعة : اثنان منها روحانيان ، وهما عالما العقول والنفوس ، واثنان منها جسمانيان ، وهما عالما الغيب والشهادة ، فالأرواح الإنسانية لا بد أن ترتحل من هذه الدار الآخرة عند توجهها الجِبِلّي إلى الحق ، واستكمالها الفطري بحسب النشئآت والحالات ، فقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } برهان مبين وبيان متين لإثبات الحشر الجسماني عند من له توغل في القواعد الحِكَمية والقوانين العقلية . ومنها : أنه يجب أن يكون محققاً عندك أن مَلَك الموت وأعوانه لا يعدمان ، بل يفرق بينك وبين ما هو غير صفاتك وأجزاء ذاتك ، لأن القواطع البرهانية ، والسواطع القرآنية ، والإشارات النبوية ، والكلمات المولويّة قائمة على أن محل الإيمان والمعرفة لا ينعدم ، كما ورد في الحديث : " أن الأرض لا تأكل محل الإيمان " وورد أيضاً " خلقتم للبقاء لا للفناء " . فإذا تيقّنت هذا ، فاعلم أن للإنسان الكامل في أيّام كونه الدنيوي أربع حياتات : النباتية والحيوانية والنطقية والقدسية ، فالأوليان دنيويّتان ، والأخريان عقبويتان . مثال ذلك " الكلام " و " القول " ، فإن له حياة تنفسية كالنبات ، وحياة صوتية كالحيوان ، وحياة معنوية كالنفس المفكّرة ، وحياة حِكَمية كالنفس القدسية ، فإذا خرج الكلام من جوف المتكلم ودنياه ، دخل إلى باطن السامع وأخراه ، فورد أولاً في جوفه - أي في صدره - ، كما قيل : " صدور الأحرار قبور الأسرار " ثم إلى قلبه الذي هو آخر منزله ومأواه ، فإذا ارتحل من عالم التكلم إلى عالم السمع ، انقطع عنه الحياتان الأوليان - أي انقطع النفس وفني الصوت . ولا يخلو حاله بعد هذا عن أحد أمرين ، لأنه إمّا أن يقع في روضة من رياض الجنة ، وذلك إذا كان الجوف الذي دخل فيه صدراً منشرحاً بأنوار معرفة الله وإلهامات عالم ملكوته ، فيكون قرين ملائكة الله وعباده الصالحين الزائرين لهذا القبر ، وإما أن يقع في حفرة من حفر النيران ، وذلك إذا كان صدراً منشرحاً بالشر والفساد ، ومعدناً للشياطين والظلمات ، ومورداً للعنة الله ومقته أبداً مخلداً ، لقوله تعالى : { مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] . فإن من البواطن والصدور ما ينزل لزيارته في كل يوم وليلة ألف ألف من الأنبياء والأولياء ( عليهم السلام ) ، لغاية صفائه ونقائه ، وكونه مشحوناً بالمعارف الإلهية والعلوم الربّانية ، والعلم صورة المعلوم وحقيقته ، فهو روضة الجنان . ومن الأجواف ما يقع فيه في كل يوم وليلة ألف مجادلة ومخاصمة مع الناس ، ويكون معدن الكذب والظلم والوسواس ، ومنبع الوحشة والكدورة ، والغصة والعذاب الأليم واللعن المقيم ، فهو بعينه كحفرة الجحيم . فالقول والكلام إذا وقع في الصدر المنشرح بنور الإيمان والمعرفة ، يتجرد عن العوارض المادية ، وينقشر عن الغواشي الظلمانية ، فيصير لباً خالصاً معقولاً لائقاً لأن يتغذى به أولو الألباب ، فقد وقع في دار الجنان . وإذا هوى إلى جوف الرجل الجاهل والمستجن في صدره المنشرح بالكفر والخسران ، فقد وقع في دار الجحيم ، واحترق بنيرانات ملتهبة من الحسد والشر والطغيان . فإذا علمت هذا المثال ، فاعلم أن الإنسان إذا مات وارتحل عن هذا العالم ، وانقطعت عنه حياته النباتية والحيوانية فقد بقيت له حياتان أخرويتان ، فيكون قبره الحقيقي الذي يدخل فيه إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، وإطلاق