Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 6-9)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ( 6 ) ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ذلك المدبر " عالم " يكون علمه عين إيجاده للأشياء على أحكم وجه وأتقنه ، وإيجاده للأشياء على أبلغ النظام والأحكام عين علمه وتدبيره ، فيكون غيبه شهادة وشهادته غيباً وهو العزيز في غاية العظمة والكبرياء ، لبراءة ذاته عن وصمة الحدوث والإمكان ، وعن شوب الاشتراك والمماثلة مع الماهيات ، " الرحيم " الذي يصل نور فيضه وأثر جوده إلى كل عال وسافل ، وقاصٍ ودانٍ ، لكونه في العلو الأعلى من جهة الذات والوجود ، والدنوّ الأدنى من جهة الفيض والجود ، ولذا عقبه بقوله : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ، فإن ذاته لما كانت في غاية الجلالة والعظمة ، وكانت الموجودات كلها نتائج ذاته وأشعة أنوار صفاته ، فيكون في غاية ما يمكن من الحسن والجمال والكمال ، ولأنه ما من شيء خَلَقَهُ إلاَّ وهو مرتّب على ما اقتضته الحكمة الإلهية ، وأوجبته العناية الأزلية ، فتكون جميع المخلوقات حسنة في غاية الحسن المتصور في حقه ، وإن تفاوتت وانقسمت إلى حَسَن وأحسن إذا قيس بعضها إلى بعض ، كما قال سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . أما الشرور والآفات التي يتراءى في نظر المحجوبين ، فهي ليست شروراً بالحقيقة ، لأن الشر الحقيقي عدم أو عدمي لا وجود له ، وأما الذي يؤدي إلى عدم ذات أو عدم كمال الذات مما يسمى باسم الشر مجازاً فهو إنما خلق لأجل النفع في أشياء آخر ، لا يهملها خالق القضاء والقدر ، وما يعد شراً ، في تركه شرُّ أكثر بكثير منه ، وهو أيضاً لا يوجد إلاَّ في جزء من وجه الأرض ، وهي حقيرة بالقياس إلى السماء الدنيا الخالية عن هذه الآفات مع حقارتها بالنسبة إلى جملة السمٰوات المقهورة ، المطموسة تحت أشعة الأنوار القادسات والقاهرات ، الأسيرة كلها في قبضة الرحمن ، ولا نسبة لعالم الإمكان الذي هو مثار القصور والنقصان ، إلى جناب الكبرياء الباهر برهانه على الضياء . فقد لاح أن الوجود كله على أحسن ما يتصور من الحُسن والنظام ، ولنا براهين نيرة على هذا المطلب أوردناها في مواضع من كتبنا على وجه البسط والتحقيق ، من أراد الوقوف عليها فليطلبها من هناك ، والله ولي التوفيق . وقيل : معنى { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } علم كيف يخلقه ، كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " قيمة كل امرئ ما يحسنه " . وحقيقته بحسن معرفته ، أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق واتقان ، وقرئ { خَلَقَهُ } على البدل ، أي أحسن خَلْقَ كل شيء و " خلقه " على الوصف ، أي كل شيء خلقه فقد أحسنه . { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ( 7 ) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ( 8 ) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( 9 ) } لما وصف خلقه بالحسن ، ولا ريب في أن حسن النظام بترتب الغاية المطلوبة منه ، وغاية إيجاد العالم - كما بُيِّن - ذاته تعالى معروفاً ومعلوماً كما دل عليه الحديث القدسي من قوله تعالى : ( كنتُ كنزاً مَخفياً فأحببت أن أعرف فخلقتُ الخلق لأعرف ) ، وحامل معرفة الله من جملة الأكوان الحادثة هو الروح الإنسانية التي هي نور من أنوار الله الفائضة على اللطيفة القلبية ، وسره الواردة من أمر " كن " على عرش الجسم البخاري القلبي ، المشابه للجرم السماوي المنعوت بقوله تعالى : { وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصّلت : 11 ] ، فأراد أن يشير عقيب ذكر إحسان خلق كل شيء إلى كيفية خلقة الإنسان الذي هو الثمرة لوجود الخلائق . ثم لما كانت حقيقة الإنسان ذات جهتين ، مركّبة من أصلين هما خلاصة العالمين : بدن هو صفوة الأجسام العنصرية ، وروح هي صفوة الأرواح - كما