Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 40-40)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } : دبّر الله سبحانه أمر العالم الجسماني بهاتين الآيتين - آية الليل وآية النهار - ، كما دبَّر أمر العالم الروحاني بآيتين قُدْسِيَّتين : آية النفس وآية العقل ، وعظَّم الله أمرهما ، ليعرف الإنسان كيفيّة تدبيره تعالى لباطن أحبّائه وعباده الصالحين ، بتوسّط نشأَتَيَّ النبوة والولاية في العالم الإنساني ، فإن موجودات هذا العالم ومظاهره ، مرائي يدرك بها أحوال العوالم المستعلية ، فجعل لكل من هاتين الآيتين قانوناً مضبوطاً ، وأجلاً معلوماً ومدةً معيّنة ، فالشمس لا تقطع فَلَكها إلاّ في سنة ، والقمر يقطع فلكه في شهر ، فكانت الشمس حَرَّيةً بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها عن سير القمر ، والقمر جدير بأن يوصف بالسَّبْق لسرعة سَيْره . وقيل : لمّا باين الله بين فلكيهما ومجراهما ، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر ، ما داما على هذه الصفة ، ولا تجتمع ليلتان ليس بينهما يوم ، كما لا يجتمع نهاران ليس بينهما ليل ، وذلك لدوريّة حركات الشمس بلا رجوع ، وإحاطة الفلك الذي مجراها جوانب الأرض فوق الأفق وتحته ، وإلاّ لَجَازَ أن يكون الطالع في كل يوم شمس أخرى لها نهار آخر وليل آخر ، فيجتمع ليل أحدهما مع نهار الآخر ، في وقت واحد لا يسبق عليه . حكاية روى العياشّي في تفسيره ، بالإسناد عن الأشعث بن حاتم ، قال : كنت بخراسان ، حيث اجتمع الرضا ( عليه السلام ) ، والفضل بن سهل والمأمون ، في الإيوان الحبري بمَرْو ، فَوُضِعَت المائدة ، فقال الرضا ( عليه السلام ) : إن رجلاً من بني إسرائيل سألني بالمدينة ، فقال : " النهار خُلِقَ قبلُ أم الليل ، فما عندكم ؟ " . قال : فأداروا الكلام ، فلم يكن عندهم في ذلك شيء ، فقال الفضل للرضا ( عليه السلام ) : " أخبرنا بها أصلحك الله " . قال : " نعم ، مِن القرآن أم مِن الحساب ؟ " قال له الفضل : " من جهة الحساب " . قال : قد علمت يا فضل ، أن طالع الدنيا السَّرطَان والكواكب في مواضع شَرَفها ، فَزُحَلُ في الميزان ، والمشتري في السرطان ، والشمس في الحَمَلْ ، والقمر في الثَّور ، فذلك يدل على كينونة الشمس في الحَمَل ، في العاشر من الطالع في وسط السماء ، فالنهار خلق قبل الليل ، وفي قول الله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ، أي قد سبقه النهار . ثم في هذه الآية أسرار شريفة لا ينبغي كتمانها : منها : أن الشمس لما كانت مثالاً للعقل ، وعلمه إجمالي بسيط ، فعّال للتفاصيل ، وفيّاض للعلوم النفسانيّة المتكثّرة ، والقمر مثال للنفس ، لكونه قابلاً للنور الحسيّ الوارد عليه من النيّر الأعظم ، كما أن النفس في ذاتها خالية عن أنوار العلوم ، وإنما يفيض عليها من المبدء العقلي الفعّال بإذن الله ، حقائق الصور والكمالات ، وعلومها تفصيلية متكثّرة منتقلة من معقول إلى مفعول ، فناسب الحركة البطيئة لها ، الحاصلة من دورة واحدة في سنة واحدة تامة ، جامعة لجميع أحوال الفصول الأربعة ، المشتملة على حدوث أشخاص كل نوع من الأنواع الطبيعية كالإناس والخيول ، وناسب القمر الحركة السريعة المشتملة على دورات كثيرة في كل سنة ، وليس في دورة واحدة منها ما يجمع سائر الآجال والفصول ، ولا تفي مدتها بأن تسع فيها نشوء ماله قدر وخطر من المولدات ، حتى الخضروات والبقول . فانظر كيف جعل الله الشمس والقمر خليفتين عظيمتين في تدبير الكائنات ، وإنشاء النبات والحيوانات ، في عالم الأشباح ، كما جعلهما آيتين عظيمتين للعقل الكلّي والنفس الكلّية ، اللذين