Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 12-12)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فعقّب ذلك بقوله : { إِنَّا نَحْنُ } : أي هو تعالى ، أو ضَرْبٌ من ملائكته المقرَّبين المهيَّمينَ ، الذين فعْلُهُم مطوي في فعل الحق ، لفناء ذواتهم بغلبة سلطان النور الطامس الأزلي على أنوارهم ، واختفاء أشعة تأثيراتهم العقلية ، تحت شعاع الضوء القيُّومي . { نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } : من النفوس الهالكة في عالم الظلمات ومقبرة الدنيا ، وقبور الهيئات البَدَنيَّة النائمة نوم الغفلة ، وقصور الوجود بروح المعارف والعلوم ، ويقظة الكشف والشهود ، ويؤيد هذا ، ما ذُكِر عن الحسن : " إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان " . وقيل : " نحيي الموتى بِبَعْثِهِمْ بعد مَمَاتِهم " . { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } : قيل : أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها ، وَمَا هَلَكوا عنه من آثار حسنة : كعلم علموه ، أو كتاب صنّفوه ، أو بناء بنوه ، من مسجد أو رباط أو قنطرة ، أو نحو ذلك ، أو سيئة : كوظيفة وخراج أنشأها بعض الظلمة على الناس ، أو سِكة أحدثها ، فيها تخسيرهم ، أو لهو فيه صَدٌّ عن ذكر الله ، من ألحان وملاهٍ ، كالنرد والشطرنج ، وكذلك كل سنَّة حسنة أو سنّة سيئة يُسْتَنّ بها ، ونحوهُ قوله تعالى : { يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] قدّم من أعماله ، أو أَخَّر من آثاره . قاعدة فرقانية فيها مكاشفة قرآنية الاشارة في تحقيق هذه الآية : إن كل مَن فعل فعلاً ، وتكلَّم كلاماً ، أو عمِل عملاً صالحاً ، أو اقْتَرَفَ معصيةً ، حَصَلَ من ذلك أثر في نفسه ، وحدث فيها حال وكيفية نفسانية ، هي ضرب من الصورة والنقش ، وإذا تكرَّرت الأفاعيل ، وتكثَّرت الأقاويل ، استحكمت الآثار في النفس ، فصارت ملكاتٍ بعدما كانت أحوالاً ، و " المقام " في لغة أهل التصوُّف ، هو هذه الملكة ، فيصدر بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة من غير رَوِية . ومن هاهنا ، يتأتى تعلّم الصنايع ، وَتَهيُّؤ المكاسب العلمية والعملية ، ولو لم يكن هذا التأثر للنفس ، والاشتداد به فيها يوماً فيوماً ، لم يكن للإنسان تعلّم الحرف والصنايع ، بل يحتاج في كل تَراخٍ وتعطُّل ، إلى تجشُّم كسب جديد ، ولم ينجع التأديب والتهذيب في الإنسان ، ولم يكن أيضاً في تأديب الأطفال وتمرينهم على الأعمال فائدة ، فالآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال في القلوب ، بمنزلة النقوش والكتابة في الألواح { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] وتلك الألواح النفسية يقال لها : " صحائف الأعمال " . وتلك الصور والنقوش الكتابية ، تحتاج في حصولها في تلك الألواح ، إلى مصورين وكتاب غير تلك الموضوعات ، لما علِمتَ ، من استحالة كون كشيء واحد ، مصوِّراً ومصوَّراً ونقاشاً ومنتقشاً ، ومعلِّماً ومتعلماً ، وبالجملة فاعلاً وقابِلاً ، واستحالة كون المعطي للكمال قاصراً عنه ، فالمصوِّرون والكتَّابُ يجب أن يكونوا أجلَّ رتبةً ، وأشدّ تجرّداً ، وأعظم كرامة من النفوس القابلة ، فهم " الكرام الكاتبون " ، وهم ضُرُوبٌ من ملائكة الله ، المتعلقة بأعمال العباد وأقوالهم ، لقوله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] . وهُمْ على كثرة أصنافهم ، حسب أصناف العباد قسمان : " ملائكة اليمين " وهم يكتبون أعمال أصحاب اليمين ، و " ملائكة الشمال " وهم يكتبون أعمال أصحاب الشمال ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] . وفي الخبر : " كل من عمل حسنة يخلق الله منها ملكاً يثاب به ، ومن اقترف سيئة يخلق الله منها شيطاناً يعذب به " فالأول أشير إليه بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ فصّلت : 30 - 31 ] . والثاني إليه الإشارة بقوله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 - 222 ] ، وقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . وفي كلام فيثاغورس ، وهو من أساطين الحكماء ، المقتبسينَ أنوارَ معارفهم من مشكاة علوم الأنبياء ( عليهم السلام ) : " اعلم أنك ستُعارض بأقوالك وأفعالك وأفكارك ، وستظهر لك من كل حركة ، فكرية أو قولية أو عَمَليَّة ، صورٌ روحانية وجسمانية ، فإن كانت الحركة غَضَبِيَّة شهويَّة ، صارت مادةً لشيطان يؤذيك في حياتك ، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ، وإن كانت الحركة عقلية ، صارت مَلَكاً بمنادمته في دنياك ، وتهتدي بنوره في أُخراك ، إلى جوار الله وكرامته " . وهذا النور هو ما يُشار إليه بقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] وأمثال هذا في كلام الله كثير ، كما سيلوح لك بفضله إنشاء الله . فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : " مَا قَدَّموا " إشارة إلى تلك الأحوال النفسانية ، والارتسامات المتتالية مرةً بعد أخرى ، قبلَ رسوخ تلك الصفات ، وصيرورتها مَلكَةً يعسر زوالها . وقوله : " وآثارَهُم " إشارةٌ إلى المَلَكَاتِ الراسخة ، التي هي أثر حاصل بعد انقضائها ، وانقطاع الأعمال المستدعيةِ لها . ثم لما كان هذا العالم دارَ التغير والزوال ، وألواحُ النفوس المتعلقة به قابلة للمَحْوِ والإثبات ، يمكن فيها تبديل الصفات والهيئات ، وإزالة السيئات بالحسنات ، والتوبة عن المعاصي قبل حصول الأخلاق والمَلَكات ، وسدّ أبواب المغفرة عند استحكام الرّين والظُلُمات ، وأما عند ظهور الآخرة فتستحكم الأخلاق ، بحيث يصير كلُ خلقٍ رديء ( صورة ) خلق آخر من الحيوانات ، فَيُحشَر الناس على حَسَب هيئاتهم ، كما ورد في الحديث ، وهذا معنى قوله : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 6 - 8 ] . زيادة كشف رسوخُ الهيئات ، وتأكّدُ الصفات الحاصلة من تكرر أعمال الحسنات والسيئات ، هو المسمى عند الحكماء بـ " المَلَكَة " ، وفي لسان أهل النبوة والمشاهدة بـ " الملك " و " الشيطان " ، والمعنى واحد وإن اختلفت الإشارات ، ولو لم يكن لتلك المَلَكَات النفسانية ، من الثبات ما يبقى أبَدَ الآباد ، لم يكن لخلود أهل الطاعة والمعصية ، في الثواب والعقاب وجه ، لأن منشأ الدوام ، لو كان نفسَ العمل أو الحالة الزائلة من النفس ، يلزم بقاء المعلول مع زوال العلة . وأيضاً ، الفعل الجسماني الواقع في زمان متناه ، ومكان خاص ، كيف يكون منشأً للجزاء الثابت في الزمان الغير المتناهي ؟ ومثل هذه المجازاة ، لا تليق بالحكيم ، وقد قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] . وقال : { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] . ولكن ، إنما يخلد أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، بالثبات في النيات . ومن ها هنا ، ظهرت نُكتة أخرى في قوله : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } ، وهي بيان السبب الموجب للعقاب ، من غير ظلم وجَوْرٍ واعتِساف ومَيْل وحَيْف في الميزان والحساب ، فكل من فعل مثقَال ذرَّة من الخير أو الشر ، يرى أثره وملكوته في صحيفة ذاته ، أو صحيفة أرفع من ذاته ، في كتاب لا يُجلّيها إلاّ لوقتها ، وإذا حان وقت أن يقع بصرُه إلى وجه ذاته عند كَشْف الغطاء ، وفراغه عن شواغل هذه الأدنى وما يورده الحواس ، ويلتفت إلى صفحة باطنه وقلبه ، وهو المعبر عنه بقوله : { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [ التكوير : 10 ] . فمن كان في غفلة عن ذاته ، وحضور قلبه ، يقول عند ذلك كما حكى الله عنه بقوله : { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] . وأُشيرَ إلى نشر الصحف أيضاً بقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] . وفي الخبر أيضاً : " أن من قال سبحان الله غُرِسَت له في الجنة شجرة " ومن قال كذا وكذا حسنة ، خلق الله له الحور العين ، وقصوراً وبيوتاً وأنهاراً يتمتع بها أبداً مخلداً . وكذا الحكم في جانب المعصية ، فيخلق الله من سيئات المجرمين والمنافقين ، ما يكون سبب آلامهم دائماً مخلداً ، وقال تعالى في قصة ابن نوح ( عليه السلام ) : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] وفي الخبر " خُلِقَ الكافر من ذَنْب المؤمن " ونظائر هذه كثيرة في الآيات والأخبار . ومنشأ ذلك ، أن الدار الآخرة دار الحياة لقوله : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] ومواد أشخاص الآخرة ، هي التصورات الباطنة والتأملات القلبية ، لأن الدار الآخرة ليست من جنس الدار الدنيا ، لأن هذه دار الشهادة وهي دار الغيب ، والإنسان إذا انقطع عن الدنيا ، وتجرد عن مشاعر هذا الأدنى ، وكشف عنه الغطاء ، يكون الغيب بالنسبة إليه شهادةً وحضوراً ، والعلم عيناً ، والخبرَ عياناً ، والسرَّ علانية . فكل أحد يكون بعد كشف الغطاء ، ورفع الحجاب ، حديد البصر لقوله تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . فيكون بصيراً بنتائج أعماله ، مشاهداً لآثار أفعاله ، قارئاً لصفحة كتابه ، مطَّلعاً على حساب حسناته وسيئاته لقوله تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] . فَمَن كان مِن أصحاب اليمين ، وأهل المعرفة واليقين ، أوتي كتابه من الجهة التي تناسبه ، وهي جهة عليّين { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 18 - 21 ] . وَمن كان مِن أصحاب الشمال ، والمنكوسين الفجّار ، وصاحب الأنظار الجزئية ، والأفكار المتعلقة بالأعمال والآثار ، فقد أوتي كتابه بشماله لقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } [ الحاقة : 25 ] أو مِن وراءِ ظهره لقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } [ الانشقاق : 10 - 12 ] ويكون أيضاً كتابه في سجّين لقوله تعالى : { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [ المطففين : 7 ] ، لأنه من جملة المجرمين المنكوسين لقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ السجدة : 12 ] . ثم اعلم ، أن جميع هذه الكتب والصحائف ، إنما تُنتَسَخُ عن أصل مقدَّس عظيم هي فروع له ، وأبواب مأخوذة منه ، وجداول منشعبة من بحره ، وهو أمّ النُسَخِ وإمامُ الكُتب ، وهو كتاب عقلي مُبِين ، فيه صور جميع الممكنات على وجه أعلى وأرفع ، لا يمسُّه إلاّ الملائكةُ المطهَّرون ، والعقول المقدسة عن أرجاس عالم الحواس ، وأدناس الوهم والوسواس ، ولذلك قال بعد الإشارات إلى صحائف الأعمال ، وكُتبِ الأفعال لأصحاب الشمال : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ 12 ] : أي عدَّدنا كلَ شيء من الحوادث ، في كتاب ظاهر الكتابة ، لأن حقائق الأشياء مسطورة أوَّلاً فيه ، ثم تتفرع منه العلوم المفصَّلة ، وتتشعّب من بحره أنهار الحقائق ، وجداول المعارف ، وهو " اللوح المحفوظ " ، و " لوح القضاء الإلهي " ، النافذ حكمه في المدارك النفسانية ، والألواح القَدَرية ، وعنده مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلاّ الله ، والراسخون في العلم ، وعنده خزائن العلوم والمعارف المتعلقة بالحوادث الكائنة والآتية ، لقوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] . وتلك المفاتح لخزائن العلوم والمعلومات ، هي قلوب الملائكة المقرَّبين ، المحفوظين بحفظ الله ، وتبقيَتهِ وحراسته إيّاهم ، عن الخَلَل والنقصان والذهول ، وعالمُهُم " عالم القضاء " السابق على عالم القدر واللوح النفسي ، وعالم اللوح الخارجي ، - أي المادة بما فيها من الصور العينية - . قيل : الوجه في إحصاء كل شيء في الكتاب الإلهي ، اعتبار الملائكة به ، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور ، فإنّ صدور الأنواع الكثيرة ، يحتاج إلى جهات كثيرة في عالم الألوهية ، يوجب تكثّر الفيض من الواحد الحقيقي ، الذي ما أمره إلاّ واحد كلمح بالبصر ، ففي هذه دلالة على حصول صوَرِ الأشياء كلها ، في ذلك الكتاب ، على وجه مفصَّل مرتَّب ، يجمع ويرتقي إلى أمر واحد ، وقد بسطنا القول فيه بوجه تحقيقي في مقام آخر ، ذكره يؤدي إلى التطويل ، ويخرج عن طَور الكلام في التأويل .