Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 52-52)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرئ " يا ويلتنا " ، وفي مصحف ابن مسعود " من أهبّنا " من " هبّ من نومه " إذا انتبه وأهبّه غيره ، وقرئ أيضاً " من هبّنا " بمعنى " أهبنا " وقرئ " من بعثنا " و " من هبنا " على " من الجارة " وصيغة المجرور بها ، لا على " من الاستفهامية " وصيغة الماضي الموصولة بها . و " هذا " مبتدأ وخبره ما بعده ، سواء كان الخبر مفرداً - إن كانت " ما " مصدرية - أو جملة من صلة وموصول - إن كانت موصولة - ويكون المجموع جملة مستأنفة ، ويكون " من بعثنا من مرقدنا " كلاماً تاماً يوقف عليه . ويحتمل أن يكون " هذا " صفة للمرقد ، أي : " مرقدنا الذي كنّا رقوداً فيه " فيكون الوقف على " مرقدنا هذا " ويكون " ما وعد " مبتدأ خبره محذوف تقديره أي : " ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق عليكم " أو يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : " هذا وعد الرحمٰن ، أي : فلما رأوا أهوال القيامة وشدائدها لكونهم صاروا بسبب خروجهم عن قبورهم وقيامهم عن منامهم مكشوفي الغطاء حديدي البصر ، قالوا : " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وحشرنا من منامنا الذي كنّا فيه نياماً ؟ " ثم قيل لهم : " هذا بعينه ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " أي : هذا وعدُ الرحمٰن وصدقُ المرسلين - على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق - إن جعلت " ما " مصدرية - وأما إن جعلت موصولة ، فيكون معنى : " الذي صدق المرسلون " بمعنى : والذي صدق فيه المرسلون من قولهم : " صدقوهم في الحديث والقتال " ومنه : " صدقني سن بكره " . وإنما يطابق هذا الجواب لسؤالهم عن الباعث لهم عن مرقدهم ، لكونه بمعنى : بعثكم الرحمٰن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به رسله ، إلاّ أنه جيء به على نهج التخويف والتهويل لقلوبهم ، والنعي إليهم في أحوالهم ، وذكر منشأ فزعهم وأهوالهم من سبق كفرهم بالله ، وتكذيبهم للرسل ، والإخبار لهم بوقوع ما أنذروا به على لسان الأنبياء . ولا يبعد أن يكون المراد من طي الجواب ، أن الحال أشد عليهم من أن يسع لهم السؤال ويستأهلون للجواب عن سبب البعث والنشور ، كأنه قيل لهم : ليس بالبعث الذي عرفتموه - من بعث النائم في الدنيا من مرقده - حتى يسمع لكم السؤال عمن يبعثه ، إن هذا هو البعث الأكبر ، والقيامة الكبرى ذات الشدائد والأهوال والأحزان والأفزاع ، وهو الذي وعده الله في مواضع كثيرة من كتبه المنزلة على ألْسِنَةِ رسله الصادقين ، ومعانيها الواردة على قلوب أوليائه الصالحين . واختلف أهل التفسير في أن القائل لهذا الكلام من هو ؟ فعن مجاهد : أنه كلام الملائكة ، حيث يقع للكفار هجعة بعد النفخة الأولى ، يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور الصيحة الثانية ، قالوا : { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } فقالت لهم الملائكة : { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } . وعن ابن عباس وعن الحسن : كلام المتقين . وعن قتادة نحو ذلك حيث قال : أول الآية للكافرين وآخرها للمسلمين . قال الكافرون : { يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ؟ وقال المسلمون : { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } . وقيل : تمامه كلام الكافرين ، يتذكّرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً . وقيل : أنهم لما عاينوا أهوال القيامة عدوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقاداً . وقال قتادة : هي النومة بين النفختين ، لا يفتر عذاب القبر إلاّ فيما بينهما فيرقدون . حكمة فرقانية قد تحقق عند النفوس المستنيرة بأنوار العلوم الأخروية والمعارف السلوكية ، أن الإنسان أبداً في التحول والانتقال عن مراقد الدنيا إلى فضاء الآخرة ، وهو دائماً في القيام والإنبعاث من هذه القبور والأجداث إلى ساهرة القيامة ، وهو لا يزال في طلب الخروج والارتحال بحسب الجبلة من مكامن أرحام هذه النشأة الأولى إلى سعة عرصات النشأة الأخرى ، بل له كل ساعة ولحظة خلع ولبس جديد إلى أن يلقى الله تعالى - إما