كل منهما خليفة الله في عالم الأرواح . وانظر كيف جعل أَنْورَهُما وأَعْظَمُهمَا آيةَ النهار ، وأصغرهُما آيةَ الليل ، كما جعل العقل الأعظم ، آية نهار عالم الجَبَروت والقدرة والتأثير ، وهي أوائل الوجود ، الفائضة حسب الإبداع من الحق المعبود ، وجعل النفس الكلية آية مساء عالم الملكوت والتأثر والقبول ، وهي ثواني الوجود التالية عن العقول ، في قبول الرحمة والجود . فقوله : " لا الشمس ينبغي لها أن تُدْرِكَ القمر " أي : لا تدرك آيةُ النهار آيةَ الليل ، في وصف الحركة والانتقال ، والتجدد من حال إلى حال ، لكون القمر أقرب إلى عالم القوة والإنفعال ، وضعف الأحوال ، ومنبع الدثور والزوال ، وهي الهيولى الأولى ، الواقعة في مهوى جحيم النَّكال ، وأسفل درك الخسة والوَبال ، بخلاف الشمس ، فإنها أقرب إلى عالم الثبات والدوام والإتصال ، ومعدن الشرف والبقاء والكمال ، وأجدر بمجاورة القيُّوم المُتَعَال ، الغالب على أمره ، والقاهر على كل شيء بالقدرة والجلال . وقوله : " ولا الليلُ سابقُ النهار " أي : لا يسبق آيةُ الليل آيةَ النهار في وصف النوريَّة والشروق ، وقوة الوجود والظهور ، فإن الشمس نيّرة لذاتها ، قاهرة للغَسَق بحسب فطرتها وجوهرها ، تطرد الوحشة والظلمة عن هذا العالم ، كما يطرد ذات الباري تعالى العدمَ والإمكان عن العالم الأعلى ، والقمر يستعير النور من الشمس ، ويكتسب ويستوهب الضياء والشروق عنها وبسببها ، وكيف يسبق المستعيرُ الكاسبُ المستفيضُ المستوهبَ لصفة كمالية على المبدء الفيّاض الواهب المعطي إياها ؟ وفي هاتين الآيتين ، أسرار عظيمة لِمَن تأمَّل وتدبَّر في إبداعهما ، وتفكَّر في خلقهما وخلق عجائبهما ، وعجائب غيرهما من أنوار الكواكب والأفلاك ، وملكوت عالم السموات والأرض ، إذ في كل منها آثار عجيبة ، وأنظار دقيقة لمن نظر فيها وفي دورانها ، وطلوعها وغروبها ، واختلاف مراكزها ومناطقها وأقطابها ، ومحاورها ومشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام ، من غير فتور وتعب وقصور في الإنتظام ، ولا ملال ولا كلال في الطلب والشوق إلى عبودية الله على الاتصال . وعجائب السموات ، مما لا مطمع في احصاء عُشْرٍ عَشير من جزء من أجزائها ، وما من كوكب إلاّ والله حِكَمٌ كثيرة في خلقه وإبداعه ، ثم مقداره وشكله ، ثم في سمكه وارتفاعه ، ثم في نوره ولونه ، ثم في وضعه من السماء وقُرْبه وبُعْده من منطقة الفلك ، وارتباطه بغيره من الكواكب ، ثم في حركته على الدوام ، وتشبّهه بمبدئه العقلي الكامل على التمام ، ثم استكماله في عبوديتّه وطاعته لمبدء الكل وقاهر الجميع ذي الجلال والإكرام ، الذي يضمحل في جنب نوره نور كل عقل ونفس ، وطبع وحس ، وتُبْهَر في إدراك عظمته عقول الملائكة والخلائق والأنامُ . سِر آخر ومن الأسرار التي يدركها الإنسان بملاحظة النيرين ، وسائر الكواكب ، أنه كما أن نور القمر إنما هو عين نور الشمس ، قد انعكس عن صفحة جرمه إلى أعين الناظرين لصقالته وكثافته ، فيتوهم الإنسان أن له نوراً غير نور الشمس ، سواء كان مستقلاً - كما توهمه العوام - ، أو مستفاداً منها كما أدركه الخواصُّ بدقة علومهم البحثيّة ، وكلاهما زَيغٌ وغلط من الحس او العقل . بل الحق الحقيق بالتصديق ، ما انكشف لدى الأخصيّن من خواصّ الناس ، المتخلّصين عن ظلمات عالم الحواس ، وأدناس القوى الوهمية المتعلقة بالأرجاس ، المقدّسين عن إغواء شياطين الوهم بالوسواس ، وهو أن النور الحسي كالنور العقلي ، حقيقة واحدة ، لها مراتب متفاوتة في القوة والضعف ، والقرب والبعد من ينبوعها وأصلها ، ومرايا وقوابل متعددة مختلفة في اللطافة والكثافة ، والصفاء