Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 53-53)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } : ثم أخبر سبحانه عن سرعة بعث الخلائق إلى المحشر ، وسعيهم إلى ربهم يوم العرض الأكبر ، بأن تلك المدة لم تكن إلاّ صيحة واحدة بالقياس إلى قدرة الله تعالى ، وعالم قدرته وجبروته وسكان ملكوته من أهل قربته وولايته ، وان كانت صيحات عظيمة كثيرة حسب كثرة الخلائق ، متمادية الأزمنة والدهور بالقياس إلى من يقع عليهم من أهل القبور وسكنة عالم الهلاك والدثور ، كما أن الصاخّة الصغرى زجرة واحدة لموت شخص واحد وقيامته ، وهي زجرات متعددة متمادية بالقياس إلى كثرة أعضائه وقواه ، فإن جميع أحوال القيامة الصغرى وأهوالها عند موت الإنسان واحد ، وبعث روحه ونشر صحيفته وزلزلة أرض بدنه ، واندكاك جبال عظامه ، وانفجار عرق جبينه ، وتكور شمس قلبه ، وانكدار نجوم حواسّه ، وتعطّل عشار قواه كلها دلائل وشواهد على أحوال القيامة الكبرى التي لجميع الخلائق ، لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " من مات فقد قامت قيامته " ، وذلك لكون الإنسان عالماً صغيراً فيه أنموذج من جميع ما في العالم الكبير . ولست أطول في موازنة جميع الأحوال ، ولكني أقول كما قال بعض محققي الإسلاميين وحكمائهم وموحّديهم : إن بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة ، ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصّك ، بل ما يخصّ غيرك ، فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتشرت حواسك التي بها تنتفع بالكواكب ، والأعمى يستوي عنده الليل والنهار ، وانكشاف الشمس وانجلائها ، لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة ، وهو حصته منها ، فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره ، وكذلك من انشق رأسه فقد انشق سماؤه ، إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس ، فمن لا رأس له لا سماء له ، فمن أين ينفعه بقاء السماء في حق غيره ؟ . فهذه هي الصاخة الصغرى ، والخوخ بعد أخضر والهول بعد مدخّر ، وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى ، وارتفع الخصوص ، وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال وتمت الأهوال . فهذه هي الصغرى ، وإن طول في وصفها فانا لم نذكر عشر عشير أوصافها ، فهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى ، فإن للإنسان ولادتين : احداهما : الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم ، وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار ، من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها ، إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم ، فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم ، ونسبة سعة العالم الذي تقدم عليه بالموت ، إلى سعة فضاء الدنيا ، كنسبة سعة فضاء الدنيا أيضاً إلى الرحم ، بل أوسع وأعظم بكثير . فقس الآخرة بالأولى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] وما النشأة الثانية إلاّ على قياس النشأة الأولى { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] . بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنين { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 61 ] . فالمُقرّ بالقيامتين مؤمن بعالم الغَيب والشهادة ، موقن بالملك والملكوت ، والمقرّ بالقيامة الصغرى دون الكبرى ، ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين ، وذلك هو الجهل والضلال والاقتداء بالأعور الدجال . قوله سبحانه : { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ 53 ] : يعني إذا نُفخ في الصور نفخة واحدة ، اجتمعت الخلائق كلهم حاضرين عند الله كما كانوا دائماً ، وعند أنفسهم جميعاً في ساعة واحدة ، لارتفاع الحُجُب الواقعة بينهم بالموت ، فيشاهد بعضهم بعضاً ، وكلهم كلاً ، فكل من وجد في وقت من الأوقات وفي حيّز من الأحياز من أول الدنيا إلى آخرها فهو محشور مجموع مع غيره في زمان واحد متصل ، هو مجموع الأزمنة ، ومكان واحد متصل هو مجموع الأمكنة ، ومجموع الأزمنة كساعة واحدة في القيامة ومجموع الأمكنة كمجلس واحد في الحشر . وتحقيق ذلك ؛ أن الموجودات الدنيوية لها أكوان ناقصة ، لأنها من حيث كونها الدنيوي أمور مادية وموجودات تعلقية ، لأن جواهرها المفتقرة إلى مواضعها كالأعراض المفتقرة إلى موضوعاتها ، فهي لنقص تكونها وضعف وجودها وتغيرها وانقلابها من صورة إلى صورة ، وانتقالها من حال إلى حال ، تحتاج كالأطفال والصبيان إلى قابلة كالزمان ومهد كالمكان ، وقد سبق منّا أن المتحرك من حيث كونه متحركاً كالحركة في كونه غير قار الذات ، وكذا الزماني كالزمان ، والمكاني كالمكان ، وكل واحد من الزمان والمكان من الأمور الضعيفة الوجود ، لأن وجود كل جزء من كل منهما يقتضي عدم الجزء الآخر ، وحضور كل جزء يقتضي غيبة الجزء الآخر . وأما وجود الآخرة فهو الكون التام ، وموجوداتها أكوان دائمة ثابتة مستقلة ، فيزول التغير عن المتغير ، والزوال عن الزائل ، والغيبة عن الغائب ، فيتصف المتغير هناك بالثابت ، والغائب بالحاضر ، لأن الآخرة دار الحقائق ، ولكل شيء حقيقة ثابتة ، فلزمان الآخرة خاصية البقاء والثبات ، ولمكانها خاصية الحضور والجمعية { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } [ التغابن : 9 ] . لكن إذا أريد أن يخبر عنهما للمحبوسين في حبس الزمان ، والمسجونين في سجن المكان ، يعبر عنهما بأمثلة زمانية أو مكانية . فعبر عن حقيقة الزمان بأقل زمان . لأن الموجود من الزمان عند الجمهور ليس إلا ما يسمونه " آناً " فقيل : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] . وإذا أشير إلى مكان الآخرة وحقيقة المكان ، عبّر عنهما بأوسع مكان ، لأن المكان شأنه السعة والإحاطة ، ويتحدد بأوسع الأجسام ، فقيل : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [ آل عمران : 133 ] . وكذلك يعبر عن زمان القيامة . بـ " الساعة " ، وعن مكانها بـ " الساهرة " ، فيكون الخلائق مجموعين حاضرين في محشر واحد في ساعة واحدة ، فكما أن يوم القيامة يجمع فيه الناس كلهم من الأزل إلى الأبد ، فكذلك جميع أمكنتهم وأزمنتهم . فوجه الأرض بمساحته المعيّنة التي عند المهندسين ها هنا يصير يوم القيامة انبساطه وتماديه بحسب تمادي الأزمنة المارّة عليه ، فإن وجه الأرض في كل لحظة وساعة غيره في لحظة وساعة أخرى ، ووجه الأرض باعتبار محليّته لوقوع خلائق عليها غيره باعتبار محليته لوقوع خلائق أخرى ، فإذا اجتمعت يوم القيامة الخلائق الواقعة في القرون والدهور الماضية والمستقبلة ، اجتمعت بحسبها وجوه الأرض التي كانت الخلائق جميعاً فيها من ابتداء الدنيا إلى انتهائها في كل قرن ودهر ، فيكون وجه الأرض يومئذ بمقدار يسع فيه أهل المحشر كلهم . ومن ها هنا يزول الاستبعاد ويندفع استنكار أهل الجحود والعناد ، وينحل شبهة المنكرين للمعاد في حضر الخلائق كلهم ، السابقين واللاحقين في صعيد واحد ، لعدم تصورهم أرض القيامة التي هي بوجه غير أرض الدنيا : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] …