القبر على ما يتعارفه الجمهور من باب التجوز على ما تدل عليه ألسنة الشرائع الحقة ، وتشير إليه الأحاديث الصحيحة الواردة في أحوال الموتى وعذاب القبور ، لأن قبر كل إنسان يناسب صفاته وأعماله ، ولا يمكن مشاهدة القبر الحقيقي بهذه الحواس الدنيوية ، لأنه منزل من منازل الآخرة ، وإنما تنكشف أحوال القبور للمتجردين عن جلباب البشرية لغلبة سلطان الآخرة على بواطنهم ، وإنما قلنا : " انقطعت عنه الحياتان الدنيويتان " ، موضع : " انعدمت " لأن الحقيق عندنا أن ما وجد من الأشياء فلا يمكن انعدامه بالحقيقة ، وإلاَّ فيلزم أن يكون مما خرج وزال وغاب عن علم الله ، وقال تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ يونس : 61 ] . فإذا تحقق هذا ، ظهر أن للجسد وجوداً كما للنفس ، وللقالب تكوّناً كما للقلب ، ولكل منهما قبراً حقيقياً . فقبر الحياة الجسدانية النباتية والحيوانية ، هو مقدار تكوّنها التدريجي ، ومدة حركتها الاستكمالية في دار الدنيا التي هي مقبرة ما في علم الله من صور الأكوان الحادثة الموجودة سابقاً ولاحقاً في علمه تعالى : أما الوجود الأول فقبل الورود في مقابر الدنيا بموتها الجسماني ، وهو مفاد قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام " ، وأما الوجود الثاني فبعد مدة مكثها الدنيوي كما قال : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ آل عمران : 109 ] . وأما قبر النفس والروح ، فالى مأوى النفوس ومرجع الأرواح ، كلٌ يرجع إلى أصله : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ البقرة : 156 ] . فالله سبحانه أبدع بقدرته الكاملة دائرة العرش وحقيقته العقلية والنفسية ، وجعلها مأوى القلوب والأرواح ، وأنشأ بحكمته البالغة نقطة الفرش وجعلها مسكن القوالب والأجساد ، ثم أمر بمقتضى حكمته الأزلية ، وقضائه الحتمي الإجمالي ، وصُورِهِ الإسرافيلي لتلك الأرواح والقلوب العرشية إن تعلقت بالقوالب والأبدان الفرشية ، وأمر بقدرته التفصيلية الاستعدادية أن تقبل قابلية هذه القوالب بحسب إعداد المواد واستعداد هذه الأجساد ، شطراً من الأزمنة والإمداد قلوب العباد وأرواح أهل الحشر والمعاد وأصحاب الرجوع إلى الله الجواد . فإذا بلغ أجلُ الله الذي هو آت ، وقرب موعد الممات للملاقاة والحياة ، رجعت الأرواح إلى رب الأرواح قائلين بلسان الحال والمقال : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ البقرة : 156 ] وعادت الأشباح إلى التراب الرميم ؛ { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] . وأما الأرواح المكدرة الظلمانية المنكوسة ، والنفوس الشقية التي كفرت بأنعم الله ، وصرفها في غير ما خُلقت لأجله ، قصدت مع أثقالها وأوزارها من حضيض الفرش إلى ذروة العرش بأجنحة مقصوصة وقلوب مقبوضة وأيدي مغلولة بحبائل التعلقات ، وأرجل مقيدة بقيود الشهوات و { كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [ إبراهيم : 24 ] ، فصاروا ملعونين منكوسين معلّقين بين العرش والفرش ، لقوله تعالى { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ السجدة : 12 ] . فظهر وتبين أن المقابر بعضها عرشية وبعضها فرشية ، فالأولى للسابقين المقرّبين وأصحاب اليمين ، والثانية للأشقياء والمردودين إلى أسفل سافلين ، فثبت ما ادّعيناه من أن الموت وارد على