والكدورة ، والجلاء والخفاء ، والإنقطاع والانطباع . وهذا النور ذاتي للشمس بوجه ، موجود لها بالذات ، وعَرَضِيٌّ لما سواها موجود لها بالتبع ، بمعنى أنها مظاهر لشهوده ، ومجالي لوجوده بواسطة العلاقة الوضعية ، التي بها مع الشمس كالمقابلة أو ما في حكم المقابلة ، لأن حقيقة النور حالة فيها أو صفة قائمة بها ، وهكذا يكون حكم نور الوجود ، لأنها حقيقة واحدة هي عين القيُّوم تعالى ، ولها مظاهر مختلفة ومجالات متعددة تدرك بحسبها ومن وراء حجبها حقيقة الوجود ، على ما تقتضيه طبيعة تلك المظاهر والحجب ، من الماهيّات والأعيان كل بحسبه ، لا على ما عليه الحقيقة في نفسها ، لامتناع الاكتناه لها والإحاطة بها { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } [ طه : 111 ] . سِرٌّ آخر وهو أن لكلٍ من الموجودات مرتبة في ظهور الوجود بحسب الواقع ، وله مرتبة فيه بحسب مدارك الناظرين ، فقّوة الوجود والظهور وضعفهما ، كما يكونان للشيء بحسب الواقع ، كذا يكونان له في ملاحظة الناظرين ، لأن فَرْطَ الظهور قد يؤدي إلى الخفاء والقصور ، بالقياس إلى المدارك الضعيفة ، لقلة الاحتمال ، وعروض الكَلاَل ، ولهذا تكون عند أكثر الناس الأجسامُ والمحسوساتُ . أقوى وجوداً وأظهر انكشافاً من العقول وكليّات الحقائق ، لقصورهم عن دَرْكها ، والحق أخفى عندهم من كل شيء ، مع أنه تعالى أظهر الأشياء وأجلاها ، وهذا لكونهم مُتَوَطّنين في عالم الظلمات ، فعيونهم العقلية وبصائرهم الباطنية ، في إدراك العقليات والالهيات ، كعيون الخفافيش وأبصار العمشان ، بل العميان ، في إدراك أنوار الحسّيات ، لقدرة الإشراق منه ، وضَعْفِ الأحْداق منهم . فإذا علمت هذا ، فالحال في نورَي النيرِّيْنِ على ذلك المنوال ، من كون أحدهما قويَ الوجود والنوريَّة بحسب نفسه في الواقع ، ولكن لا تحتمله قوة الإبصار فيعرض له الاستتار ، والآخر ضعيف الوجود والنورية في الواقع ولكن يقوى ظهوره عند الظلام ، ويتجلّى نوره في الليالي على أعين الأنام . وهذان بعينهما مثالان للعقل والنفس ، فإن أحدهما قوي الوجود والنوريَّة العقلية في الخارج ، ولكنه لا يختفي وجوده وظهوره عن الخلق ، والآخر بعكس ما ذُكِر ، بل هما مثالان للحق جلَّ ذِكْرُه بالنسبة إلى النشأتين - نشأة الدنيا ونشأة الأخرى - ، فإن الحق مستور والخلق مشهود في هذا العالم ، بالقياس إلى مدارك ضعفاء العقول ، المتوطنين في الظلمات كالخفافيش بعيونها الضعيفة الناقصة ، وأما وجوده في الحقيقة وبحسب النشأة الآخرة ، وبالقياس إلى العقول النيّرة المقدسة ، فمشهود جَلِي ، ووجود الخلق مستور خَفِي ، على عكس ما هو عند أهل الحجاب . فالشمس والقمر آيتان دالتان على رحمان الدنيا ورحيم الآخرة ، فآية النهار مثال لوجود الحق في العقبى ، وآية الليل مثال لوجوده في الأولى ، وبوجه آخر ، هما مثالان لوجود الحق والخلق ، فإن أحدهما فيّاض النور على ذات الآخر ، ولهذا يختفي عند سطوع نوره الأقهر ، وجلاله الأظهر ، ويظهر عند غيبته عن الحواس ، وانبساط ظلمة الليل على أعين الناس ، فقوله : { وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } من قبيل قوله : { أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ] . سِرٌّ آخر كلما بَعُدَ القمر عن جُرْم الشمس ، امتلأ نوراً وشروقاً ، وزاد جلاءاً وظهوراً ، وكلما قَرُبَ منها دقَّ وضَعُف ، واستقوس ظهره ، وانحنت قامته ، حتى إذا صار في غاية القرب عند المقارنة الحقيقية ، انمحق نوره بالكلِّية ، وزال ظهوره رأساً ، فهو مثال السالك الواصل الفاني في مقام العِنْديَّة والقُرْب ، وهو أيضاً مثال المحجوب الباقي مع النفس