Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 26-27)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } : استئناف ، كأنه وقع جواباً عن السؤال عن حاله بعد الشهادة ، لأن المقام مظنة المسألة عن حاله عند لقاء ربه ، كيف صار بعد هذه المجاهدة في الدين ، ونصرة رسل الله ، وعن قتادة ، رَجَموه حتى قَتَلوه . وعن الحسن ومجاهد : أن قومه لما أرادوا أن يقتلوه رفعه الله إليه فهو في الجنة لا يموت إلاّ بفناء الدنيا وهلاك الجنة - وقالا - : إن الجنة التي دخلها يجوز هلاكها . وقيل : أنهم قتلوه إلاّ أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة ، فلما دخلها : { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [ 26 ] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } : أي سترني بنور رحمته ، وكساني بكسوة الكرامة والعلم ، وربّاني ورقانّي من حد النقصان النفساني ، إلى حد الكمال العقلاني ، والتربية : تكميل الشيء تدريجاً ، والله سبحانه يربي النفوس الإنسانية بالفضيلة ، والحال من حد النقص إلى حد الكمال ، وذلك لأنها في أول خلقتها في غاية الضعف ، لقوله : { خُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] ، لأنها نشأت من اللاشيء كما قال : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] ولا أضعف من اللاشيء ، وتكونت من وسخ الطبيعة وظلمة الهيولى كما أشار إليه بقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، وإنما استكملت بالتدرج من حال إلى حال ، وبلغت من مرتبة العقل الهيولاني إلى عالم العقل الفَعّال ، بتتالي إلهاماتٍ من الله ، وتَرادُف كمالاتٍ عقيب رياضات من المبدء الأعلى ، حتى زالت عنها العيوب والقشور ، وخلصت كالذهب الخالص من الأوساخ والأكدار ، الباعثة لألَم الذَّوبَانِ في الكُور ، والأغشية والظلمات الموجبة للثبور ، والهيئات والأغلال الموبقة المعقبة لعذاب القبور ، والجهالات الحاجبة عن البلوغ إلى عالم النور . وهذا معنى التربية للنفس ، المقتضي لها الشرف والكرامة ، ولذا عقّبه بقوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [ 27 ] : وإنما تمنَّى علم قومه بحاله ، ليكون علمُهم بكماله ، سبباً لهم في استحصال مثل ذلك لأنفسهم ، والرغبة منهم في سلوك طريقه ، واكتسابهم العلم والإيمان ، وتوبتهم عن الكفر والعصيان ، تكثيراً لأهل الخير والإحسان ، وسوقاً لعباد الله إلى الجنة والرضوان ، وفي الحديث : " نَصَحَ قومه حياً وميتاً " . وفيه تنبيهات عظيمة على أسرار لطيفة ، من وجوب كظم الغيظ ، والصبر على كيد الكافرين ، والعطف على الجاهلين ، وطلب الهداية لمن أوقع نفسه في الهلاك ، واستحصال الخلاص لمن تورّط في الموبقات ، واقتحم في نار الشهوات ، كالفراش المبثوث ، والنصيحة لأهل البغي والعناد ، والتشمّر في تخليص أعدائه ، والتلطّف في نجاة خصمائه ، وتناسي ظلم الأعادي ، وطلب انتقامهم ، عوض إيلامهم ، والصفح عن زلاتهم وخصوماتهم ، والذهول عن الشماتة بهم ، والدعاء عليهم بتمنّي الخير لقاتليه ، وهم كفرة لئام ، وطلب الرحمة لمهلكيه وهم عبدةُ أصنام . نظير ذلك ما حكي ، أنه لما فعل بابن منصور ما فعل ، سمع منه همهمة ، فلما أصغى إليه فإذا هو يقول في مناجاته : " إلهي أفنيت ناسوتيّتي في لاهوتيّتك ، فبحق ناسوتيّتي على لاهوتيّتك أن ترحم من سعى في قتلي " . وقيل : يجوز أن يَتمنّى ذلك ، ليعلموا أنّهم كانوا على خطأ فاحش في أمره ، وأنه كان على صواب وحق ، وكان الحق معه مريِّباً له ، ومكمّلاً نفسه بالعلم والحال ، وراقياً روحه إلى عالم الكرامة والجمال ، وأن عداوتهم لم تورثه إلاّ زيادة في شرفه وفضله . ولم تعقّبه إلاّ فوزاً بنصيبه الأعلى من سعادته ، لأن في ذلك تخليصاً لذهبه عن الكدورات ، وإصعاداً له إلى عالي الدرجات ، مع زيادة لذة وسرور ، وتضاعف عيش وحضور . وقريء : " المكرَّمين " بالتشديد . و " ما " في قوله : " بما غفر لي " ، إمّا مصدريّة فعليّة ، والمعنى " بمغفرة الله لي ، وسترة ذنوبي النفسانية وعيوبي الجسمانية " ، وإما موصولة اسميّة ، أي " بالذي غفر لي به " كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، وإمّا استفهاميّة حرفيّة ، أي " بأيّ شيء غفر لي " ؟ كما يقال : " علمت بِما صنعت ؟ وبِمَ صنعت " ؟ بإثبات الألف وحذفها ، وإن كان الحذف في مثل هذا المعنى أكثر وأشهر ، يريد به ما وقع منه مع قومه ، من المصابرة الشديدة ، وتَجَرّع كاسات المحن الأليمة ، وتوطين النفس على تحمّل الضَرْب والطعن والقتل ، إعزازاً لدين الله ، وإعظاماً لأوليائه ورسله ، حتى فارقت نفسه البدن ، وارتحلت عن دار الفتنة والمحن ، إلى دار المغفرة والكرامة ، منخرطةً روحه في سلك الملائكة ، ومحشورةً مع أرواح الأنبياء الكبار والأولياء أولي الأبصار ، منجذباً سره إلى نور الأنوار ، انجذاب إبرة ضعيفة إلى مغناطيس غير متناه في القوّة والآثار ، متلذذاً بأشعة الأضواء العقليّة ، المنعكسة إليه من طبقات العقول والأرواح ، المستفيضة كل منها أنواراً بالإستقامة ، والإنعكاس من النور الأول وعلة العلل ، بمنزلة مرايا متقابلة الوجوه متعاكسة الأضواء والأنوار ، المقابلة وجوهها جميعاً لوجه الشمس . ثم حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب والاستيصال ، لِمَا جرى من سنة الله في اهلاك قوم أهلكوا موحِّد زمانهم ، وولي الله في دورانهم فقال : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ يس : 28 ] .