الأوصاف لا على الذوات ، لأنه تفريق وقطع ، لا إعدام ورفع : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [ الأعراف : 29 - 30 ] ، { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] . فالعرش مقبرة الأرواح العرشية : " أول ما خلق الله جوهرة " الحديث والفرش مقبرة الأجساد الفرشية ، ونفوسها المنكوسة المتعلقة بها . ولبعض الجهّال المغترين بلامع سراب الأقوال أن يعترض ها هنا ، بأن ما ذكرت من البيان ، يستلزم أن لا يكون للأجساد حشر في الآخرة ، وهو يخالف ما أحكمتَ بنيانه وأوضحت تبيانه فيما مرّ مع أن حشر الأجساد ، وإعادة الرميم من العظام من ضروريات الشرع المبين لقوله تعالى : { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 78 - 79 ] . فليعلم - إن كان جهله بسيطاً قابلاً للإصلاح والتعليم - ، إن ما ذكرنا هاهنا ليس مخالفاً لما بيّنا سابقاً ولا مبطلاً حشر الأجساد ، بل يحققه ويصححه ، لكن لغموضه ودقته يحتاج دَرْكه إلى قلب سليم وفطرة صافية عن كدورة التعصب والتقليد ، وسَمْعٍ خالٍ عن غشاوة ما يتلقف من الأساتذة ، أو يطالع من كتب المشايخ من غير بصيرة ولا فهم جديد ، وقد بينّا تفاوت هذا المطلب الشريف العالي ، والدر الثمين الغالي في بعض كتبنا ورسائلنا وتفاسيرنا لبعض السور والآيات القرآنية ، وبرهَنّا على حقيقة المعاد الجسماني في كتاب المبدأ والمعاد بمعنى إعادة الأشخاص الإنسانية بعين هذه الأبدان ، لا بمجرد أشباحها وأمثالها برهاناً صحيحاً سالماً عن النقوض ، وبياناً شافياً مبتنياً على مقدمات عقلية جازمة ، لا يعتريها شك وطعن على ما هو دأب أهل الحكمة والمعرفة ، لا مكتفياً فيه على ما يقبله الجمهور ويستحسن في المشهور ، وإن لم يكن مطابقاً للواقع كما هو عادة أصحاب الجدل في صنعة الكلام ، ولا بدل لطالب اليقين أن يرجع إلى ذلك الكتاب في مسألة المعاد ، لضيق المجال ها هنا عن تكثير المقال . وأما القدر الذي يقع له التنبيه على هذا المطلب بوجه وجيه يقنع به العاقل النبيه : أن الجسم المُعَين المحسوس ، والبدن المشكل الملموس كالإنسان مثلاً ، أمر مركب من جواهر متعددة تتقوم بها ذاته ، وتظهر من اجتماعها الأبعاد الثلاثة مع أعراض لازمة أو مفارقة . والعرض المفارق الزماني لا يبقى زمانين : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] لا على وجه قرره المتكلمون ، بل على وجه قرره الحكماء في الأعراض الانفعالية ، ثم إذا بطل التأليف ، رجع كل جوهر من جواهره إلى عالمه ، والجوهر يقوم بذاته أو بمقومات ذاته ، والعرض قائم بغيره ، ولا يجوز له الانتقال والارتحال من موضوع الدنيا إلى موضوع الآخرة . لما عرفت من أن العرض الزماني المستحيل مما لا يبقى زمانين ، والأعراض المحسوسة من الكميات والكيفيات الموجودة في جواهر هذا العالم متغيرة ، لما ثبت أن الأمور الطبيعية مستحيلة من حال إلى حال ، متحركة في المقادير بحسب النمو والذبول ، وفي الكيفيات المحسوسة والاستعدادية والمختصة بالكميات بحسب تجدد الانفعالات والاستعدادات من المواد المنفعلة عن آثار حركات السماويات ، المتأثرة عما يرد عليها من تجدد آثار العلويات وتصرفها للسفليات ، كل ذلك طاعة لباريها وجاعلها بحسب الشؤون الواقعة منه بحسب : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] التي تستدعيها إفاضة الخيرات وبث نعمة الكمالات