Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 28-28)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } : يعني : وما أنزلنا لإهلاك قومه من بعد قتله أو دفعه ، جنداً من السماء ، أي : وما احتجنا في إهلاك قرية فَجَرَتْ وعَتَتْ عن أمر ربّها ، إلى إنزال جند من قِبلِنا ، كما احتاج الملوك في الغلبة على خصومهم ، بأسباب ومعاونات خارجية ، وأشخاص وجنود وآلات واوزار للحرب ، بل إنما أَمْرُنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كُنْ فيكون . لأن القدرة الإلهية ، ألطفُ وأمتنُ من أن تكون بواسطة أسباب محسوسة وأجناد مشهودة ، إلاّ إذا اقتضت الحكمة إنزالَ العذاب على طائفة بهيئة خاصة ، وصورة معيّنة ، فيها عبرة للناظرين ، ومصلحة للعابرين ، فربما أوجبت المصلحة هلاك قوم على صورة دون أخرى ، وهلاك قوم غيرهم على وجه آخر . أَوَلاَ تَرىَ إلى قوله تعالى : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] ، ولا يبعد أن يكون شدة البأس ، وعَظَمة هيئة الغضب ، على طائفة شقية ، بنسبة شقاوتهم وكفرهم ، أو نسبة عَظَمة المبعوث عليهم ، المنذر لهم ، من نبي أو خليفة له ، ولهذا أنزل الله جنوداً من السماء يوم بدر والخندق ، قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، { بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] . { بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] ، { بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، مع أنه كان يكفي في اهلاكهم مَلَك واحد ، بل ريشة واحدة ، بل صَيْحة واحدة من صيحاته ، بل إرادة واحدة منه بإذن ربه ، فقد أُهلِكَتْ مدائن لوط ، بريشة من جناح جبرئيل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصَيْحة . ولكن ، لمّا كان نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، جامع شؤون الأنبياء كلهم ظاهراً وباطناً ، وحاوي شتات كمالاتهم وحالاتهم غيباً وشهادة ، فضّله الله بكل شيء على كبار الأنبياء وأُولي العزم من الرسل ، وأوْلاه من أسباب الكرامات والكمالات ، ما لم يعطه أحداً ، فأهلَكَ خصومه وجاحديه بفنون من الهلاك الجسماني والروحاني ، كل بحسبه ، فمِن ذلك ، أنه أنزل جنوداً من السماء ، ومن ذلك ما أشار بقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] ومن ذلك قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } [ المائدة : 64 ] . وتفصيل وجوه العقوبات ، على حسب مراتب الخصومات ، لحبيب الله ورسوله ، الجامع لجميع الفضائل والخيرات مما يطول ، وشرحه خارج عن حد العقول ، فلنكتف بمجمل هذا المقام ، وهو أن لله نقمةً جليةً وخفيةً ، كما أن له نعمةً ظاهرةً وباطنةً . وقيل معنى الآية : وما أنزلنا على قومه بعدَه رسالة من السماء ، قطع الله عنهم الرسالة حين قتلوا رسلهم ، وهو مروي عن مجاهد والحسن ، والمراد أن الجندَ هُم ملائكة الوحي ، الذين ينزلون على الأنبياء ، وهو إشارة إلى انقطاع الوحي عنهم ، لسوء استعدادهم ، وغلبة جحودهم وعنادهم لحامليه ، وهذا أشدّ مراتب العقوبة ، حيث يوجب الهلاك الأبدي ، والشقاء السرمدي ، الحاصل من فساد الإعتقاد ، وبطلان الروح بانقطاع الأغذية الروحانية عنها ، التي هي الإيمان بالله ، والطاعة ، والعلم ، والعبادة ، وتوارد السموم المهلكة لها ، من الكفر والمعصية والجهل والغواية ، وفي قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } [ 28 ] : إشعارٌ لطيف بثبوت ضابطة كُلِيَّة ، وقانون إلهي ، في إهلاك كل طائفة من الكفرة الفجرة ، بسبب مخصوص ، يعني أن إنزال جنود من السماء ، وألوف من الملائكة ، لانتصار خاتم الأنبياء ، مما لا يؤهله غيره ، والعقوبة بها لا يناسبه إلاّ أعداؤه ، الذين هم أعند الناس للحق ، وأجحدهم للحكمة والمصلحة . وذلك لأن نزول العذاب والقهر على الأمم المكذبة ، من آثار غضب نبيهم ، وتأثيره قوة قهره بحسب اتصافه بصفات الله ، والنبي الخاتم ، هو صاحب المقام الجمعي ، والمتصف بجميع صفات الله ، المتخلق بأخلاقه كلها ، فله جميع أسمائه ، والملائكة وفنونها وشعبها مظاهر أسمائية ، فلمّا كان تأثير ذاته الكاملة بجميع الأسماء ، كانت الملائكة نازلة بحسب تلك الأسماء وتأثيراتها ، فَيُعِينونَه ويُمِدّونه ، وأما سائر الأنبياء ، فلما كان اتصافهم ببعض الأسماء ، كان لا ينزل من قهرهم إلاّ بعض الملائكة بحسب حالهم ، وقوة تأثير كمالهم . وها هنا دقيقة ينبغي أن لا تغفل عنها ، وهو أن التأثير بجميع الأسماء ، حتى أسماء اللطف والرحمة ، لا ينافي الغضب بها ، ونزول العذاب بحسبها ، وبأيدي مظاهرها ، التي هي ملائكة الرحمة ، وذلك لأن النفوس الشقيّة الضالة ، مما تتأذى وتتعذب بالرحمة والهداية أكثر مما يتضرر بالغضب والنقمة ، كمثال الجُعل ورائحة المسك ، فافهم واغتنم . فمعنى الآية : أن إنزال جنود الملائكة ، من الاجرام الفلكية ، من الخصائص العظيمة ، التي لم أفعله ، وما كنا نفعله لغيرك ، فضلاً لحبيب النجّار ، غضباً على قومه . ثم بيَّنَ سبحانه ، كيفية اهلاكهم ، ليعلم المتفكر المتدبّر من كيفية هلاكهم مرتبتَهم في النقصان ، فقال : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 29 ] .