Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 10-10)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قالوا - أي منكرو البعث والحشر ، وقيل : القائل أُبَيّ بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعاً . أإذا ضللنا في الأرض ، أي غبنا فيها وصرنا تراباً محضاً ، أو ذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضلّ الماء في اللبن ، فإن كل شيء غلب عليه غيره حتى يغيب فيه فقد ضل ، وقيل معناه : غبنا في الأرض بالدفن فيها ، من قول الشاعر : @ وآبَ مضلّوه بعين جَلية وغودر في الجُولان حزم ونائل @@ وعن قتادة ومجاهد : إن معنى " ضللنا " : " هلكنا " . وروي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، " ضللِنا " - بكسر اللاّم - يقال : ضل يضِل وضل يضَل . وقرأ الحسن : " صللنا " من : صلّ اللحم وأصلّ إذا أنْتَن ، وربما يقال في معناه : صرنا من جنس " الصلة " وهي الأرض . { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ استفهام إنكاري لغاية كونه مستبعداً ، بل مستحيلاً عندهم ، أي أنحن أحياء مبعوثون بعد الفساد والاضمحلال ؟ فالظرف في : { أَإِذَا ضَلَلْنَا } متعلق بما يدل عليه { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } من نُحيا أو نُبعث أو نخلق مجددين . { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } : أي إنكارهم للوعد والوعيد والثواب والعقاب وكفرهم بجميع ذلك ، إنما نشأ من كفرهم بلقاء ربهم وجحودهم لبعثة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، وتكذيبهم لأصل النبوة ، وإلاّ فبعد تصحيح أصل التوحيد والرسالة ، لم يبق لإنكار ما يخبر به المخبر الصادق مجال ، نعم ينبغي أن يزال ظاهره عن الاستحالة والامتناع ، وهو كذلك كما يظهر عند التأمل . هذا ما سنح لهذا العبد ، وظني أنه أوْلىٰ مما ذكر في الكشّاف بعد ما جعل معنى : " لقاء ربهم " الوصول إلى العاقبة ، أي تَلَقّي ملك الموت وما وراءه ، وهو أنه لما ذكرهم كفرههم بالإنشاء ، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالإنشاء وحده ، ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك بمعوثين للحساب والجزاء . حكمة قرآنية إعلم أن عِلم المعاد من أعظم أمّهات الإيمان وأصوله ، وأشرف الحكمة المتعالية وفصولها ، قلّ من الحكماء من لم يزلّ قدمه في سلوك طريقه . ونَدَرَ من العلماء من بلغ فهمه إلى درك تحقيقه ، وخاض في لجّة بحر تعميقه ، فالناس في الاعتقاد بهذه المسألة بين مقلّد محض وجاحد صرف ، كم من مجتهد في سائر المسائل إذا وصل هاهنا حمل قلادة التقليد على عنقه طاعةً للشرع المبين ، وكم من باحث يسلّم سائر المقدمات الإيمانية ويقبل بفهمه جلّ الأصول الاعتقادية ، متى استعرضت هذه المسألة على طبعه الوقّاد جحد وأنكر ونهج طريق الغواية ، وانحرف عن جادة الحق واليقين . ولأمر ما وقع التكرار والتكثار في القرآن المجيد لبيانها ، ودفع الإنكار والاستنكار عن الخصوم بطرق كثيرة لتبيانها ، والاهتمام لتحريرها وتقريرها أزيد من غيرها ، وذكر جحود الجاحدين فيها أكثر من ذكر جحودهم في غيرها . وإني لم إر أحداً من الفضلاء عنده خبر تحقيق في هذا المرام ، الذي هو قرة عيون الكرام ، ولا وجدت في كلام أحد من فحول علماء الإسلام من السابقين واللاحقين ما كان فيه شفاء لعليل هذا الداء العضال التي عيّت أطباء القلوب من الحكماء العظام ، أو يكون به رواء غليل في حلّ هذا الإشكال التي عمّت داهيته الخاص والعام . وقليل من فحول أساطين الحكماء الربّانيين من حقّق علم المعاد الجسماني على النهج اليقيني ، والطمأنينة البرهانية والسكون العرفاني ، لأن المقدمات الحسية الدنيوية لا تنتج النتيجة الأخروية ، والقضايا الدائمة العقلية لا تستوجب المطلوب المثالي ، فكيف يجد الإنسان الطريق إلى مثل هذا المطلوب الذي هو أحد عمودَي الاعتقاد ، وهما علم المبدأ وعلم المعاد ؟ والحكماء كأبي علي بن سينا ومن في طبقته ، وإن بلغوا في تقديس المبدأ وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه من المثل والشبه والنظير إلى ما بلغوا ، ووصلوا في توحيده تعالى عن شَوب الاثنينية والتركيب العيني والذهني والاعتباري والتحليلي ، وعن وصمة القصور والإمكان العقلي إلى ما وصلوا ، لكنّهم قد قصروا بأسرهم في علم المعاد ، وقد اعترفوا عن آخرهم بالعجز والقصور عن الاطّلاع والعثور على أحوال الآخرة ونشأة القبور وحالة النشور . وكان هذا المقصود مما لا يمكن الوصول إليه والاطّلاع عليه إلاَّ بنور متابعة أفضل الأنبياء ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، والاقتباس من مشكاة نبوته والاستضاءة بنور أوليائه وأتباعه والاقتداء بهداهم . لمعة الهية لإزاحة ظلمة شيطانية إن ما حكى الله سبحانه عن الكفار بقوله : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } إشارة إلى أعظم شبهة يتمسك بها الجاحدون للمعاد ، واقوى ريبة يتشبث بها المنكرون للبعث يوم التناد ، وقوله : { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } ، إشارة إلى أجلّ ما يصلح للجواب وأعلى ما يتصور في دفع الخطاب . أما شرح تقرير الشبهة : فهو أن عمدة ما يشوّش الذهن ، ويتبلد الطبع في باب المعاد ، أنه يلزم من إعادة الإنسان بعد موته إما إعادة المعدوم - وإن كان البدن المعاد هو بعينه البدن الذي كان في الدنيا - وذلك أمر مستحيل عند العقل ، وإما أن يكون المُثاب والمعاقب غير الشخص الذي فعل الطاعة أو المعصية بحسب العدد ، فقوله { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } - الآية أي عُدِمنا وصارت أجسامنا مستحيلة إلى التراب وزالت هويتنا الشخصية ، فعند ذلك يتجدد لنا وجود آخر ، والوجود يساوق التشخص ، فكما أن شخصاً واحداً لا يكون له تعينان وهويتان ، فكذا لا يكون له وجودان ، وإلاَّ لزم أن يكون الواحد اثنين ، وهذا بعينه هو ما حكى الله تعالى عن قول من يجحد الآخرة بقوله : { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [ مريم : 66 ] . وأما تفسير الجواب وتوضيحه على وجه تندفع هذه الشبهة ونظائرها ، فهو مما يستدعي تمهيد مقدمة هي : أن جميع الموجودات العالمية سيّما الإنسان ، كائنة على وجه يتوجه نحو المبدأ بحسب الجبلة والفطرة ، وهو الدين الإلهي الفطري الذي لا يخلو عنه طبيعة ولا جسم ، ولا عقل ولا نفس ، ولا سماء ولا أرض ، ولا برّ ولا بحر ، ولا مَلَك ولا حيوان ، إلاّ من غلب عليه الوهم من شياطين الإنس والجن ، فجميع الموجودات متوجهة نحو المبدأ جل شأنه طبعاً وإرادة لقوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصّلت : 11 ] . إلاَّ أن الإنسان الكامل ، ممن وصل في سَيره الحثيث إلى المقصود الأصلي ، والمحبوب الأول العلي ، وبلغ إلى الغاية التي يتوجه إليها بحسب فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ورجع وعاد إلى المبدأ الذي فارقه وصدر عنه ، { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [ الأعراف : 29 - 30 ] { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن هذه الحركة المعنوية الإنسانية من لَدُن كونه منياً وجنيناً إلى غاية