بمقتضى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . وأما بواقي الأعراض السبعة النسبية ، فهي في وجودها وبقائها تابعة لغيرها ، لكونها معانٍ انتزاعية ، فتجددُ ذلك الغير يوجب تجددها ، وكل ما يكون متغيرً متبدلاً لا يمكن بقاؤه في دار القرار ، وانتقاله بعينه من الدنيا إلى عالم البقاء ، فالعرض الذي شأنه التجدد والتغير شيئاً فشيئاً ، كالحركة وما يقع فيه من الزمان وما يطابقه ويوازيه لا يجوز أن يرتحل من هذا العالم إلى عالم الثبات والدوام ، وإلاّ لكان للحركة حركة وللموت موت ، فيلزم أن يكون دار البقاء دار الفناء ، فتنقلب الآخرة دنياً ، والقرار فراراً ، والحقيقة بطلانا ، والثبات زوالاً وهدراً وهباء ، والكل مستحيل باطل . فثبت أن عالم الآخرة غير هذا العالم بالحقيقة والماهية ، وهو عالم مستقل تام لا ينتظم مع هذا العالم في سلك واحد ، ولا واحد منها مع الآخر في سمت واحد ، وفي اتّصال واحد زماني أو مكاني موجود أو موهوم ، ولا أحدهما جزء من الآخر ، ولا في جهة من جهاته ، بأن أحدهما فوق الآخر أو تحته أو قدّامه أو خلفه أو عن يمينه أو شماله ، وإلاّ لم يكن كل منهما عالماً تاماً له محدد واحد للجهات المكانية والامتدادات الزمانية ، بل كل أحدهما داخلاً في الآخرة ، مشمولاً كلاهما لمحدد واحد لمكانه وزمانه ، وليس كذلك ، هذا خلف . ومحصل القول : ان الموت إذا فرّق بين جواهر هذه الأجسام الدنيوية ، وتلاشى التركيب ، بقيت الجواهر المفردة واضمحلت الأعراض والهيآت ، ثم إذا جاء وقت العود بأمر الله تعالى ، ركّب جسم من تلك الجواهر تركيباً محكما ، ونشأت نشأة ثانية باقية أبد الدهر ، لكون الجسم الأخروي حاصلاً من محض جهات الفاعلية ، كالإمكان الذاتي وغيره ، لا من جهات القابلية كالإمكان الاستعدادي وصلوح المادة وحصول المزاج لامتزاج العناصر ، فالأجسام مجرد الجواهر بلا أعراض هذه الدنيا ، ولم يكن لها صفات مستحيلة متغيرة حاصلة من انفعال المواد للاستعداد ، بل كل جوهر من جواهر الآدميين ، يكون في الآخرة عالماً تاماً برأسه كجملة هذا العالم ، فيكون كل إنسان هناك عالماً تاماً في نفسه ، لا ينتظم مع غيره في عالم واحد ، مع أن كل إنسان سعيد في الآخرة يحضر عنده كل ما يريد ويرغب في صحبته بلحظة عين وفلتة خاطر وخطرة قلب ، وهذا عام فاش لكل واحد من السعداء ، وهو أقل مرتبة من مراتب أهل الجنان ، فالعوالم هناك عدد غير متناه ، كل منها كعرض السموات والأرضين ، من غير تداخل ولا مزاحمة ولا مضايقة ، كما يعرفه المكاشفون ويشاهده المقربون . ومما ينبه على هذا ، أن هذا العالم الدنيوي بجملة ما فيه ، إذا أخذ مجموعاً واحداً ، لا يحصل من الجواهر العقلية إلاَّ على سبيل الإبداع بحسب جهات عقلية فاعلية لا أنه قد حصل بتمامه من جهة استعداد قابل ، ولا أيضاً وجد في مكان ولا في زمان ، إذ لا مكان للمكان ولا زمان للزمان ، فليس لجملة الأجسام مع ما منها وفيها زمان ولا مكان ولا جهة من الجهات ، ولا يمكن أن يقال : حدث في أي وقت ، وفي أي مكان وجهة . فهكذا ؛ يجب أن يعلم ويتصور حال كل عالم من العوالم الأخروية المتعلقة بواحد واحد من أهل السعادة من الجواهر الإنسانية ، فقد علم من هذا وجه كونه تعالى رب العالمين - بصيغة الجمع - ، المختص بذوي العقل ، لأن كل عالم رباني عالم تام لا يعوزه شيء من الأشياء ، ولا يفتقر إلى أمر