Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 13-13)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ظهر مما سبق ، أن رجعة النفوس إلى فطرتها الأصلية بعد اكتسابها طريقة الخذلان والشقاوة والحرمان أمر مستحيل ، وقعت ها هنا للأذهان الوهمانية مظنة شبهة هي : أنه لماذا لم تخلق النفوس كلها من الله سعداء من أهل الهداية والرحمة ؟ حتى لا يكونوا مجرمين محرومين عن درجات الجنان والسعادة والرضوان ؟ فأزال تعالى هذا الوهم ، وأزاح إمكان وقوعه في الخارج ، لأن ما هو الواقع على أشرف الإمكانات وترجيح الأخس على الأشرف ، مستحيل الوقوع من الواهب الحق ، والمحال لا يكون مقدوراً عليه ، لأنه لا شيء محض لا ماهية له ، وإنما هو أمر يخترعه الوهم الكاذب . فقال : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، بالتوفيق والإيمان وإلجائها لسلوك سبيل الرحمة والرضوان ، ولكنه ينافي الحكمة والمصلحة الكلية المقتضية لحفظ النظام على أفضل ما يمكن من الوجود والقوام ، إذ لو كان الأمر كما توهم ، لبقيت النفوس كلها على طبقة واحدة ، وفات بقاء سائر الطبقات المتصورة في حيز الإمكان من غير أن يخرج من الكمون والبطون إلى منصة البروز والظهور ، والرحمة مقتضية لايصال كل مستحق إلى ما يليق به ، لئلاّ تخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها ، فتبقى في العدم أمور جمة غفيرة ، ولا تتمشى الأمور الخسيسة ، التي يحتاج إليها في بقاء النفوس الشريفة ، كيف ولو لم يكن الكنّاس والحجّام في العالم ، لاضطر الحكيم إلى مباشرة الكنس والحجامة . ولا بد أيضاً في ظهور بعض صفات الله الجلالية من وجود أهل الحجاب والذلة والقسوة والظلمة ، البعداء عن الرحمة والمحبة والنور ، وإلاَّ فلا ينضبط نظام العالم ، ولا يتم صلاح المهتدين لوجود الاحتياج إلى سائر الطبقات ، كما لَوّحْنا إليه من أن المظاهر لو كانت كلها أنبياء وأولياء وأخياراً لاختل بقاؤهم بعدم النفوس الغلاظ والشياطين من الإنس والجن القائمين بعمارة هذا العالم ، ألا ترى إلى ما ورد في قوله تعالى : إني جعلت معصية آدم سبباً لعمارة العالم . فوجب في الحكمة الحقّة الإلهية ، التفاوت في الاستعدادات بالقوة والضعف ، والصفاء والكدورة ، وترتب الدرجات على حسبها ، والحكم بوجود كل طبقة من السعداء والأشقياء في الفضائل والرذائل ، لتجلّي الله سبحانه بجميع الصفات ، ويظهر منه جميع أسمائه الحسنى ، فإن الغفور ، والعفو ، والعدل ، والمنتقم ، والتوّاب ، والمضلّ وأمثالها أسماء لا يتجلّى الحق بها إلاَّ إذا جرى على العبد ذنب . ولذلك وقع في الحديث : " لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون " وعن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " أنين المذنبين أحبّ إلي من زجل المُسَبّحين " . وإليه الإشارة بقوله : { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } أي بحسب اقتضاء العناية الأزلية والقضاء السابق ، وكثيراً ما أطلق القول والكتابة من قبل الله سبحانه ، ويراد الفعل من جهة ما يوجبه التقدير الأزلي المنوط بالأسباب القصوى الإلهية ، كقوله تعالى : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } [ فصّلت : 25 ] ، وقوله : { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 12 ] . { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } : أي جهنم الطبيعة السفلية التي ستطلع نيرانها ويبرز إيلام عذابها في الآخرة ، فإن حقيقة نار الجحيم ، إنما نشأت من هذا العالم ، وأما ظهورها على الأفئدة ، فهو مختص بيوم الآخرة ، فكما أن الدنيا مملوءة من الكفار والفجار ، فكذا جهنم الآخرة مملوءة من الجن والإنس أجمعين ، وهم أكثر عمّار هذا العالم من النفوس المكّارة الوهمانية والأرضية الجاسية الغليظة الطبايع لما مر أن النظام لا ينصلح إلاَّ بأن لا يكون هذا العالم مشحوناً بالجهلة والأرذال والكفرة والمنافقين ، وأن أهل الله لا يكونون إلاّ الأقلّين ، مع أن غيرهم من أشخاص المواليد ما خلقت إلاَّ لأجلهم ، لأنهم اللب الأصفى من شجرة الطبيعة ، والباقي بمنزلة القشور على مراتبها ، فحقّت عليهم كلمة العذاب ، كما حَقَّ على العود والحطب الاحتراق بالنار ، لمّا صدر عنهم ما يؤدي إلى ذلك على وجه الاختيار المنبعث عن الأسباب الغائبة لا على وجه الإلجاء والاضطرار ، لأنهم استحبّوا العمى على الهدى ، فوقعوا باختيارهم في المحنة والبلوى ، والقَوا أنفسهم بأيديهم إلى الهلكى . فإن قلت : إذا كان الكل بقضاء الله وقدره ، فلماذا يعاقب الله من ساقه القدر إلى ارتكاب الجرائم والخطيّآت ؟ قيل : هذا السؤال منك ناش من جهلك بحقيقة العقوبات الإلهية ، فإنك لاعتيادك بأفاعيل الناقصين من المختارين ، كإنعامهم على الصديق ، وانتقامهم من العدو ، الناشئَين من اعتقاد النفع ودفع الم الغضب والغيظ ، تعتقد أن العقوبات الأخروية من باب الانتقام للتشفي الحاصل منه للمنتقم ، فيتخلص به عن ألم التهاب نار الغضب ، هيهات ، إنما العقاب أمر يتعقب على فعل الخطيّات ، وهو من اللوازم والتبعات التي يتأدّى إليه اقتراف السيئات ، وبالحقيقة ، النفوس العمّالة في الدنيا هي بعينها حمّالة حطب نيرانها يوم الآخرة : " رب شهوة ساعة أورثت حُزناً طويلا " ، بل نفس الشهوة ها هنا تتصور بصورة النار المضرمة هناك . وقد أفصح الله تعالى عن هذا المعنى في قوله : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 180 ] ، وقوله : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } [ النحل : 34 ] ، وقوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] ، وقوله : " إنما هي أعمالكم تُرَدّ إليكم " . ولهذا عقّب هذه الآية بقوله سبحانه : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ السجدة : 14 ] .