فرحاناً مسروراً - وإما معذباً مقهوراً - لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ } [ الانشقاق : 6 - 12 ] - الآيات . وأكثر الناس في غفلة عريضة وذهول طويل عنه لقوله تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } [ ق : 22 ] وقوله : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] ، وقوله : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النمل : 88 ] . ومن هذا الجهل المحيط بهم ، نشأ تعلقهم بهذه الحياة الفانية واخلادهم إلى هذه الأجسام البالية ، وركونهم إلى البدن ، ونسيانهم أمر العاقبة ، وجعلهم الدنيا نصب أعينهم والآخرة خلف آذانهم ، وانكبابهم إلى الشهوات ، وإعراضهم عن سماع الآيات ، فكل هذه الأمور ناشئة من ذهولهم وغفلتهم عن زوال الدنيا وثبات الآخرة ، وجهلهم بأن الدنيا ليست إلاّ لحظات أوهام وخطرات أفهام ، ولمحات أبصار وفلتات خواطر ، ولهذا تعجبوا عن ظهور الساعة وتحقق البعث وكشف الغطاء قائلين : { يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ؟ فقيل لهم { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } . فهؤلاء - وهم أكثر الناس - منكرون بالحقيقة للقيامة والبعث ، شاكّون في قيام الساعة وتحقق المعاد ، { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] . وأما المُقِر بالآخرة ، المؤمن بالمعاد ، الموقن بيوم الحساب ، فهو الذي تنبّهت نفسه من نوم الغفلة ورقدة الضلالة ، وانبعثت من موت الجهالة ، وحيّيت بروح المعارف ، وانفتحت لها عين البصيرة ، فيشاهد يوم القيامة ويرى كأنها قد قامت ، فإذا سئل وقيل له : " كيف أصبحت ؟ " قال : " أصبحت مؤمناً حقاً " ، فإذا قيل له : " وما حقيقة إيمانك ؟ " قال : " أرى كأن القيامة قد قامت ، وكأني بعرش ربي بارزاً ، وكأن الخلائق في الحساب ، وكأني بأهل الجنة فيها منعّمين ، وأهل النار فيها معذَّبين " ، فقيل : " قد أصبت ، فألزم بعين الطريق " - كما ورد في الحديث المتفق على صحته - . وهذا بعينه حال من مات عن حياة هذه النشأة ، وحيي بحياة الآخرة ، فقد قامت عليه الساعة ، وإن كان بعدُ في الدنيا بحسب الصورة الظاهرة ، لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " من مات فقد قامت قيامته " . وأما القيامة الكليّة ، فهي إنما تتحقق عند موت الجميع وفناء الكل ، والعارف لا يحتاج في مشاهدة أحوال الآخرة إلى فناء الكل وقيام الساعة على الجميع ، لأنه من أهل الأعراف المشاهدين لأحكام الآخرة وأحوال الدنيا ، العارفين بمن في الجنة والنار ، لقوله تعالى : { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 46 - 47 ] . وهم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، لأنهم قوم انبعثوا من موت الجهالة وانتبهوا عن رقدة الغفلة ، وانفتحت بصيرتهم واستبصروا بعين اليقين ونور الهداية ، وشاهدوا جميع الخلائق وحشرهم وحسابهم ، لأنهم حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسَبوا يوم حساب الخلائق ، وهم قوم استوت عندهم الأماكن والأزمان ، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال ، فقد صارت الأيام كلها يوماً واحداً لهم ، وعيداً واحداً ، وجمعة واحدة في حقهم ، لتحققهم بقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " بعثت أنا والساعة كهاتين " . فيوم واحد عندهم كألف سنة مما تعدّون ، وخمسين ألف سنة لغيرهم ، وصارت الأماكن كلها مسجداً واحداً لتحققهم بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " وجُعِلَت لي الأرض مسجداً " والجهات كلها قبلةً واحدة لتحققهم بقوله تعالى : { أَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] وصارت حركاتهم كلها عبادة وسكناتهم طاعة ، واستوى عندهم مدح المادحين وذم الذاميّن ، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال في الأزمنة والدهور لتصديقهم قوله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [ الحديد : 22 - 23 ] وكانت الدنيا وما فيها حقيرة عندهم ، كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " والله ما دنياكم إلاّ كعفطة عَنز " " والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عِرَاقِ خنزير في يد مَجْزوم " .