خارج عنه وعن ملكه وعالمه وسلطانه ، فإذا لم يكن شيء من الأشياء إلاَّ ويكون في ذلك لعدم غيبة الكل عن الكل . فلا يفوته شيء : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] . فبعد حشر الأجساد لا يمكن لأحد أن يقول : هذا الجسد غير ذلك ، وليس له أيضاً أن يقول : من كل وجه أن هذا ذاك ، فإن هذا من الذهب وذاك من الرصاص . بل له أيضاً أن يقول : هذا كان ذلك ، فإن الرصاص صار بالإكسير في كورة سجن الدنيا أو جهنم الآخرة هذا ، فإن كنت تستخبر عن أصل الذهب وسنخ جوهره ، فقلت : " هذا ذاك " ، وإذا استخبرت عن حقيقة الذهبية والصفاء واللطافة والنورية ، فقلت : ليس هذا ذاك ، فجوهرية هذا العبد وروحه واحدة في الدنيا والآخرة ، لكنه كان في الدنيا دنيا ، وفي الآخرة عليا : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ] . ومنها بيان السرّ في اختلاف نسبة التوفي تارة إلى الله تعالى كما في قوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] ، وتارة إلى رسله - أي ملائكته - كما في قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] وتارة إلى ملك الموت ، كما في هذه الآية . ووجه ذلك : أن الإنسان نشأة جامعة روحاً وبدناً ، وقد بنى الله وجود كل منهما من أصول أربعة - كما سبق القول فيه - ، وقد ارتكز في عقول الجماهير أن القابض لأجزاء بدنه هو المتوفي له القابض لروحه والجاذب له إلى الحق تعالى ، فإن العلة المحدثة والمبقية شيء واحد في التحقيق إذا كانت فاعلية ، والجامع لأجزاء المني والحافظ أمر واحد بالنوع والماهية ، وان كان متفاوت الظهور . وتفصيل المقام : أن الغاية الحقيقية في بناء هذا المسجد الجامع الإنساني ، الذي اجتمعت فيه أفراد الموجودات وأشخاص الكائنات ، من كل طائفة وقوم ، خطابة خطيب العقل على منبر دماغه بشهادة أن لا إله إلاَّ الله ، ودلالته بوجوده الجمعي ( الحقيقي - ن ) المتوحد في مرتبة ذاته وروحه البسيطة الإجمالية ، التي لها أحدية جمع الجمع يوم جمعة الحقايق على وحدانية الحق سبحانه ، وامتثال خلائق قواه الإدراكية التركيبية والتحريكية أمره واستماعها في ندائه إذا نفذ إلى مسامعها صداه ، ومشايعتها للروح وتركها لاستعمال البدن وأغراضه ومعاملاته امتثالاً لأمر الله ، واجابة لداعي الحق في قوله : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] ، وقد مرت الإشارة إلى أن الموت أمر طبيعي ، وسَعْي جِبلّي من القلب والقالب جميعاً . ثم إنه قد وردت الروايات في باب المتولي لهذه العمارة ، والآخذ لطينة وجود هذا المسجد الجامع متفاوتة ، ففي بعضها : أن الجامع لأجزاء بدنه وترابه هم الملائكة ، وفي بعضها : إن الآخذ لتراب قالبه هم رسل الله ، ليكونوا هم الرسالة إلى عباده ، وفي بعضها : أن ملك الموت قد أخذ قبضة من التراب ، وفي بعضها : أن الله تعالى قبض بيده قبضة من أديم الأرض . فهذه الروايات كلها صادقة الفحوى متوافقة المعنى عند الواقف على حقيقة ذات الإنسان ، فإن في ذاته وطينته أصولاً أربعة ، ففيها الطينة النباتية لحياته النباتية من التغذية والتنمية والتوليد ، وفيها الطينة الحيوانية للإحساس والتحريك ، وفيها المادة النفسانية والعقل الهيولاني الذي هو محل الحياة العقلية بمعرفة الحقائق ، وفيها الطينة القدسية التي هي محل معرفة الله ، وهي الفانية عن ذاتها والباقية ببقاء الله . فأما الطينة النباتية : فهي التي قبضها الملائكة الموكلون بعمارة هذا العالم العنصري ، فأحياها الله بالماء ، كقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] . وأما طينته الحيوانية ، فهي التي جاء بها رسل الله بأمره ، { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] . أي حاصلة من عالم الأمر . وأما حصة طينته التي ينشأ منها النفس النطقي ، فهي التي تكون حياتها بنفخه تعالى روحه فيها ، لقوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] . وأما حصة طينة من كان عبداً مؤمناً عارفاً بالله ، فانياً عن ذاته ، باقياً ببقائه تعالى ، فهي التي قبضها الله تعالى وأحياها بروح القدس ، لقوله تعالى في حق عيسى - على نبينا وآله وعليه السلام - : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ البقرة : 253 ] . ثم لما كان المتقرر عند ذوي البصائر والألباب - كما مرّ - ، أن القابض لطينة الإنسان هو المتوفي له والقابض لروحه ، فتلك الطينة النباتية التي قبضت الملائكة ترابها ، وجعل الله حياتها من الماء ، فتلك الملائكة تتوفاها وتقبض روحها إلى الله لقوله تعالى : { تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ } [ النحل : 28 و 32 ] . وأما الخلقة الحيوانية الماشية التي قبضها الرسل ، وأحياها الرب سبحانه بأمره ، فهم يأخذون روحها ويتوفونها ، لقوله تعالى : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] . وأما السنخة الناطقة التي قبضها ملك الموت ، وأحياها الله تعالى بنفخة منه إسرافيلية ، فيتوفاها ملك الموت لقوله في هذه الآية : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } . وأما المادة القدسية والخميرة المقدسة الإلهية التي قبضها الله تعالى ، وأحياها بروح القدس ، فهي التي يتوفاها ويرفعها إليه لقوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] وقوله : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] وقوله : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] . فافهم واغتنم . ومنها ، أنه قد انكشف عند أهل الله ان العالم كله ، أعني ما سوى الله ، حقيقة واحدة تشتمل على الخلق والأمر ، لقوله تعالى : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] والأمر كله هو قلب العالم وروحه ، لقوله : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] لأن نسبة أحدهما إلى الآخر ، كنسبة أحد جزئي الإنسان إلى الآخر ، أي روحه وبدنه ، بل هما روح الإنسان وبدنه صارا بالنزول الإنسان الجزئي ، كما أن الإنسان الكامل يصير بالعروج عالما كبيراً ، وهذا من الأمور المستبينة المستوضحة عند الراسخين في المعرفة ، ثم التعانق بين هذا الأمر وهذا الخلق ، والازدواج بين هذا العلوي وهذا السفلي هو حياة العالم الكبير ، كما أن التعانق والازدواج بين روح الإنسان وبدنه هو حياة العالم الصغير ، فكذلك التفارق بينهما هو موت الإنسان الكبير والقيامة الكبرى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] . كما أن الافتراق بين روح الإنسان وبدنه هو موت هذا العالم الصغير ، والقيامة الصغرى لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " من مات فقد قامت قيامته " . وسبب حياة الجسد الإنساني ، استكمال النفس وبلوغها إلى غايتها وكمالها ، ووصولها