Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 2-2)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

خبر مبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ خبره " لا ريب فيه " ويكون " من رب العالمين " حالاً من الضمير في " فيه " لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وعلى تقدير كون " تنزيل الكتاب " خبر مبتدأ محذوف يجوز أن يكون " من رب العالمين " خبراً ثانياً ، و " لا ريب فيه " حال من الكتاب المنزل أو اعتراض . والأوْلىٰ ان يرتفع " تنزيل " بالإبتداء ، وخبره : { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، ويكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراض لا محل له ، كما وجهه صاحب الكشّاف . واعلم أن الضمير المجرور راجع إلى مضمون الجملة ، أي لا ريب في كونه مُنْزَلاً من رب العالمين ، ويدل عليه قوله : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [ السجدة : 3 ] لأن هذا القول منهم في المفهوم ، يساوق لإنكارهم كون القرآن مُنزلاً من الله تعالى ، للتقابل الحقيقي بين كون الكلام مفترى ، وبين كونه مُنْزلاً من رب العالمين . ويحتمل أن يكون معنى " تنزيل الكتاب " من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، فيحتاج في تعلق ضمير " فيه " إليه إلى ارتكاب حذف مضاف ، كالتنزيل ونحوه . ويحتمل أن تكون الجمل الثلاث أخباراً متبادلة لمبتدأ محذوف ، وفي الآية احتمالات أخرى بحسب الإعراب كما لا يخفى على أُولي الآداب . والمعنى - والله أعلم - أنه لا ريب لأهل الكشف واليقين العارفين بمقامات الواصلين إلى مقام اللوح النفساني والقلم العقلاني والعلم السبحاني ، ان هذا الكتاب الذي هو العقل الفرقاني والوجود المحمدي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) الذي هو لوح المعارف الإلهية ، وقلم العلوم اللَّدُنِيَة ، فائض من رب العالمين بلا وسيلة من خلقه ، أو ذريعة من غيره ، بل الله قد أنشأه وأغناه من غيره ، وربّاه من مرتبة إلى مرتبة ، وعرج به من عالم إلى عالم ، وأسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حتى بلغ الغاية القصوى وارتفع إلى مقام أو أدنى ، وحيث كانت مرتبته مشتملة على جميع مراتب العوالم ، لوروده على كل نشأة وعالم ، فكان المربي له ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) رب العالمين ، فوقعت الإشارة إلى هذه الدقيقة في قوله : { رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } تعظيماً لشأنه وتكريماً لامتنانه . فالكتاب إشارة إلى ذات النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، المعبر عنه تارة بالقرآن لمقامه الجمعي الإجمالي العقلي ، وتارة بالفرقان لمقامه الفرقي التفصيلي النفسي ، وهما مقامان باطنيان فوق ساير المقامات النزولية والإنزالية السماوية والدنيوية ، وإطلاق الكتاب على الجوهر العقلي القلمي القرآني ، أو النفسي اللوحي الفرقاني شائع ذائع في كلام الله تعالى وكلام انبيائه وأوليائه ( عليهم السلام ) ، كقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] وقوله تعالى : { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] وكقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : @ وأنت الكتاب المبين الذي بآياته يظهر المضمر @@ وحقيقة القرآن عند المحققين من العرفاء ، هو جوهر ذات النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد سئلت بعض أزواجه عن خُلُقه ، فقالت في الجواب : " كان خُلُقُه القرآن " . ومن تأمل وتدبر في ألقاب كتاب الله في عدة مواضع من المصحف ، يعلم إن هذه الأوصاف تكون لذات روحانية مجردة عن الأجسام بحسب مرتبة ذاته ، فكما أن الإنسان حقيقة واحدة ، وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في الصعود ، فكذلك القرآن حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة ، يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في النزول . أما أسامي القرآن : ففي عالم يسمى " بالمجيد " : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } [ البروج : 21 ] وفي عالم آخر اسمه " عليّ " : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ } [ الزخرف : 4 ] وفي نشأة أخرى اسمه " مبين " : { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 1 ] وفي مقام آخر اسمه " نور " : { وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [ التغابن : 8 ] { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] وفي منزل اسمه " عظيم " : { وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] وفي مرتبة " عزيز " : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [ فصّلت : 41 ] ، وفي مظهر " كريم " : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] وفي طَوْر " حكيم " : { يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [ يس : 1 - 2 ] وهل شاع إطلاق اسم الحكيم إلاَّ على ذوي العقول ؟ وكذا الكريم والعلي والعزيز ؟ وأساميه غير محصورة ، ولو كنتَ ذا سمع باطني في عالم العشق الحقيقي والحِكَم الإلهية ، لكنت ممن تسمع أسماءَه وتنكشف لك بطونه ، إن للقرآن ظهراً وبطناً وحَدّاً ومطلعاً كما ان للإنسان ظاهراً وباطناً ، ولباطنه باطن آخر إلى سبعة أبطن ، وهي المقامات الباطنية الجملية المشهورة عند العرفاء ، هي الطبع والنفس والعقل والروح والسر والخفي والأخفى ، وإلاَّ فتفاصيل المقامات وخصوصيات الأطوار الإنسانية غير محصورة في حد وعَدّ ، فكذا قياس القرآن المساوق للإنسان الكامل في الكمال والنقصان ، والصعود والنزول ، وفي المثنوي المولوي المعنوي قدس سره : @ صورت قرآن جو شخص آدمى است كه نقوشش ظاهر وجانش خفى است نزد عاقل زان برى كه مضمر است آدمى صد بار خود بنهان تر است @@ ومما روي عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : أنه قال : " إقرؤا القرآن والتمسوا غرائبه " . ومن تدبر في أسامي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأوصاف من كونه : نوراً وسراجاً ومحموداً ومحمداً وأحمد وقاسماً وحاشراً وماحياً وهادياً ومبشراً وبشيراً ومنذراً ونذيراً إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره - وجدها بحسب المعنى والمفهوم مشتركة بينه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وبين حقيقة القرآن ، واتحاد اللوازم يدل على اتّحاد الملزوم ، والأسماء المشتركة بينهما لفظاً ، ومعنى كثيرة ، كلفظ النور والهادي والسيد والرسول والنبي . ولو تدبرت فيما أفدناك سابقاً من قاعدة اتّحاد الموصوف بالصفة التي وصف بها ، ومن قاعدة اتّحاد العاقل بالمعقول التي ذهب إليها أكثر الحكماء المشّائين الذين مقدمهم فرفوريويس ، وهو أعظم تلامذة أرسطو ، ومن قاعدة ذهب إليها محققو أهل الإسلام وعرفاؤهم من صيرورة الإنسان بحسب النشأة الآخرة عين حقيقة ما غلب على باطنه من الأخلاق والملكات ، لانكشف عليك حقيقة ما ذكرناه من كون باطن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كتاباً إلهياً مرسلاً مُنزلاً من الله لنجاة المقيدين في سجن هذا العالم الأدنى ، وباطن القرآن خلقه ، وظاهره الملفوظ هو كظاهر شخصه المطهر المزكّى . ويستفاد من قوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ البقرة : 129 ] أن صفته وخلقه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان تعليم الكتاب والحكمة ، فكان ذاته المقدسة عين الكتاب والحكمة . وقد عبّر قوم من أهل الله عن لفظ القرآن ومعناه بالوجه الحسن ، والشعر المستحسن للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المكنى عنهما بقوله تعالى : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] . والقرآن حبل الله المتين النازل من سماء الرحمة لنجاة المقيدين في السجن ، ولما كانت الدنيا مرآة الآخرة ، والأرض حكاية الجحيم ، فانظر كيف روعيت الموازنة بين العالمين فيما وقع من الأخبار في أحوال الآخرة من الجنة والنار ، أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أذن له في الشفاعة يوم القيامة ، فورد في الجحيم لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ، فأخرج منها ما شاء الله من عصاة أمته المؤمنين . ومما يؤيد كون الأرواح والقلوب بمنزلة الكتب والصحائف ، ويصحح إطلاق الكتاب والصحيفة عليها ، قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] . وهل الكتاب إلاَّ ما كُتب فيه شيء ، سواء كان كتابه عقلية أو حسية ، وهل الكتاب إلاَّ تصوير الحقائق ، سواء كان بآلة القصب والمداد في قرطاس أو جلد حيوان ، أو بواسطة المَلَك الملهم الملقي للحقايق في صفحة الدماغ أو النفس بمداد الفيض الإلهي ، ومن يحجبه الظاهر المحسوس عن الباطن المستور ولا يفهم من الميزان إلاَّ ما له كَفّتان ، ولا خبر له من موازنة العالَمين وتطابق النشأتين ، فلا يمكنه التصديق بوجود كتب الله المنزلة على انبيائه تصديقاً عرفانياً إيمانياً ، بل تصديقاً لسانياً أو تقليدياً ، وشيء منهما لا يسمن ولا يغني ، ويحرم أيضاً عليه معرفة صحائف الناس يوم العرض الأكبر ، وكذا الفرق بين كتاب الأبرار الأخيار ، وبين كتاب الفجار الأشرار ، المشار إليهما بقوله تعالى : { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } [ المطففين : 7 - 8 ] وقوله : { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 18 - 21 ] . وأما قوله : { رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، ففيه إشارة إلى أن كل انسان كامل حكيم عالم تام في نفسه ، إذ فيه صور جميع ما في العالم على وجه ألطف ، وقد ذكر الحكماء في معنى الحكمة انها صيرورة الإنسان عالماً معقولا مضاهياً للعالم المحسوس ، وقال أبو يزيد البسطامي : " لو أن العرش وما حواه دخل في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحسّ به " ، فكل عالم رباني في الآخرة عالم تام لا يعوذه شيء من الأشياء ، ولا يفتقر إلى شيء خارج عنه وعن ملكه وعالمه وسلطانه ، ولا يبعد أن يكون هذا سر إيراده بصيغة الجمع الموضوعة لذوي العقول ، فافهم وانتبه .