أن العالم بتمامه منقسم إلى غيب وشهادة - ، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم ، عالم صغير مشتمل على غيب وشهادة ، أي روح وجسم ، فأشار إلى أصل تكوّن كل منهما ، وقدّم بيان نشوء البدن على بيان نشوء الروح ، لكونه أظهر وجوداً وأجلى معرفة على المتوطنين في دار المحسوسات ، فقال مشيراً إلى انشاء البدن : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } ، هذا بحسب أصل خلقته الحدوثية في أول شخص وجد كآدم ( عليه السلام ) ، فإنه كان إنساناً توّلد من غير مادة باقية من شخص آخر أو شخصين ، استعدت لوجود ذلك الإنسان استعداداً قريباً . ثم قال : " وجعل نسله من ماء مهين " ، وهذا بحسب وجوده البقائي التوالدي ، الحاصل من بقية أصل بدني ، كان جزء من بدن مماثل للبدن اللاحق المسمى بالنسل ، أي الذرية ، وإنما سميت ذرية الإنسان نسلاً له ، لأنها تَنْسل منه ، أي تنفصل منه وتخرج من صلبه ، ونحوه قولهم للولد : " سليل " ، و " نجل " . وقال مشيراً إلى انشاء الروح وإبداعها : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } ، ونعم ما قال الزمخشري من قوله : وذلك بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خَلْق عجيب لا يعلم كنهه إلاَّ هو ، كقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] . واعلم أن الخطْب في الروح العظيم ، والكلام فيه طويل ، قل من الحكماء من حصّل معناه ، وقلّ من النظار من بلغ إلى فحواه ، وليس هذا الروح المذكور في هذا الموضع ما أثبته الأطباء ، وهو الجرم الشبيه بالأجرام السماوية ، لصفائه واعتداله وتوسطه بين الكيفيات المتقابلة التي هي من أوائل الملموسات ، والأطراف المتضادة ، والتوسط بين الكيفيات المتقابلات بمنزلة الخلوّ عنها . وليس المراد منه ما سمّاه الحكماء : " النفس الناطقة " ، التي هي جوهر مدبّر للبدن ، مرتبتها مرتبة العقل الهيولاني ، ولها استعداد الترقي إلى مقام الروح الإلهي الذي هو من أمر الله ، وكل ما كان من أمر الله وعالم جبروته وقاهريته ، فشأنه التأثير في الأشياء بالقهر والإبداع من غير انفعال واستكمال بما تحته ، فكيف يكون منفعلا عن البدن ويكون الحاصل منه ومن المادة البدنية نوعاً طبيعياً ذا مادة وصورة ، له تركيب اتّحادي بينهما ، كما هو شأن النفس ، والنفس إذا أثرت في شيء ما أثرت إلاَّ بتأييد هذا الروح المسمى عند بعضهم بالعقل الفعّال . وإليه أشار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قوله : " إن الله تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا مَلَك مقرّب ، وهو أول ما خلق الله ، قال له : " أدبِر " فأدْبَرَ . ثم قال له : " أقبِل " فأقْبَلَ . فقال : " تكلم " فقال : الحمد لله الذي ليس له ضد ولا ند ، ولا شبيه ولا كفو ، ولا عديل ولا مثل ، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل . فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسنَ منك ، ولا أطوع لي منك ، ولا أرفع منك ، ولا أشرف منك ، ولا أعز منك ، بك أُحيي وبك آخذ ، وبك أعطي وبك أُوحّد ، وبك أُعبد وبك أُدْعىٰ ، وبك أُرتجىٰ وبك أُبتغىٰ ، وبك أُخاف وبك أُحْذَر ، وبك الثواب وبك العقاب . فخرّ العقل عند ذلك ساجداً ، فكان في سجوده ألف عام ، فقال الرب تبارك وتعالى : إرفع رأسك ، وسَلْ تُعْطَ ، وأشْفَع تُشَفَّع . فرفع العقل رأسه فقال : إلهي أسألك أن تُشَفّعني فيمن خلقتني فيه . فقال الله جل جلاله : أشهدكم اني قد شفّعته فيمن أخلقه فيه " . وهذا الحديث متفق عليه بحسب الفحوى ، وإن كانت العبارات مختلفة النقل ، وإني اخترت هذا النقل لكونه أمتن وأوثق ، وقد شرحت معنى الإدبار والإقبال المنسوبان إلى العقل الفعال في تفسيرنا لآية الكرسي بما لا مزيد عليه ، وذكرنا هناك أن هذه الصفات كلها صادقة في حق النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بحسب المقام المحمود عند ربه . إشارة واعلم أن الروح البخاري الموضوع لمسائل علم الطب ، ظِلٌ مُحَاكٍ للروح الإلهي ، ومحل استوائه عليه ومعسكر لقواه وجنوده ، وهو أيضاً حاصل بعد تسوية العناصر وتعديلها وتوسطها في الكيفية بين الأطراف المتضادة ، كما إن هذا الروح الإلهي الذي هو موضوع لمعرفة الله وعلم المعاد ، حاصل بعد تسوية الأخلاق وحصول العدالة والتوسط في الصفات الأربعة بين أطرافها المتقابلة ، فإن " العدالة " كيفية حاصلة من العفّة المتوسطة بين إفراط القوة الشهوية - المسماة بالفجور - وتفريطها - المسماة بالخمول - ، ومن الشجاعة المتوسطة بين إفراط القوة الغضبية وتفريطها - المسماتين بالتهور والجبن - ، ومن الحكمة المتوسطة بين طرفي القوة الإدراكية ، المسماتين بالجربزة والبلاهة . والعدالة أيضاً متوسطة بين الظلم والانظلام ، الحاصلتين من إفراط بعض تلك القوى وتفريطها . ومعنى قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " العِلم عِلمان ، عِلم الأبدان وعِلم الأديان " إشارة إلى أن كمال الإنسان بحسب النشأتين منوط بإصلاح هذين الروحين ، إذ بمعرفة الطب والعمل بمقتضاها ينصلح الروح الذي بدء خلقه من طين ، لأن صفوة العناصر الغالب عليها الأرض ومرجعه إليها ، وبمعرفة العلم الإلهي والدين الرباني ينصلح حال الروح الذي هو من الله ومرجعه إليه تعالى ، فبإصلاح أحدهما وتعديله ينصلح أمر المعاش في الدنيا ، وبإصلاح الآخرة ينصلح أمر المعاد في الآخرة ، والأحوط عند الأكياس ترجيح صلاح المعاد على صلاح المعاش ، وعيش الآخرة على عيش الدنيا ، بل " لا عيْشَ إلاَّ عيشُ الآخرة " كما ورد في الحديث ، وعليه الأنبياء والاولياء والصِدّيقون سلام الله عليهم أجمعين . تنبيه فرقاني إعلم أن أكثر الألفاظ الواردة في الكتاب الإلهي كسائر الألفاظ الموضوعة للحقائق الكلية ، مجملةٌ ، يطلق تارة ويراد به الظاهر المحسوس ، ويطلق تارة ويراد به سره وحقيقته وباطنه ، وتارة يطلق ويراد به سر سرّه وحقيقته وباطن باطنه . وذلك لأن أصول العوالم والنشآت ثلاثة : الدنيا ، والآخرة ، وعالم الإلهية ، وكلها متطابقة ، وكل ما يوجد في أحد من هذه العوالم يوجد في الأخيرين على وجه يناسب كل موجود لما في عالمه الخاص به . فالروح مثلاً ، كما يطلق على الجسم البخاري ، يطلق أيضاً على النفس الحيوانية أو الإنسانية ، ويشترك جميع أفرد الإنسان في الاول والثاني ، وكذلك يطلق على الروح الإلهي الذي هو محل استواء الرحمان بلا واسطة ومحل نفخه وفيضه ، وله الخلافة الكبرى من الحق والسلطنة العظمى نيابة عنه تعالى . فمن تلك الألفاظ : السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فإن هذه الثلاثة ربما يراد بها الأعضاء الثلاثة ، كالأذن الغضروفي ، والعين الشحمي ، والقلب اللحمي ، وما يتعلق بها من الأعصاب والأرواح التي كلها من عالم الخلق والتقدير وعالم الشهادة والحس ، وربما يراد بها القوة السمعية المدركة للأصوات والألفاظ والنغمات ، والقوة البصرية المدركة للأضواء والألوان ، والقوة القلبية المدركة للمفهومات وأوئل المعقولات والمسلّمات المقبولات ، وتارة يراد بالسمع سماع المواعظ والحِكَم القرآنية ، والآيات الإلهية ، وبالبصر مشاهدة أولياء الله وأحبائهم ومعارفهم وتصديق حالهم ، وبالفؤاد الروح القدسي الواصل إلى الله تعالى بنور العرفان . وهذه المعاني الأخيرة ، مما لا اشتراك لجميع الناس فيه ، بل تختص بالمقرّبين ، وكذلك معانيها المتوسطة مما لا يشترك الجميع فيه ، إلاَّ أنها أشمل وجوداً من الأخيرة ، بل تختص بالمتوسطين من الناس ، وهم أصحاب اليمين وأهل السعادة العملية ، الفائزون بنعيم الآخرة بميراث عملهم ، إن لم تكن أعمالهم مشوّشة مغشوشة بالجهل المركّب والاستبداد بالرأي ، والخروج عن صفو الاستعداد المطلق بالأكدار الاعتقادية الباطلة الوهمية في أحوال المبدأ والمعاد . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن قوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ } ، لمّا وقع في معرض الامتنان وإظهار الإحسان ، فالظاهر أن المراد بالسمع والبصر ها هنا ما يختص بأحبّاء الله والمتألّهين والمقرّبين ، لا المبعدين الناكرين ممن ليس لهم نصيب من القرآن ، وهم عن السمع لمعزولون : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، ولا من الذين كانوا عمي القلب عن مشاهدة الحقائق كأبي لهب وأبي جهل ونظرائهما في الجهل والعمى والصمم عن مشاهدة آيات الله وسماع ذكر الحبيب . ولو كان لفظ السمع والبصر والقلب - أينما وقع في القرآن - كان المراد منه ما وقع فيه الاشتراك لجميع الناس من هذه المشاعر الحسية الدينوية ، لما سلب الله سبحانه معانيها عن أهل الكفر والجهل بقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ، مع وجود هذه الآلات فيهم ، وكذا قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] ، لعدم انتفاعهم بهذه الآلات بصرفها فيما خُلقت لأجله ليزيدهم بسبب شكر هذه النعم الدنيوية نعمة بواطن هذه المشاعر وحقائقها ، أو لعدم نصيبهم من تلك النعم الباطنية ، وزوال استعدادهم واستحقاقهم لها ، كما لا نصيب للأنعام منها ، وإنما هم أضلّ ، لبطلان استعدادهم بالمسخ والطمس لعدم الشكر منهم لله على هذه النعم ، والعمل بخلاف ما أعطيت له . وفي قوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ، إشارة لطيفة إلى ان هذه الظواهر نِعَمٌ جليلة يجب الشكر عليها ، ليصل إلى مقام أسرارها وحقائقها . وقوله : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ } ، وإن كان ظاهره مشعراً بعموم هذه العطية ، إلاَّ أن الواقع في معرض الامتنان والإحسان ليس إلاَّ ما يختص بالقليل النادر من الناس من بواطن هذه الظواهر وغيوب هذه الشواهد ، لأن قوالب هذه الآلات بمجردها ليست من الأمور الشريفة الباقية الأخروية حتى يلائم ذكرها بعد ذكر الروح الأمري الحاصل بالنفخ الإلهي ، وعدّها في معرض ذكر الأفعال الإلهية ، وبعد ذكر عظائم الأمور الصادرة من الحق سبحانه . ومن الدلائل القاطعة على أن أهل الحجاب الكثيف ، وأصحاب التجسم والبُعد عن عالم الملكوت محرومون عن النظر إلى آيات الله وشهود أهل الله ، مع وجود هذه الباصرة الدنيوية ، قوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] أي ينظرون اليك من حيث بشريّتك ، ولا يبصرونك من حيث نبوّتك ، فإنهم لا يرون من أولياء الله وأحبائه ومحبوبيه إلاَّ البشرية المحسوسة ، وليس لهم اطّلاع على أعيان الآخرة وأهل القرابة الإلهيّة ، ولذلك حكى الله عن نكرهم وجهلهم وإنكارهم واستنكارهم لوجود الأنبياء بقوله : { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ يس : 15 ] ، وبقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] . وإن سألت الحق فليس معنى الكفر الاّ هذه النكرة ، والاحتجاب بهذه الحياة الدنيوية ، والالتباس بهذه الحواسّ الحسية ، والإنسان ما لم يتجرد من هذه الغشاوات والأسبال ( لاسباب - ن ) ، لم يخرج إلى فضاء الإيمان ومعارفة أهل الإيقان وأصحاب المشاهدة والعيان ، فكن أحد الرجلين : إما سميعاً بصيراً بالسمع والبصر الأخرويين ، عارفاً بحقائق الأمور ، شاهداً بحال أولياء الله تعالى ، وإما مقلّدة متشبثاً بذيل قائد يسمع آيات الله بسماع عقلي ، ويرى ملكوت السموات والأرض ببصيرة كشفية ، فتكون بصيراً ببصره وسميعاً بسمعه ماشياً بمشيه ، كقول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) " صلّوا كما رأيتموني أُصَلّي " ، ولو قال : " صلوا كصلاتي " من الذي قدر على مثل صلاته ، فإنه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كان يصلي وفي قلبه أزيز كأزيز المرجل لهيبة الحضور من الرب سبحانه ، ودهشته مشاهدة ملكوته . فالرجل الاول حي بالذات حياة طيبة ، والثاني حي بالعَرَض كشَعْر الحيوان وعظمه وظلفه .