Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 46-46)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي ليست تأتيهم آية - أيّة آية كانت من الآيات - إلاّ ذهبوا عنها وأعرضوا عن النظر فيها ، بمعنى أنه كلما ورد عليهم أو أُلْقِيَ إليهم ما يدل على أحوال المبدء والمعاد ، من برهان علمي ، أو موعظة خطابية ، أعرضوا عنها وأنكروها ، فـ " مِن " الأولى ، للإستغراق ، لكونها وقعت في سياق النفي . و " مِن " الثانية للتبعيض ، وذلك سبيلُ مَنْ ضَلَّ عن الهدى ، إما بكثرة حمقه واشتغاله بمشاغل هذا الأدنى ، وإما باغتراره بفطانته البَتْراء ، وجحوده بما سوى ما أدركه ببصيرته العَمْشاء ، أو تَلَقُّفِه من غيره تقليداً وتعصُّباً . افتتاح كشفي إعلم أن سبب إعْراضِ الخَلْق عن استماع آيات الله وعن التفكر في أحوال الآخرة ، أمور ثلاثة : أحدها : شوائب الطبيعة ومزيِّناتُها . وثانيها : وساوس العادة وملهِياتُها . وثالثها : نواميس الأمثلة وَتَخَيُّلاتها . أما الأولى : فَكَدَوَاعي الطبيعة وشهواتها ، كشهوة البطن والفرج ، ومحبة الأهل والمال والوَلَد ، وذلك قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ آل عمران : 14 ] . وأما الثانية : كَدَوَاعي النفس الحيوانية ، وهي أَلذُّ من اللذات الشهوية وأجلُّ رتبة من أغراضها ومقاصدها ، وهي لذة الجاه والعلو في عالم الأرض والرياسة على سائر الأقران ، فَرُبَّ إنسان سَهُل عليه ترك لذة الأكل والمباشرة ، وجمع المال والْيَسَار ، إلاّ أنه لا يمكنه ترك العُلوّ والافتخار ، وهو آخر درجات الدنيا ، الذي لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلاّ بالتجاوز عنه ، كما قال سبحانه : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] . وأما الثانية : فكتسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة وترويجها الكواسد وتحسينها القبائج وإبرازها الباطل في صورة الحق بسبب تخيلات فاسدة وتوهمات باطلة توجب إعجاب المرء بنفسه ، منشأها خباثة الباطن ودناءة الهمة وشيطنة الوهم ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] . وخصوصاً ما يكون منشؤها هذه العلوم الرسمية ، والفنون المشهورة ، وهي أغلظها حِجاباً ، وأعسَرُها دفْعاً ، وأكثرها فساداً ، وأقواها إعجاباً للمرء بنفسه ، واغتراراً بحاله ، فهي ما يقع لأكثر المتشبّهين بالعلماء الحقيقيين ، من اغترارهم بظنونهم الفاسدة وأفكارهم الكاسدة ، وما سمعوا من ظواهر أحكام الشريعة ، وتلقّفوها من غير بصيرة ولا دراية ، وضمّوا إليها دعاوي باطلة ، ومقاصد شيطانية ، ولمقلِّديهم المشغوفين بما عندهم ، من سماع الحكايات والأمثال الواردة ، وإجابتهم دعوةَ المضلّين البطّالين ، الفارغي الهِمَم عن مقاصد الدين ، ومتابعتهم استهواء الشياطين من الجن والإنس ، والإغترار بخدعهم وتلبيساتهم المُضِلَّة المهلكة ، وهم الذين حكى الله عنهم وعن تحسّرهم وندامتهم في العاقبة بقوله : { رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [ فصّلت : 29 ] . فهذه الأمور الثلاثة ، هي مجامع أسباب الغواية وأبواب مهالك الخلق ، الباعثة لهم على الإعراض عن تدبّر الآيات ، لقوله : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] وهي المشار إليها في الحديث النبوي ( صلى الله عليه وآله ) : " ثلاثٌ مُهْلِكات : شُحٌ مُطاع ، وهوىً متَّبَع ، وإعجابُ المَرْء بنفسه " . إلاّ أن أعظم هذه الآفات الحاجبة عن مكاشفة أسرار الدين ، ومشاهدة أنوار الحق واليقين ، الموجبة لإعراض الناس عن سماع الآيات والحِكم ، واستئناسهم بالدنيا ، ونسيانهم أمرَ المعاد ، هو حسبانهم أهلَ الظاهر وعلماء الدنيا - الراغبين في طلب اللّذات الباطلة العاجلة - هداةَ الخلق ورؤساء المذهب ، وأهل الاجتهاد في طلب الآخرة والمعاد ، وهو أعظم فتنة في الدين ، وأشد حجاب في سبيل المؤمنين ، لأن هؤلاء قُطّاع طريق الحقيقة واليقين ، وهل هذا إلاّ مثل أن يُظَنَّ بالجاهل المريض طبيباً حاذقاً ، ويُجْعَلَ السارقُ المفلس أميناً { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] فلم تزدك متابعتهم والإقتداء بهم إلاّ الغواية والضلال ، والتردّي في مزابل الجهّال { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] . إنذار قُرآني ثم ان نتيجة الإعراض عن سَماع الآيات ونسيانها ، وإنكار المعارف الموضحات ، هي الظلمة في القلب ، والضيق في الصدر ، والوحشة في الطبع ، والمعيشة الضَّنْك في الآخرة ، والعمى والحِرمان في الحشر ، وذلك لأن قوام النشأة الآخرة للإنسان ، وبقاء حقيقته وروحه بالأغذية العلميَّة العرفانية ، والأدوية الإيمانية اليقينية ، فَمَنْ لا معرفة له لا حياة له في الآخرة ، إذ الآخرة دار الحياة العلمية ، لقوله تعالى : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . فَبِقَدَر نور المعرفة واليقين ، وتذكّر أحوال المبدء والمعاد ، تزداد قوة حياة الإنسان في الآخرة لقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] ومن لا نور له لا عيش له في الآخرة لقوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ] وَمَنْ لم يتذكّر آياتِ الله أصلاً ، ولم يتدبّر في أسرار الآخرة ، يكون يوم الآخرة أعمى لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] ولقوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 124 - 126 ] . وأي شقاوة أشد على الإنسان من أن يكون منسياً ، والنسيان من قِبَلهِ يوجب العَدَم والهلاك ، لأن صدورَ كلِّ شيء منه إنما يكون بعلمه ، بل الصدور منه عين المعلومية والمذكورية عنده ، كما أوضحه الحكماء في أنظارهم العلمية فافهم .