في مقام الغيريَّة والبُعد ، " فالليل " ، مثال هوية العبد وأنانيته ، الموصوفة بظلمة الإمكان وسواد الحَدَثان ، " والنهار " ، مثال الوجود الفائض عليها من شمس الحقيقة وقيُّوم الوجود ، فالمحجوب المطرود عن باب الله ، يتوهم أن لِهُوِيَّتِهِ وجوداً مستقلاً سابقاً في شهوده وإدراكه ، على وجود الحق ، فللإشارة إلى نفي هذا الاحتمال عن بصائر أولي الأبصار ، وقع قوله تعالى : { وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } . سِرٌّ آخر إعلَمْ - أيَّدَكَ الله تعالى - ، أن القمر عاشق صادق لملك الكواكب ، وأمير السيارات ، وقاهر الظلمات بالنور ، حافظ الأزمنة والدهور ، باسط الخيرات على الكائنات ، دافع الشياطين ومردة الجن والغيلان بالأنوار الراجمات الزاجرات ، منبع أنوار الحواس ، وقامع وحشة الظلمة والوسواس ، واهب البهجة والسرور ، محيي أموات النائمات من النفوس في مراقد كالقبور ، بنفخ صور الحرارة الغريزية في صباح النشور ، مخرج حياة المواليد من القوة إلى الفعل ، مثال الله الأعظم في هذا العالم ، مظهر رايات العبودية ومظهر آيات العبودية . ومن دأب العاشق المسكين ، التوجه إلى جناب معشوقه ، والتوصل إلى صحبة محبوبه ، فلهذا صار القمر سريع السَّير ، لا يمكث في منزل إلاّ يوم واحد غالباً ، وربما يتخطى يوماً واحداً منزلين ، لشدة شوقه وسرعة سلوكه إلى جناب معشوقه ، فيسير سيراً حثيثاً ، حتى يرتقي من حضيض البُعد والإنفصال : إلى أوْجِ القُرْب والإتصال ، فإذا فنى عن ذاته عند الانمحاق ، وتنوَّر بنور محبوبه في شدة القرب والإشراق ، قال بلسان حاله هذا المقال : @ وكان ما كان مما لستُ أذكرُه فَظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر @@ ثم إذا رجع إلى ذاته ، وعاد إلى الصحو بعد المَحْو ، وسافر من الجمع إلى التفرقة والتفصيل ، وأخذ منصب الخلافة والرسالة في إرشاد السالكين للسبيل ، وبعث لهداية المتوطنين في الظلمات ، وتعليم النازلين في مراقد الجهالات ، قاربت المقابلة الوضعية الحسية ، فانعكست إلى ذاته الأشعة الشمسية ، وأضاءت ذاته بأنوارها بعد ما كان مظلماً ، وأنار جوهره بأشعتها غِبَّ ما كان مغيماً ، قائلاً : " من رآني رأى الشمس " وربما نطق : @ إذا تَغَيّبْتُ بدا وان بَدَا غيّبني @@ فلما نظر إلى ذاته ، فما رأى شيئاً خالياً من أنوار الشمس وعطاياها ، فقال عند ذلك في غاية سكره : " أنا الشمس " لولا أن ثبّته الله بالقول الثابت ، مثل ما قال أبو يزيد ، والحلاّج وغيرهما من أصحاب التجريد ، وسكارى شراب المحبة والتوحيد ، حيث كانوا أقمار سماء التفريد ، ومرائي شمس الحقيقة والتمجيد ، فلما أضاءت أراضي قلوبهم ، وصفحات وجوههم بنور الرب ، باحوا بالسر الخفي ، إما لغاية السكر والوجد - فكلام المجانين يطوى ولا يروى - ، وإما للإشتباه بين المرآة والمرئي ، أولاَ ترى أن المرايا المتعددة ، المختلفة في الصقالة والكدورة والإستقامة والإنحناء ، إذا تجلَّت فيها صورة واحدة في حالة واحدة ، ظهرت فيها بحسبها ، ولو كان تجلّيها في المرايا حلولاً أو قياماً ، لما أمكن حلول شيء واحد في محالّ متعددة مختلفة . فاعلم وتثبّت - أيها العارف السالك - ، أن التجلي غير الحلول والاتحاد والاتصال ، لئلا تقع في الضَّلال والكفر والاحتجاب والانفصال ، فتدَّعي بوقاحتك الاتصاف بالكمال ، وتسبق بنورك الموهوم ، ووجودك المتهم المبهم الميشوم ، نور المُهَيْمِن المُتَعَال ، ووجود المبدء الفعّال ، ولا تتوهمّن أيها المحجوب لذاتك ، وجوداً ، سوى ما أفاضه العزيز القهّار ، ولا تكونَنَّ بظهور هويتك الموهومة ، ممحّاً لظهور نور الأنوار ، كاشفاً لنوره عن