إلى عالمها ومعدنها ، وسبب جسمية العالم ، بلوغ روحها إلى عالم الربوبية ، واختصاص ملكها لله الواحد القهار ، والله سبحانه خالق الموت والحياة لقوله تعالى : { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] . فإذا وقعت الواقعة ، وقامت القيامة ، يرجع الأمر كله إلى الله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } [ هود : 123 ] ، { ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 و يس : 38 و فصّلت : 12 ] ، ويعود الخلق إلى الخالق ، { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] هذا في القيامة الصغرى ، فالأرواح كلها ترجع إليه تعالى : { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [ الشورى : 53 ] ، والأجساد كلها ترجع إلى العدم والكمون والبطون ، لأن مبادئ حصولها جهات العدم والقوة والإمكان . ومن ها هنا يعمل سر شريف ، هو أن الموت لا خبر له عن أن الخلق والأمر متى تفارق كل منهما عن صاحبه ، بل في الإنسان خلقة الحيوان والنبات مما قد فنت وتلاشت وهي في الذوبان والاضمحلال دائماً لقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] وبقيت حقيقة الإنسانية والملكية ، أي حقيقة عقله وروحه ، لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " خلقتم للبقاء ولم تُخْلَقوا للفناء " . مثال ذلك الجوز ، فله لبّان : - لب ولب اللب - وقشران : - قشر وقشر القشر - فاللّبان : أحدهما بمنزلة العقل والآخر بمنزلة الروح القدسي ، صالحان للاغتذاء والدواء ، كما أن الحياة الإنسانية والملكية من أهل الجنان وخدمة الرحمان ، والقشران بمنزلة النبات والحيوان ، خلقتا للفناء والاحتراق بنار الطبيعة . فظهر من جملة هذا ، أن النفوس الإنسانية تصير في الآخرة قوالب أهل الجنة ، مصوّرة بصورهم اللطيفة ، وتكون أرواحهم من العقول القادسة ، ويكون عقلهم من نور الأنوار ، وهذا المعنى مما لا ينكشف إلاَّ بالروح القدسي : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . فهذه النفس الإنسانية ، هي جسم لطيف ، وروحها القدسي جوهر مفارق من كل الوجوه ، وهذا النور الإلهي أرفع من أن يُتَصَور في فكر أو عقل ، لأن العقل مأوى الصور الكلية والحقائق العقلية ، وهو المسمى بالعرش عند قوم ، وأما القوة المفكرة ، فهي منتهى التصورات النفسانية والعقول التفصيلية ، ويقال لها الكرسي ، والصدر المعنوي عند طائفة . وقد انتهى الكلام إلى ما عجز عن دركه جمهور الأنام ، اللَّهمَّ اجعل هذه الكلمات محروسة عن ملاحظة الناقصين ، واسترها عن أعين المغرورين ، واجعل لأصحاب القلوب الصافية نصيباً وافراً من درّكها ، ورغبة تامة في حفظها ، ثم في صونها عن الأغيار ، ليكون مستقر هذه المعاني صدور الأحرار التي هي قبور الأسرار ، لتكون في روضة من رياض الجنان ، ولا تجعلها في بطون الأشرار كيلا تكون في حفرة من حفر النيران ، وهم الظاهريون ، الذين زينوا ظواهرهم بالنقوش المزخرفة ، والأقوال المزينة المليحة الحلوة ، كالأطعمة والحلاوات ، وأهملوا بواطنهم ، بل حشوها بالنفاق والجهل والاستكبار عن الحق والحقائق ، كبطون الفجار وقبور الكفار . @ همجو كور كافران بيرون حلل واندرون قهر خدا عز وجل @@ اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنان ، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران .