Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 47-47)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذا قيل للمشتغلين بالجَمْع والإدِّخار ، الناسين للآخرة والرجوع إلى الواحد القهار - لانهِماكِهِم في طلب اللذّات واقتناء الشهوات ، واستغراقهم في أبحر الشواغل الماديّات ، ورقودهم في مراقد الجهالات - : أنفِقوا شيئاً مما رزقكم الله في طاعته ، وأخرِجوا ما أَوْجَبَ عليكم إخراجه من أموالكم ، احتجّ الذين كفروا ، وستروا أنوار الحق بظلمات صفاتهم الرديَّة ، وأفعالِهم القبيحة للَّذِين آمنوا وشهدوا آياتِ معرفة الله بنور بصيرتهم ، في منع حقوق الله ، وإنكار فرائضه ، وإِبْطال أحكامه ، بأن قالوا : " كيف نُطْعِمُ مَنْ يَقدِر الله على اطعامه ، ولو شاء إطعامَه أطعَمَه ؟ فإذا لم يُطْعِمْ دلَّ على أنه لم يَشَأ " . وهذه شبهة واهية ومغلطة داحضة ، احتج بها طائفة من أهل الإباحة والضلال ، وانحبل بمثل هذه الحبال كثير من العوام والجهّال ، وهي أوهَنُ من بيت العنكبوت . ونظيرُ هذا القول ، قول من قال : " إن الله غنيٌّ عن عبادتنا ، وغني عن أن يستقرض منّا ، فأي معنى لقوله تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] وغني عن المعاملة معنا ، فما وجه قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] ؟ ولو شاء إطعام المساكين لأطعم ، ولا حاجة لنا إلى صرف أموالنا إليهم " . فانظر كيف كانوا صادقين في دعواهم ، وكيف هلكوا بصدقهم ، كأكثر المتكلمين في مجالس العوام والحكام ، الممارين مع أهل الحق في مسائل الحلال والحرام ، بتمهيد بعض المقدمات المقبولة من النقليات ، طلباً للشُبُهات ، وإحلالاً للمحرمات ، فسبحان من إذا شاء أهلَكَ بالصدق ، وإذا شاء أسْعدَ بالجهل ، { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] . وأما إفساد حجتهم ، وحَسْم مادة شبهتهم فبأنه يجب أن يعلم كل أحد ، أن الصفات والأخلاق ، مواريث الأفعال والمعاملات ، وأن الأعمال علاج لمرض القلوب ، ودواء لما في الصدور ، والأمراض الباطنية حاجبة عن وصول العبد إلى سعادة الأبد ، وهي مما لا شعور بها لأكثر الخلق ، إلاّ مَنْ ألْهَمَهُ الله من الأنبياء والأولياء ، ولكل مرض من أمراض القلوب دواء مخصوص ، وله قدر معلوم عند الله ، والطبيب إذا أثنى على الدواء ، لم يدل ذلك على أن الدواء مراد لعينه ، وعلى أن له فضيلة في نفسه ، بل المطلوب الأصلي ، هو الشفاء اللازم من تناول الدواء . فهؤلاء الجهلة الناقصون ، لمّا ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين ، أو لأجل الله ، ثم قالوا : " لا حظَّ لنا في المساكين ، ولا حظَّ لله فينا وفي أموالنا وسعينا وجهادنا مع الأعداء ، أنفقنا أو أمسكْنا ، بارَزْنا أم قعدنا " فقد هلكوا بهذه البضاعة من العقل والتمييز ، وتمرّدوا عن طاعة الشريعة بهذه المرتبة الضعيفة من الفطانة ، فضلّوا عن السبيل ، وانخرطوا في سلك الحمقى الأضاليل ، ولم يعلموا أن المسكين الآخذ لِمَا لَكَ من المال ، - وهو المهلك لك في المآل - ، يزيل منك بواسطته مرض البخل المهلك ، ويستخرج من قلبك حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ، وحب الدينار الذي هو أس كل فاحشة ، كالحجّام ، يستخرج الدم منك ، ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك ، فالحجّام خادم لك ، جالبُ نفع إليك ، لأنك تخدمه وتجلب نفعاً إليه ، ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً ، بأن يكون له غرض في أن يصبغ شيئاً بالدم . فهكذا الصدقات ، وانفاق المساكين بالمال والطعام ، مطهرة للبواطن ومزكية للقلوب عن خبائث المَلكَات ، وأمراض الصفات المهلكات ، ولهذه الدقيقة امتنع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أخذها ، وانتهى عن تناولها ، كما نهى عن كسب الحجّام ، وسمّى الصدقة " وسخ أبدان ( أموال ) الناس " ، وشرّف أهل بيته ( عليهم السلام ) بالصيانة عنها . فإذا ثبت عندك أن الأعمال مؤثرات في القلب ، والقلب بحسب تأثيرها ، يستعد لقبول الهداية ويستنير بنور المعرفة ، فإذا انكشف لديك هذا القول الكلي ، والقانون الأصلي ، الساري حكمه في جميع الأوامر والنواهي الشرعية ، وسائر التكاليف الدينية ، فاعلم أن الجواب عن قول الكفار : " لو شاء الله اطعامَ المساكين لأطعَمهُم " ، أن التكليف من الله شيء غير المَشِيَّة ، وتكليف الله عبادَه بشيء من الطاعات ، يضاهي إعلام الطبيب للمريض دواءً خاصاً يوجب استفراغاً لمواده الفاسدة ، كالحجامة وغيرها ، مع استغنائه عن ذلك ، فكذلك الباري يكلف عباده مع كونه غنيّاً عن العالمين . ثم أن نفس التكليف بتناول الدواء من الطبيب ، لا ينافي علمه بعدم تناول المريض له ، فكذا تكليفه تعالى ، لا ينافي تحقق علمه الأزلي ، وقضائه السابق ، بعدم قبول بعض العباد تكليفه ، لما في ذلك من المصلحة الكلِّية والفائدة . فإن رجعوا وقالوا : " فما الفائدة في التكليف في حق من لا يقبل ذلك من الكفّار والفساق ، حيث لم تتعلق المشيّة الأزلية بقبولهم ، بل تعلقت بعدم قبولهم " ؟ . قلنا : فائدته ترجع إلى من سواهم من المؤمنين المطيعين ، الذين تؤثر فيهم الدعوة والتكليف ، والإنذار والتخويف { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] . كما أن فائدة نور الشمس ، تعود إلى أصحاب العيون الصحيحة . وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى من ختم الله على قلوبهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكْمَه والأعمش { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 125 ] غاية ذلك ، إلزام الحجة وإقامة البيّنة عليهم ظاهراً { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [ طه : 134 ] وهو بالحقيقة ، النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء . وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم ، كما أن الأكْمَه ربما لا يُصدِّق أولي الأبصار ، ولا يعرف أن التقصير منه ، وأن سائر الشرائط ، من محاذاة المرئي ، وظهور المبصر موجود ، وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار ، فكذلك يعرف قصورَ الناقصين عن البلوغ إلى قبول أحكام الدين ، وإدراك معالم الحق واليقين ، ذوو البصائر السليمة عن غشاوة الإمتراء ، وآفة القصور والعمى . تَتِمَّةٌ اختلف أهل التفسير في هؤلاء الذين قالوا ذلك ، فَعَن الحسن : أن هؤلاء هم اليهود حين أُمروا باطعام الفقراء . وعن مقاتل : إنهم مشركو قريش ، قال لهم فقراء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أَطْعمونا من أموالكم ما زعمتم أنه لله " يعنون به قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] فحرموهم ، وقالوا : ( لو شاء الله لأطعمكم ) . وقيل ، هم الزنادقة كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يسمعون المؤمنين يعلّقون أفعال الله بمشيّته وإرادته فيقولون : " لو شاء الله لأغنى فلاناً " ، و " لو شاء الله لأَعزَّ فلاناً " ، و " لو شاء لكان كذا " ، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله ، معناه : أنطعم المقول فيه هذا القول منكم ؟ وذلك لأنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله ، لأنهم كانوا معطلة غير قائلين بالصانع . وعن ابن عباس : كان بمكة زنادقة ، فإذا أُمِروا بالصَّدقة على المساكين قالوا : " لا والله ، أيفقره الله ونطعمه نحن " ؟ . وقيل : كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادراً على اطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك . وقيل : كانوا يقولون : " إن كان هو الرزاق فلا فائدة في التماس الرزق مِنّا وقد رَزَقَنا وَحَرَمَكُم فَلِم تأمرون بإعطاء من حَرَمَهُ الله " ؟ . وقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، يحتمل أن يكون قول الله للكفار ، ويحتمل أن يكون حكاية قول المؤمنين لهم ، ويحتمل أن يكون من تتمة جوابهم للمؤمنين .