شهودك ، كسف القمر نور الشمس عن عيون الناظرين من الأبصار ، واتل قوله تعالى : { وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } . { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ 40 ] : " التنوين " في " كل " : عِوضٌ من المضاف إليه ، و " الفَلَك " جُرْم كروي ، مجرى الكواكب ، سُمِّي به تشبيهاً بفلكة المغزل في الاستدارة والحركة الدَّوريَّة . ذكر الشيخ أبو ريحان البيروني ، في القانون المسعودي : " أن العرب والفرس ، سلكوا في تسمية السماء مسلكاً واحداً ، فان العرب يُسمّون السماء " فلكاً " تشبيهاً بفلك الدولاب ، والفرس سموها بلغتهم " آسمان " ، تشبيهاً لها بالرحى ، فإن " آس " هو " الرحى " بلسانهم و " مان " لفظ دال على التشبيه " انتهى . والمعنى : وكل واحد منهم - أي من الكواكب بدليل ذكر بعضها وهو الشمس والقمر - في فلك من الافلاك يسبحون ، ويتحركون من موضع إلى موضع ، ومن وضع إلى وضع ، بالعقل والتدبير والإرادة والاختيار ، طلباً لعبادة الله وطاعته ، كما يدل ضمير الجمع لذوي العقول ، وليس في العقل انقباض عن كون الأفلاك وما فيها أحياء ناطقون ، بل في الأنظار العقلية والقواعد الحِكَمِيَّة ، ما يدل على كونهم عشّاقاً إلهيّين ، وعبّاداً راكعين ساجدين ، طوّافين على باب حضرة رب العالمين ، رقّاصينَ متواجدينَ في إدراك عظمة أول الأوَّلين ، هو الذي أدار رحاها ، وبسم الله مجريها ومرساها . وقد أطبق الطبيعيون بعلومهم الطبيعية ، والآلهيون بفنون حكمتهم الالهية ، على أن الأفلاك بأجمعها ، حيّة ناطقة ، عاشقة ، مطيعة لمبدعها وخالقها ومنشئها ومُحَرِّكِها ، إلاّ أن الطبيعيّين تفطنوا به من جهة استدارة الحركات من الأجرام ، التي يتحدد بها الجهات ، قبل وجود الأجسام المستقيمة الحركات ، حيث يحتاج دوامها إلى قوة روحانية عقلية ، غير جسمانية متناهية الأفعال والإنفعالات ، وأما الآلهيون فعلموا بذلك ، من جهة كثرة العقول ، وتعدُّد المباديء والغايات ، ووجود الأشواق الكلية للعشّاق الآلهية ، وحكموا بأن غرضها من حركاتها ، نيل التشبّه بجنابه ومُقَرَّبيه ، والتقرُّب إلى سكان حضرته ومجاوريه . والاشراقيون منهم ، على أن حركاتها لورود الشوارق القدسيّة ، وسنوح البوارق الآلهيّة عليها آناً فآناً ، فكل إشراق يقتضي شوقاً وحركة ، وكل حركة تستدعي إشراقاً وإفاضة ، فتتصل الحركات حسب توارد الإشراقات ، كما يقع لأهل المواجيد من أصحاب البدايات في السلوك والتوحيد . وأما الكُمَّل فلهم مقام التمكين كالعقول المهيّمين . وذهب جَمٌّ غفير من الحكماء ، إلى أن كل كوكب ، بل كل كرة أثيرية ، له نفس على حِدَة ، تُحرّكه بحركة مستديرة على نفسه ، وحكمه في الشعور والإرادة والشوق إلى مُفَارِقٍ عقلي ، والتشبّه بمعشوق قدسي ، حكم الفلك الكلي ، فحكموا أن لا ميّت في عالم الأثير . وبعضهم ذهب إلى أن النفس الفلكي ، يتعلق أولاً بالكوكب ، لأنه بمنزلة القلب للحيوان الكبير ، وبتوّسطه تتعلق بالتداوير ، والأفلاك الجزئية والمتمّمات ، التي هي بمنزلة الأعضاء والأبعاض فيه . والشيخ أبو علي بن سينا ، مال إلى هذا القول ورجّحه ، وحكم به في النَّمَط السادس من اشاراته حكماً بتّياً حيث قال : " ويلزمك على أصولك أن تعلم أن لكل جسم منها كان فلكاً محيطاً بالأرض ، موافق المركز أو خارج المركز ، أو فلكاً غير محيط بالأرض ، مثل التدويرات أو كوكباً ، شيئاً هو مبدء حركته المستديرة على نفسه ، لا يتميّز الفلك في ذلك عن الكواكب ، وأن الكواكب تنتقل حول الأرض بسبب الأفلاك التي هي مركوزة فيها ، لا بأن تنخرق لها أجرام الأفلاك . ويزيدك في ذلك بصيرة ، أنك إذا تأملت