كونه بالغا عاقلاً ذكياً صبوراً شكوراً حكيماً ولياً ، وهلّم إلى أن يصل إلى جوار الله وقربه ، لا بد لها من موضوع باق من أول الحركة إلى منتهاها ، وإلاّ لم يكن الشاب ما كان طفلا صغيراً بعينه ، ولا الذي سيكون شيخاً كبيراً ، ومع ذلك فقد تبدل منه جميع ما كان له من مقداره وكيفه وأينه ووضعه ومَتاه وانفعاله وفعله وجميع ما يقال له في عرف أهل النظر : العوارضُ المشخصة . فقد علم أن من ظن أن هذه الأمور مفيدة للتشخص ، أو هي بأعيانها مساوقة للشخصية ، فقد أخطأ خطأ فاحشاً ، بل أمثال هذه الأمور ما هي إلاّ أمارات لشخص واحد ، وآثار منسوبة إليه بوجه من الوجوه من غير علاقة لزومية بينها وبينه ، وإنما الهوية هي نحو وجوده الذي هو نصيبه من فيض الربوبية ، ولكل وجود من الوجودات الفائضة عنه تعالى شؤونات مختلفة متفاوتة في كثرة التطورات وقلتها بحسب سعة قوته وبسط نشأته . والوجود في غير الإنسان من موجودات هذا العالم ، ليس له إلاّ مجال ضيق من حد من النقص إلى حد من الكمال بحسب الدنيا ، كالبذر الذي يصير ثمرة ، كان انتقاله من حد الجمادية إلى حد النباتية ، أو كنطفة الحيوان التي تصير حيواناً غير ناطق ، فإن سعة سيره ومسافة سفره من حد الجسمية إلى حد الحيوانية . وأما وجود نوع الإنسان ، فهو أوسع مجالاً وأكثر آثاراً وأفعالاً ، وأرفع صعوداً إلى جهة العلو ، وأعظم قوساً من النصف الصعودي من دائرة الوجود الذي وقع فيه السفر إلى الله ، والتوجه إلى جنابه للموجودات العالمية ، وذلك لأنه يرتحل في سيره الحثيث من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية الدائمة ، وينتقل في جوهره من نشأة إلى نشأة ثانية . وهذا الارتحال والانتقال ، أمر عام فاشٍ مشترك بين سائر أفراد الإنسان ، يستوي فيه الشقي والسعيد ، فإن التوجه الفطري إلى الله تعالى ، لا ينافي الشقاوة والكفر ، لما ذكرنا أن الكل متوجهون إليه تعالى ، وإلى الدار الآخرة ، لأن النفس الإنسانية منه تعالى بدؤها وإليه رجعاها : { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [ العلق : 8 ] ومن الله شروقها وغروبها ، فهبطت إلى هذا القالب الفاني ، وغربت فيه ، وستطلع هذه الشمس عند خراب القالب من مغربها ، وتعود إلى بارئها وخالقها إلاَّ أن نفوس السعداء شموس زاهرة مشرقة غير محجوبة عن الحضرة الربوبية ، وأن نفوس الأشقياء المردودين إلى أسفل السافلين ، مظلمة منكسفة ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين ، كما في قوله : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ السجدة : 12 ] . فبيّن أن نفوس الأشقياء أيضاً راجعة إلى ربهم متوجهة إليه فطرةً كالسعداء فطرة وإرادة ، إلاَّ أنهم لكراهة لقاء ربهم منكوسون منحوسون ، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم ، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل ، وذلك لحكم الله وقضائه السابق فيمن حرمه توفيقه . وأما تمام هذا السفر الجبلّي والتوجه الفطري إلى الغاية الحقيقية والمقصود الأصلي ، فإنَّما يتأتى للكُمّل والأفراد والأقطاب والأوتاد ، الذين لأجلهم خلق العباد ، وبهم رزق الورى ولهم يمطر السماء ، فهم الذين يرتقون بالمعراج المعنوي والميل الباطني الجِبِلّي من حد الهيولانية الجسمية والنطفية إلى عالم البشرية والفلكية والملكية ، ماراً على كل نفس وعقل ، حتى بلغوا إلى الغاية القصوى والمقصد الأسنى ، قاطعاً كلتي نصفي دائرة الوجود نزولا وصعوداً إلى مجاورة الحق المعبود ، مسافراً من هذا العالم الفاني الهيولاني الذي وقع في صف نعال مجلس الإفاضة والخير والجود ، منتهياً وأصلاً بقدمي العلم والعمل إلى كعبة المقصود ، وفي جميع هذه المراتب والدرجات ، هو شخص واحد تنحفظ وحدته وشخصيته بفاعله وموجده ، وتبقى هويته العينية بنحو وجوده اللائق به - وإن تطوَّر بهذه الأطوار وتشأَن بهذه الشؤون . فإذا تبين وتحقق لك هذا ، فاعلم أن قوله سبحانه : { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } ، إشارة إلى ردّ شبهتهم ، وفك عقدتهم من وجوه : الأول : التنبيه على قصورهم عن درك هذا التوجه الفطري للعباد إلى عالم الآخرة ، ولقاء ربهم في المعاد . الثاني : التنبيه على فساد قولهم : " إن الشخص المُعاد في المعاد غير الذي كان في الدنيا بحسب الشخصية والعدد مطلقاً " ، بل هذا ذاك بحسب الباطن والحقيقة ، كما أن زيداً الشاب هو بعينه زيد الطفل ، وإن تبدلت جثته وجميع أعراضه وصفاته ، وذلك لأن تشخص الشيء بفاعله ومقوّمه ونحو وجوده الذي هو به هو ، لا ببدنه وأعراضه المتبدلة ، وإطلاق الشخص على الأعراض المكتنفة من باب تجوّز التسمية للشيء باسم سببه ، وزوال الأثر والعلامة لا يستلزم زوال المؤثر المعلوم به ، - فتفطن - . والثالث : الإشعار بأن إنكار المعاد ، والجهل بوجود عالم آخر إليه رجعى العباد ، وفيه حشر الأجساد للحساب والميزان إنما نشأ للمغترين بعقولهم القاصرة ، المحجوبين بفطانتهم البتراء وبصيرتهم الحولاء ، لعدم اهتدائهم إلى أن وجود الإنسان ووقوعه في هذا العالم أمر عارض له بعد خروجه عن فطرته الأصلية التجردية . ونزوله عن جنة آدم أبيه بجناية صدرت منه ، وكل من خرج من موطن ومعدن لأمر عارض ، لا بد وأن يرجع إليه ولو بعد حين ، ما دام بقاؤه على فطرته الأصلية ، وعدم مسخه وطمسه بالكلية ، وكما أن معادن النفوس مختلفة لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " ، فكذلك غايات قصودهم ، ومراكز حركاتهم ، ونهايات أسفارهم ، كما أشير إليه في قوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ] . فالنفوس التي لا تكون بينها وبين الحق الأول واسطة تنجذب إلى جنابه طبعاً ، كما تنجذب إبرة من حديد إلى مغناطيس غير متناهي القوة ، وهذه النفوس هي العارفة بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأما النفوس الصادرة عنه بواسطة الوسائط الفلكية ، أو النفسية ، أو العقلية ، أو البرازخ الجسمانية الجنانية ، أو الجهنمية ، فيقع لهم الانجذاب إلى معادنهم الأصلية لحكمة قضائية وقدرية ، وإليه أشار الشيخ عبد الله الأنصاري في قوله : " الهي تلطفت لأوليائك فعرفوك ، ولو تلطفت لاعدائك لما جحدوك " . فالنفوس التي لم يكن بينها وبين الأول حجاب من عقل أو نفس أو دنيا أو آخرة ، فهم الذين يكونون في الصف الأول في القرب ، والعرفان بالوحي أو الإلهام أو المشاهدة ، لقوله تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 10 - 11 ] وأما النفوس التي بينها وبينه حجاب وواسطة ، فإما أن يعرفوها من وراء حجاب أو حجب كالرسالة والإمامة ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } [ الشورى : 51 ] . فكل من هؤلاء له مرتبة معينة من الجنان ، ودرجة خاصة من مثوباتهم عن الرحمان ، وإمَّا أن يجحدوا لقاء الله تعالى والدار الآخرة ، فلا محالة ليست درجتهم فوق أن يصلوا إلى أدنى المنازل وأسفل السوافل ، وهي الجحيم التي هي حقيقة هذه الدنيا الفانية ، وصورة الطبيعة التي هي الحطمة الكبرى ، وستصير مطّلعة على الأفئدة ، لقوله تعالى : { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 - 7 ] . وستظهر صورتها الحقيقية منكشفة على من خرج من غبار هذا العالم ، كصورة الجنان لمستأهليها ، لقوله : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 90 - 91 ] . فالنفوس الكافرة الجاحدة ليس لها وزن بعوضة عند الله ، ولا لها نصيب إلاّ من جنس هذه الدار التي ستبرز في صورة جهنم للأشرار ، لقوله تعالى : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [ النازعات : 36 ] فتصير معلومة لهم يوم القيامة بالشهود العياني ، لقوله تعالى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 5 - 7 ] ، وذلك لكشف الغطاء عن عين بصيرتهم ، فصار بصر بصيرتهم حديداً ، لقوله : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] وإلاَّ فهي موجودة معهم هاهنا وفي إهابهم ، لقوله تعالى : { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 49 ] . تتمة تنبيهية إعلم أن في هذا المقام أبحاثاً قوية وتحقيقاتٍ شافية تتكفل لدفع شكوك وشبه أوردت على مسألة المعاد الجسماني وبعث الأبدان ، ورد الأرواح إليها ، حسب ما نطقت به الآيات القرآنية وجاءت به الشريعة النبوية على الصادع بها وآله السلام والتحية ، وإثبات وجود عالم آخر مقداري غير هذا العالم في داخل حجب السمٰوات والأرض ، غائب عن شهود هذه الحواس الدنيوية ، فيه جنة السعداء وجحيم الأشقياء ، ذكرناها في كتابنا المسمى بالمبدأ والمعاد ، لولا مخافة الخروج عن طور التفسير لأوردتها جملة ، فمن أراد فليرجع إليها هناك ، لكن الواجب على المستبصر أن يعلم هنا هذا القدر الذي نذكره منها إجمالاً ، وهو أن عمدة شبه المنكرين للمعاد الجسماني وإشكالاتهم أمور : أحدها : هو الذي ذكره الله تعالى حكاية عنهم ، وأزاح فساده ووقى شره في عدة مواضع من القرآن . منها : ما مر في هذه السورة سؤالاً وجواباً . ومنها : ما ذكره في سورة مريم بقوله : { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 66 - 67 ] . ومنها : ما ذكره في سورة يس بقوله : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 78 - 79 ] وأسلوب إزالة الشبهة في الجميع واحد ، كما مر ذكره . وثانيها : ان القيامة والبعث والحشر والجنة والنار إذا وقعت وتحققت ، فهي في أي موضع تكون ؟ أهي في السماء أو في الأرض أو فيما بينهما ؟ . فإن كانت واقعة في وجه الأرض فكيف يسع وجه الأرض لجميع الخلايق كلها . وقد برهن على قدر مساحتها بحيث لا يسع افراد الإنسان التي حصلت في مدة ألف سنة إذا بقي التناسل وارتفع الموت ، فكيف من اجتماع الأفراد الحاصلة في مدة متطاولة ودهور غير محصورة في عدد ؟ . وإن كانت في داخل أطباق السمٰوات ، فكيف يوافق هذا قوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [ آل عمران : 133 ] . وإن كانت فوق الأفلاك كلها ، فيكون وجودها في لا جهة مع كونها ذات جهات . والجواب عنه : إن الآخرة عالم تام برأسه ليست تنتظم مع هذا العالم في سلك واحد ، ولا هي واقعة في جهة من جهات هذا العالم ، ولا في حيّز من أحيازه ، لكونها نشأة ثانية غير هذه النشأة ، كما أن ما يراه الإنسان في نومه من الأمور العظيمة والأفلاك والصحارى الواسعة ، ليست واقعة في حيّز من أحياز هذا العالم الحسي ، فهذا جواب إشكالهم من جهة المكان . وثالثها : وهو الإشكال الناشئ من جهة الزمان والحركة ، وبيانه : أن وجود القيامة لا بد وأن يكون في زمان مستقبل يتجدد عقيب هذا الزمان الذي نحن فيه ، فيلزم أن يتصل زمان الدنيا مع زمان الآخرة في امتداد واحد ، واتصال الزمان يستلزم اتّصال الحركة الحافظة له ، واستمرار الجسم المتحرك حركة سرمدية دورية غير متناهية الأعداد والأدوار والأكوار ، وهذا يستلزم استمرار هذه الدار ، وبقاء الفلك الدوّار ، وهو مما يصادم القوانين الدينية والقواعد المِلّية ، لقوله تعالى : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وقد أشار تعالى إلى تقرير هذه الشبهة المفصّلة بقوله : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] . والجواب الحق ، ما وقعت الإشارة إليه بقوله سبحانه : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] . وتوضيحه على وزان ما علمت من المذكور في دفع الشبهة الواردة من جهة المكان ، فإن الزمان والمكان متوافقان في الأحكام ، و " أين " و " متى " متلازمان في نحو الوجود والقوام ، منسلكان في سلك واحد من الانتظام ، فكما أن مكان الآخرة خارج عن أمكنة هذا العالم ، فكذا زمانها خارج عن أزمنة هذه الدار الفانية ، بل هما محيطتان بهذين ، نسبة كل منهما نسبة واحدة إلى ما بأزائها من خصوصيات أمكنة هذا العالم وأزمنته . أَوَلاَ ترى أنه قد عبّر عن زمان الآخرة بغاية العلة ، لقوله : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] . تنبيهاً على فعلية الأشياء هناك ، وكونها على غاية الكمال والتمام . وأنت إذا قست مبادي الحركات المتفاوتة قوة وضعفاً وسرعة وبطوء بعضها إلى بعض ، كقوى الرامين سهاماً نحو المرمى في مسافة واحدة ، فوجدت كلما كان أقوى قوة وأسرع حركة فهو أقل زمان حركة ، حتى لو فرضت قوة مباشرة للتحريك في غاية الشدة ، كانت الحركة واقعة منها دفعة واحدة ، فإذا أشير إلى زمان الآخرة أشير إلى أقل ما يتصور من الأزمنة ، وإذا أشير إلى مكان الآخرة أشير إلى أوسع ما يتصور من الأمكنة ، كقوله : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وأمر الإعادة كأمر الإبداع { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، وشأن البداية كشأن النهاية حذو القُذّة بالقُذّة ، وكل إنسان يرجع في آخر أمره إلى فطرته الأصلية التي خرج منها ، ورد إلى مبدئه الذي صدر عنه ما لم تتغير فطرته الأصلية بالمسخ أو الطمس ، نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر . وقد اختلفوا في أن البرزخ الذي ستصير الأرواح إليها بعد المفارقة عن الدنيا ، هو عين البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام الطبيعية أم غيره ؟ . والأكثر على أن أحدهما غير الآخر حقيقة ، قائلين بأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية ، مستدلين بأن الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير ، إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في النشأة الدنيوية ، بخلاف صور البرزخ الأول ، فلا يكون أحدهما عين الآخر ، لكنهما مشتركان في كونهما عالماً غير مادي وجوهراً غير طبيعي . وأقول : فيه بحث كشفي لا يمكن عرضه لغير المكاشف على وجهه ، إلا أنه يجب أن يَعْلم كل سالك أن وحدة الجواهر العالية والمبادئ المتعالية ليست من قبيل وحدة الأشخاص الطبيعية الواقعة في عالم التضايق والتصادم والتضاد ، ويعلم أيضاً أن وحدة الموضوع التي اعتبرها المنطقيون في شرائط التناقض ، لا بد أن تختص بما يتحقق في الماديات ، حتى يثبت التناقض بين الأمرين المتناقضين ، وإلاّ فكثيراً ما تجتمع المتناقضات في موضوع غير طبيعي موجود في غير هذا العالم ، فإن المتقابلات حاضرة عند المرتفعين عن حضيض هذا الأدنى ، وصدق الكلي الطبيعي على أفراده المتقابلة تُنَبّهُكَ على هذا ، وكذلك الحكم عندما يتصور العقل وجوداً وعدماً ، وسواداً وبياضاً لشيء واحد . ومما يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } [ الحديد : 3 ] وكذا قول الحكماء : إن الواجب تعالى مبدء الأشياء وغايتها ، وقولهم : إن العقل الفعّال ثمرة العقل المستفاد ، كما أنه مبدأ فاعلي له ، وكذا ما عليه المحققون من العرفاء ، أن العقل الأول هو الحقيقة المحمدية عند انبعاثه ووصوله إلى المقام المحمود المختص به . وبالجملة ، إن العالم المتوسط البرزخي من جملة مبادئ الإنسان التي قد نزلت حقيقته وماهيته منها ، وسيقع رجوع النفس إليها ، والكلام في وحدة ذلك العالم وتعدده صدوراً ووروداً ، كالكلام في سائر المبادئ المحصلة لماهية الإنسان أولاً ، والمكملة لوجودها أخيراً . فافهم واغتنم إن كنت من أهله ، وإلاَّ فأنت وشأنَكَ . والإشكال الرابع : إنه إذا صار إنسان معين غذاءً لإنسان آخر ، فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأياً ما كان ، لا يكون أحدهما بعينه معاداً بتمامه . وأيضاً إذا كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً ، يلزم تعذيب المطيع وتنعيم العاصي ، أو يلزم أن يكون الآكل كافراً معذباً ، والمأكول مؤمناً منعماً مع كونهما جسماً واحداً . واندفاعه بما مهدناه ؛ في إن تشخّص كل إنسان إنما هو بنفسه ، وأما بدنه من حيث هو بدنه فليس له تشخّص إلاَّ بالنفس ، بل ليس له من هذه الحيثية حقيقة ولا ذات حتى يكون له في ذاته تعيّن بهذا الاعتبار وتوحّد إلاَّ بحسب ما يتصرف فيه نفسه ، ومن حيث إضافته إلى نفسه ، وليس من شرط كون بدن زيد - مثلاً - محشوراً ، أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان من حيث هو جسم معين له حقيقة في نفسه لحمية أو عظمية أو عصبية محشوراً يوم القيامة ، أي بهذا الاعتبار ، بل المحشور ليس إلاّ بدن زيد بما هو بدن زيد بعدما انحفظت شخصيته بنفسه التي تكون جهة وحدته وتشخصه ، وإن تبدلت بجميع أجزائه وصفاته في نفسه ، لا بأنها أجزاء بدن زيد من حيث هي أجزاء بدن زيد بعينها ، فاعتبر ببقاء شخصية زيد تمام عمره مع تبدل أجزائه كلاً أو بعضاً . فاعتقادنا في حشر الأبدان يوم الجزاء ؛ هو أن تبعث من القبور أبدان إذا رأيت كل واحد منها لقلت هذا وفلان ، وذاك فلان - اعتقاداً مطابقاً للواقع - ، لا أن تكون تلك الأبدان مثلاً وأشباحاً للأشخاص الإنسانية ، وذلك لأن المعلوم من الآيات والمفهوم من الشرايع والديانات ، أن المُعاد في المَعاد هو مجموع النفس والبدن بعينهما ، دون مجرد النفس - كما رآه المشّاؤون - أو مع بدن آخر عنصري - كما رآه بعض - ، أو مثالي - كما ذهب إليه الإشراقيون - ، وهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للعقل والشرع ، الموافق للملة والحكمة ، فمن صدّق وآمن بالمعاد بهذا ، فقد آمن بيوم البعث والحساب والجزاء ، وقد أصبح مؤمناً حقاً ، والنقصان عن هذا خذلان ، بل كفر وطغيان . ولا يلزم من هذه أن يعتقد أن مُشوّه الخلق يجب أن يُبعث مُشَوّه الخلق ، ولا الأقطع والأشلّ والأعمى والهرم يجب أن يُبْعَثوا كذلك ، كيف وقد ورد في الأحاديث خلاف ذلك ، فعود الشكل والهيئة والمقدار عيناً أو مثلاً غير لازم ، كيف وقد ورد في الحديث : " إنَّ ضرس الكافر مثل جبل أُحد " " وإن أهل الجنة جُرْدٌ مُرْدٌ " بل اللازم شكل مّا وهيئة مّا ومقدار مّا ، مع انحفاظ التشخص . وليس بواجب في كل فرد من الإنسان أن يحشر مع بدن من الأبدان ، بل الكاملون في العلوم إنما يحشرون إلى الله ، مفارقين عن الأجسام بالكلية ، منخرطين في سلك الملائكة المقرّبين ، الذين طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس ، وهم الذين من خشية ربهم مشفقون .