Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 14-14)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان أمر المعاد ، وقلة التأمل فيه ، وترك الاستعداد له . " والنسيان " خلاف " التذكر " ، ونسبته إليه تعالى إمّا من باب صنعة المشاكلة ، كما في قوله سبحانه { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . والمعنى : أن انهماككم في الشهوات ، أغفلكم وأنساكم عن معرفة الله وعلم المعاد ، فنسيناكم ، أي جازيناكم جزاء نسيانكم . وإما لأن علمه تعالى بالممكنات ، لما كان ناشياً عن علمه تعالى بذاته التي هي عين إيجاده لها ، ويكون علمه بها تذكراً لها ، لأنه علمها أولاً في مرتبة ذاتها علماً كمالياً إجماليا . ثم علمها في مرتبة متأخرة ، هي عين وجوداتها علما ثانياً ، وعدم هذا العلم بشيء الذي هو النسيان ، عبارة عن عدم إيجاده إياها عدماً ناشياً عن عدم الاستعدادات ، وفقدان الأسباب الموجبة إلى نحو كمالي من الوجود ، فإن للوجود والحياة والنورية مراتب متفاوتة ، ومقابل كل مرتبة منها مرتبة من العدم والموت والظلمة . فحياة أهل الإيمان مطلقاً مرتبة لا تكون لغيرهم ، لاختصاصهم بقوله ( صلّى الله عليه وآله سلم ) : " المؤمن حي في الدارين " . وحياة الشهداء مرتبة أخرى فوقها لقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 169 - 170 ] . وحياة الأولياء مرتبة فوق الجميع ، لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " أبِيتُ عند ربي يطعمني ويسقيني " ، وهم الذين قال تعالى فيهم : " من قتلته فأنا دِيَتُهُ " أي حياته . وفرق بين من يكون مرزوقاً عند الرب تعالى ، ومن يكون يطعمه ويسقيه ربه ، وكذا فرق بين من يكون حياً عند الرب ، ومن تكون حياته بالحق تعالى . وبإزاء كل من هذه الأقسام للحياة ، قسم من الموت ، كما قال الله تعالى للكفار { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [ الفرقان : 14 ] . فالمراد بنسيان المجرمين إيّاه تعالى ها هنا موت الجهل ، لأن معرفته ومعرفة اليوم الآخر يؤديان إلى حياة الآخرة بلقاء الله ، لأن ذات الله تعالى مبدأ الأشياء وغايتها ، والمعرفة هنا بذر المشاهدة هناك ، لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، ونسيانه تعالى إياهم لازم ، لأنه عبارة عن عدم إفاضة نور الحق عليهم ، لعدم خروجهم عن غلاف البشرية ، وحجب الشهوات والتعلقات بالأجرام الكثيفة الدنيوية ، حتى صاروا عين هذه الحجب . وقيل : النسيان هنا بمعنى الترك ، أي تركتم ذكر العاقبة ، فتركناكم من الرحمة . واعلم أن السعادة الإنسانية منوطة بشيئين : بالعلم الذي هو عبارة عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وبالعمل : الذي حاصله تصفية مرآة القلب عن شواغل الدنيا ومستلذاتها . وترك الأول يوجب السقوط عن درجة أهل القرب والسعادة ، وانتكاس الرأس . وترك الثاني يوجب العذاب الأليم . فالله سبحانه قد راعى هذه الدقيقة ، فجعل كلاً من الشقاوتين منوطة بما يوجبه . والمعنى : فذوقوا ما أنتم فيه من نكس الرؤوس إلى عالم الجحيم والخزي والحجاب الذائم ، بسبب نسيان اللقاء ، وذوقوا عذاب الخلد الأليم في دار جهنم ، بسبب ما عملتم من ترك النظر في أمر العاقبة ، وفعل المعاصي الموبقة ، والكبائر المهلكة ، والإخلاد إلى أرض الطبيعة السفلية ، فالموت العقلي والهلاك الأخروي من لوازم الكفر والجهل المركب ، والخلود في عذاب الجحيم ونار الحميم ، من لوازم الإخلاد إلى شهوات الدنيا وحلاواتها التي هي بعينها آلام مؤذية وسموم مهلكة .