حال القمر في حركته المضاعفة وأوْجَيْه ، وحال عطارد في أوْجَيْه ، وأنه لو كان هناك انخراق يوجبه جَريان الكواكب ، أو جَرَيان فَلَك تَدْوير ، لم يعرض ذلك كذلك " انتهى . وليس الغرض من هذا النقل ، الركون إلى أصوله التي قد بنى عليها إثبات هذا المرام ، من امتناع الخرق على الفَلَكِيات والالتئام ، إذ لا استحالة عندنا على حسب أصولنا اليقينية الإيمانية ، في بوار الأفلاك وفناء السموات ، بحسب قدرة الله وإرادته ، متى شاء ، في أي وقت من الأوقات أراد ، وإن كان الواقع ثبات أجرامها منذ خُلِقَت ، وعدم انخراقها والتئامها ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] وقوله : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] . بل الغرض من ذلك أمران : ترجيح القول بأن الكواكب - بل الأفلاك - كلها أحياء ناطقون مطيعون لله تعالى ، كما دلّت عليه هذه الآية ، وقوله : { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وكَسْر سَوْرة المُصرّين من المتفلسفين على إنكاره ، وتسكين صَوْلَة المشنّعين من الفقهاء الظاهريين على من قال به . وكفى في إثبات هذه الدعوى على المنكرين ، ما وقع في بعض خطب إمام الأولياء وسيد الأوصياء أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله من الرب الأعلى ، من قوله : " فملأَهنّ أطواراً من ملائكته ، فمنهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا فترة الأبدانَ وَلاَ غَفْلَة النسيان " . ثم ما الباعث لجحود أهل الحجاب ، إلاّ ما شاهدوا من هذه الحيوانات العصبيّة اللحمية المأنوسة لهم من الكلاب والذئاب ، أنها ليست إلاّ ذوات رؤوس وأذناب ، بل لم يتوهموا نفوسهم ، إلاّ هياكل محسوسة متكثرة الأدوات ، مركبّة من القوى والآلات ، ولم يعلموا أنها غير داخلة في مفهوم الحي الدرّاك ، فمنعوا من إطلاق الحياة على ما في الأفلاك ، ولو تأملوا قليلاً ، لعلموا أن نفوسهم التي بها أنانيتهم ، ومنشأ جحودهم لهذا القول حيَّة قائمة ، غير ذات رأس وذنب ، وشهوة وغَضَبْ ، فتعساً لجماعة جوزوا الحياة والإدراك لمثل البعوضة والنملة فما دونها ، ولم يسّوغوا للأجرام الشريفة الإلهية والبدائع اللطيفة النورانية . وقد عظَّم الله أمرها في كتابه الكريم ، فَكَمْ مِن سورة تشتمل على تفخيم السماء والنجوم ، وخصوصاً النّيرين وبعض السيارات ، وكم من آية تشتمل على القَسَم بها وبمواقعها ، كقوله : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [ البروج : 1 ] { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ * ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } [ الطارق : 1 - 3 ] { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 1 - 2 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [ النجم : 1 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75 - 76 ] . ومن الشواهد على كرامة ذواتها : وشرافة جواهرها ، وقوام صورها المعراة عن الأضداد والأنداد ، ودوام نفوسها ومُحَرِّكاتها بأمر المبدء الجواد ، جَعْلُها واسطة لأرزاق العباد ، حيث قال : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 5 ] وكونها مُرتَقَى الكلمات الطيِّبات ، والدعوات المستجابات لقوله تعالى : { كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [ إبراهيم : 24 ] . ومن الشواهد مدحه وثناؤه تعالى ، على المتفكرين والناظرين في بدائع فطرة السموات ، فقال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [ آل عمران : 191 ] وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " ويل لِمَنْ قَرَأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته " أي تجاوزها من غير فكر ورويّة . وتوبيخه المعرضين عنه فقال : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] فأي نسبة لهذه المتغيرات من الأرض والبحار ، إلى السموات التي هي صلاب شداد ، محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، ولذلك سمّاه الله " محفوظاً " كما مرّ ، وقال أيضاً : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } [ النازعات : 27 - 28 ] . فانظر إلى هذه القدرة والملكوت ، لترى بعد ذلك عجائب العزة والجبروت ، ولا تظن أيها المغرور ، بعلمك المشهور المكشوف عند الجمهور ، الباعث لجاهك الحقير في عالم الزور ، أن معنى النظر إلى ملكوت السماء ، بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتَعْرفها ، فإن البهائم والدواب تشاركك في هذا النظر ، بل انظر إليها نظراً عقلياً ، وتفطّن بها إلى ملكوتها ، وتَعْبُر من عالمها إلى عالم ، آخر فيه خلائق روحانيون محبورون على مشاهدة تقديس الله ، حائرون في شهود جماله وملاحظة جلاله ، لا يلتفتون إلى ذواتهم المقدسة المتنورة بنور الحق ، - فضلاً عن التفاتهم إلى ما دونهم - . فَتَحَوَّلْ أيها السالك بقلبك أَولاً في ميادينها وأقطارها ، وأطِلْ فكرك في كيفية حركاتها ، وتَفَنُّن جهاتها ودورانها ، ثم إلى جواهر محرّكاتها من نفوسها وعقولها ومعشوقاتها ، إلى أن تقوم بين يدي عرش الرحمان ، الذي هو معبود الكل والمعشوق الأول ، فعند ذلك ، ربما يرجى أن يفيض عليك من رحمته الخاصة لعباده الصالحين ، ويهديك إلى صراطه المستقيم المنعم به عليهم - لا المنحرفين الضالين . ولا يتيسر لك ذلك ، إلاّ بمجاوزة الحد الأدنى ، حتى تصل إلى الحد الأعلى على الترتيب ، فأدنى شيء إليك نَفْسُك وَبَدَنُك ، ثم الأرض التي هي مقرك ، ثم الهواء اللطيف المطيف بل المكتنف بك ، ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض وملكوتها ، ثم عجائب الجو من ملائكة السحاب ، وزواجر الرعد والمطر ، ومُشَيّعي الثلج التي بيدها مثاقيل المياه ، ومكائيل الأمطار - فتحتاج إلى العلوم المتعلقة بها من علم النبات والحيوان وعلم كائنات الجو - ثم السموات السبع بكواكبها وأشكالها وأوضاعها وحركاتها وأنظارها - فتحتاج إلى علم الهيئة والنجوم ، وعلم السماء والعالم - ثم الكرسي والعرش الحافظان للزمان والمكان ، المحددان للجهات والأبعاد والأحيان - فتحتاج إلى كليات علم الطبيعي وسمع الكيان - ثم الملائكة الذين هم حملة العرش وخزان السموات - ، فتحتاج إلى علم الشريعة الحقة ، ومعرفة عالم الملكوت والجبروت ، وهو علم المباديء والغايات ، وعلم المفارقات . ثم منه تجاوز النظر إلى رب العرش والكرسي ، والسموات والأرض ، ورب الملائكة والروح ، فتحتاج إلى علم التوحيد ، الذي سلكه جميع الأنبياء من لدن آدم إلى الخاتم ( عليه وعليهم السلام ) ، وإليه الغرض في بعثة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، هذه سبيله وسبيل من اتبعه إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] . فبينك أيها الغافل وبين ما خُلِقْتَ لأجله ، هذه المفاوز العظيمة ، والأودية الشاقّة ، والعقبات الشاهقة ، وأنت لم تفرغ من أدنى العقبات وهي معرفة نفسك ، ثم تدّعي بوقاحتك معرفة الرب وتقول : عرفتهُ وعرفتُ قدرته وخَلْقَه ، ففي ماذا تفكر ؟ وإلى ماذا تَطَّلع ؟ . وهذه غاية القصور ، ونهاية الغرور ، فارفع - قبل أن يَسْتَحكِم فيك هذا الجهل المركّب ، ويترسّخ هذا الغرور المعجب - رأسك إلى السماء ، وانظر فيها نظر أولي العلم والدراية والحكمة - لا نظر البهائم إلى الدولاب والدعامة - ، وفي كواكبها وفي دورانها على الدوام ، ودؤوبها على الاستمرار في طاعة الله الملك العلاّم ، من غير فتور في حركاتها ، ومن غير تقصير في سعيها وسيرها : ولا تغيير في نَسَقِها وسُنَّنها ، بل تجري جميعاً في منازل مرتبَّة بحساب مقدر ، لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن يطويها الله طيَّ السِّجِل للكُتُب . ثم انظر كيفية أشكالها ، فبعضها على صورة الحَمَل والثَّور ، وبعضها على صورة الأسد والعقرب ، وبعضها على صورة البشر من الرامي والتوأمين ، وما من صورة في الأرض إلاّ وَلَها مثال في السماء . ثم انظر إلى عظمة مقدارها ، وقوة قواها وشدة أنوارها ، وكثرة آثارها وقد اتفق الناظرون في علم الهيئة ، على أن الشمس مائة ونيّف وستون أمثال الأرض ، وفي الأخبار ما يدل على عظمة الكواكب التي نراها ، أصغرها هي مثل الأرض ثمان مرات ، وأكبرها تنتهي إلى قريبٍ من مائة وعشرين مرة مثل الأرض وفي الأخبار : " أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمس مائة عام " . وانظر كيف " عبّر جبرئيل ( عليه السلام ) ، عن سرعة حركة الكواكب ، إذ قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل زالت الشمس ؟ فقال : لا ، نعم . فقال : كيف تقول : لا ، نعم ؟ فقال : من حين قلت : " لا " إلى أن قلت : " نعم " سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام " . فانظر إلى عِظَم شَخْصها ، ثم خفة سيرها وسرعة طاعتها ، ثم انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم ، كيف أثبت صورتها مع اتساع أكنافها في مرآة إحدى حدقتيك مع صغرها ، حتى تجلس في الأرض وتفتح عينيك ، بل أحدهما نحو السماء فترى جميعها ، بل انظر إلى بارئها ومنشئها كيف أبدعها ثم أمسكها من غير عمد ترونها ، ومن غير علاقة تتدلى بها ، بل استحفظها بعينه التي لا تنام . وكل العالَم كَبَيْتٍ واحد والسماء سقفه ، والعَجَبُ منك انك تطيل النظر إلى بيت فيه تصاوير وزخرفات ، ثم لا تلتفت بقلبك إلى هذا البيت العظيم ، وإلى أرضه وسقفه ، وعجائب أمتعته ، وغرائب حيواناته ، وبدائع نقوشه وتصاويره ، فما هذا البيت دون البيت الذي شُغْفت به ، ومع هذا لا تنظر إليه نظر الشوق والمحبة ، ليس لذلك سبب ، إلاّ أنه بيت ربك ، وهو الذي انفرذ ببنائه وتزيينه ، وأنت معرض عن إلهك ، ناسٍ لذِكْرِهِ ، لأنك ممن نَسِيتَ نَفْسَكَ فأنساك الله ربك ، لأن معرفة النفس تستلزم معرفة الرب ، ونسيانها نسيانه . ولهذه الملازمة الواقعة بين المعرفتين والنسيانين ، قال الله تعالى : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] وقال نَبِيُّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " مَنْ عَرَف نفسه فقد عرَف ربه " ، فاشتغلت بِبطْنك وفَرْجِك ، ليس لك هم إلاّ شهوتك أو حِشمتك ، فأنت غافل عن بيت الله تعالى ، وعن ملائكته الذين هم عمّار بيته المعمور وسكّان سماواته ، ولا تعرف من السماء إلاّ ما تعرفه النملة من سقف بيتها ومن صنع الصانع فيه ، ولا تعرف من ملائكة السموات إلاّ ما تعرفه النملة منك ومن سكّان بيتك . والفرق بينكما ، أنه ليس للنملة طريق إلى هذه المعارف ، وليست مكلّفة بأداء شكر هذه النعم الجليلة ، وأما أنت ، فلك استعداد واقتدار على أن تجول في عالم الملكوت فتعرف عجائبها ، شاكراً لِنَعم الله التي أعطاكَها ، عارفاً بالله ، حامداً له حق معرفته وحَمْدِه ، بحسب ما أمكنك وتيسّر منك ، لا على ما هو حقه بحسبه ، لأن ذلك شيء عجز عنه الواصفون ، واعترف بالقصور الملائكة والأنبياء والمرسلون ، سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون .