Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 68-68)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرئ " ننكسه " من " التنكيس " و " ننكسه " من " الانكاس " وقرئ " أفلا تعقلون " بالتاء والياء . وفي الآية إشارة إلى أن الانسان كلما أمعن في السنّ ، نكس قواه البهيميّة والسَّبُعِية ، وأخذت البنية في الذبول والخلقة في النقصان ، وشرعت الصفات والهيئات الباطنية في التأكد والرسوخ ، وابتدأت أحوال الضمائر والبواطن في الانكشاف والظهور ، وقد جاءت أشراط الساعة للقيامة الصغرى ، وبرزت علامات السعادة والشقاوة لذوي البصائر العقلية ، أفلا تعقلون أيها العاقلون . أو ما تستحيون من استبطائكم هجوم الموت اقتداءاً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يَخِصِمّون ، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ، فتأتيهم الأمراض نذيراً من الموت فلا ينزجرون ، ويأتيهم الشيب رسولا منه فلا يعتبرون ، فيا حسرةَ على العباد ما يأتيهم من رسول إلاَ كانوا به يستهزئون ! . أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون ؟ أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون ؟ أم يحسبون أن الموتى الذين سافروا من عندهم فهم معدومون ؟ كلا ، إنْ كلٌ لمّا جميع لدنيا محضرون ، ولكن ما يأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا عنها معرضين ، وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . اشارة أخرى لما ذكر في الآية السابقة نفي استطاعة الرجوع للأشقياء إلى الفطرة الأصلية التي كانت لهم بالطمس والمسخ ، وإن كان أكثر الذين ( الناس ) ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم كانوا لغاية الحمق والجهالة والغرور يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً ، ويتمنون آخر الآمر ومنتهى العمر حين انكسار قواهم وقصور دواعيهم الجسمانية ، وظهور أسباب المذلّة والهوان ، وأشراط ساعة الموت والحرمان ، الرجوع إلى أول العمر ، وحين أوان القابلية والإستعداد قبل إفناء الآلات ، وصرفها في غير ما خلق الله لأجله وكلّف به العباد ، وتحسّر وتأسف على تضييعها لغير طائل وصرفها من غير حاصل ، قائلاً : @ نهاية اقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال @@ وكثيراً ما بعض الكفّار يتمنّون الرجوع إلى حالة الصبوية - بل الترابية - عند ظهور أهوال القيامة وشدائد الساعة عليهم ، كما في قوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] فأشار إلى دفع هذا التمنّي ، ونفي هذا الوسواس ، وكشف فساد هذا التشهّي الفاسد ، واستقباح هذا التصوف البارد بعد الأربعين . يعني : متى لم يتيسّر لهم قبل انطماس عيونهم القلبية ، وانمساخ صورتهم الباطنية ، إدراك علم التوحيد ، وملاحظة عالم المعاد ، والسعي في طريق العبودية لإدراك شواهد الربوبية ، فبعد زوال الاستعداد ، وفساد أكثر القوى والآلات ، وانتكاس الخلقة من أعلى درجة الاعتدال والاستواء إلى أدنى رتبة الإعوجاج والانحناء ، وانقلاب نور الحواس من غاية الاشتعال والذكاء إلى غاية الخمود والإنطفاء ، أنّى يتصور لهم الشروع في طلب الاهتداء وسلوك سبيل الله بهذه القوى ، فمن مضت عليه أدوار السنين ، وعمّره الله إلى أربعين أو خمسين من غاية أشده المعنوي ، أخذت خلقته في الذبول والانحلال ، وقواها في الانتكاس والإضمحلال . وذكل لأن لكل أجل كتاباً ، ولكل مدة وفصل من فصول العمر خاصية في ظهور الآثار ، فسن الطفولية لحصول أصل الخلفة وحدوث القوى ، وسنّ الشباب لاستعمال القوى والأعضاء وصرفها في سبيل الله وطلب الكمال ، وسن الكهولة لظهور آثار التحصيل والتثبّت بالقول الثابت والتحقق بحقائق الإيمان ، وسن الشيخوخة لإفاضة نور المعارف على المستعدين والقيام على مسند الإفادة والإرشاد ، فالأول " قوة " ، والثاني " استعداد " ، والثالث " كمال " و " تمام " ، والرابع " فوق التمام " . وهذه المراتب كما يتصور في السعادة ، وهو صيروة الإنسان من جملة الملائكة ، كذا يتصور في الشقاوة ، وهو صيرورة الإنسان إما من جملة الشياطين - إن كان الغالب على نفسه الجربزة والمرك وطلب العلوّ والاستكبار - ، أو من جملة أنواع البهائم والسباع - إن كان الغالب على نفسه طلب الشهوة والغضب والصفات المشعّبة عن هاتين الصفتين - فيحشر على صورة حيوان غلبت على جوهر ذاته صفات ذلك الحيوان كما مرّ مراراً . وعلى أي تقدير ، إذا استحكم الباطن ، وقويت النفس ، وخرجت من حد القوة إلى حد الفعلية في أي صفة وجودية وصورة باطينة ، توجهت النفس توجهاً فطرياً إلى عالم الآخرة ، وأعرضت عن استعمال القوى ، فأخذت الخلقة في الانتكاس ، والأعضاء في الإندراس شيئاً فشيئاً إلى أن يحلّ الأجل . اشارة أخرى لما كانت النفس في أول الخلقة ممنوّة بتدبير البدن ، وتحصيل مقدار المادة ، لأن المادة الحاصلة بالتوليد من فضل خلقة الوالد ، لم يكن أولاً على مقدار لائق بحال الشخص المولود ، فلا محالة وجب على النفس مما أودعه الله فيها وغرز في جِبِلّتها ، أن يشتغل أولاً بإكمال المادة قبل الاشتغال بكمالها ، لتوقف كمالها على استعمالها إياها ، فاستكمل أولاً صورتها الحسية ، واشتعل أنوار حواسها الظاهرة ، وبلغ أشدها الصوري ، وهو وقت نكاحها الجسماني . ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولية إلى هذا الحد لا تفرغ عن تحصيل المادة وإيراد ما يزداد في الإقطار زائداً على البدل المتحلل من البدن ، لضعف الأعضاء ونقصان القوى ، وشدة الحاجة إلى النمو والمتطلب ، فانغمست عند ذلك في البدن ، مستعملة للطبيعة في ذلك ، فلم تنفتح بصيرتها ، ولم يشتعل نور فطرتها ، ولم يتبيّن رشدها إلاّ وقت بلوغ أشدها المعنوي - وهو سن الأربعين - كما أشير إليه بقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } [ الأحقاف : 15 ] . وذلك أوان نكاحها العقلي مع أبكار أفكار المعارف الأخروية ، التي لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جانّ ، وزمان استحقاقها لدفع أموالها العلمية الموروثة من الآباء العقلية والأمهات النفسية ، المشار إليها بقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] . فلما قربت الآلات من حد كمالها ، ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها ، وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها ، فتفرغت إلى تحصيل كمالها ، فانفتحت بصيرة عقلها ، فظهرت أنوار فطرتها واستعدادها ، وتنبّهت عن نومها في مهد بدنها ، وتيقّظت عن سِنَة غفلتها ، وتفطنت بقدس جوهرها ، فطلبت مركزها وغايتها لأمرين ، صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال ، وفراغها عن تكميل البدن بالإقبال لقلة الإشتغال . لكنها ما دام سن النمو باقية ، وزيادة الآلات في الكمية والقوة والشدة ممكنة ، ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية ، وما تجردت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب الأخروية للاشتغال المذكور - وإن قلّ - ، وذلك إلى منتهى الثلاثين من العمر ، وهو أول سن وقوف القوى - كما تبين في علم الطب - . فلما جاوزتها وأخذت في سن الوقوف ، أقبلت - إن كانت في السعداء - إلى عالمها ، وأشرقت أنوار فطرتها ، فاشتدت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليه ، ورسخت فيها الهيئات العلمية والكمالات التجردية الشهودية . وإن كانت من الأشقياء اشتدت فيها نيران الشهوات ، ورسخت فيها اليهئات الجهلية والسبعية والبهيمية ، وتوجهت ذاتها بحسب ما كسبت يديها إلى مهوى السفليات ، وكلما ضعفت آلاتها تضاعفت شهوتها وحرصها في طلب اللذات ، وكلما نقصت جسميتها وانكسرت قواها قويت نفسانيتها واشتعلت نار قلبها واحترقت فتيلة طبعها ، وكلما قصر عمرها طال ألمها ، وكلما شاب بدنها شبت هوى نفسها كما ورد في الحديث : " يشيب ابن آدم ، ويشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل " . فقوله : { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } إشعار على أن من لم يتوجه إلى طلب الآخرة ، ولم يسلك صراط الله العزيز الحميد ، بصرف الآلات حين أشدها الصوري في طلب الحقائق والكمالات ، بل سلك سبيل الطاغوت في الانهماك إلى اللذات وصرفها في طلب الهوى والشهوات ، فإذا تجاوز عمره حدّ الأربعين وأخذ خلقتا بدنه وأعضائه في الانتكاس والذبول ، وشرعت قواه في النقصان ، حان وقت ظهور النتائج عن مكامن غيب القلب ، وآن زمان استضاءَة مشكاة القلب بنور معرفة الله من مصباح الروح ، إذ توقد فتيلة النفس من شرارة نار الهوى الكامنة في الطبيعة النطفية قبل ذلك بالرطوبات الغريزية ، واحتطب المواد الشهوية ، وإنما خرجت من القوى إلى الفعل بكثرة النفاخات الشهوية والغضبية ، فإن لم يترسخ في القلب حب المعرفة وطلب الآخرة ورفض البدن وترك اللذة والزهد في الدنيا ، فلا يتصور بعد هذا استئناف طريق الآخرة ، وابتداء نشوء المعرفة عند بطلان الحواس وفقد الآلات ، وقد قيل : " من فقد حساً فقد علماً " ، والعود إلى الفطرة الأصلية بعد عدمها ، وقد قيل : " المعدوم لا يعاد " . وقوله : " أفلا تعقلون " : يحتمل أن يكون معناه : أفلا تتدبرون في أن من قدر على كسر القوى الجسمانية للإنسان ، وإضعاف بنيته وأعضائه بالذبول والتحليل مع بقاء نفسه وذاته ، وتأكد صفاتها وأخلاقها ، وزيادة هيئاتها النفسانية ودواعيها الباطنية ، فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية وبعثها ، فإن تلك الأمور من علامات وقوع الساعة ومقدماتها وأشراطها ، - كما يعرفه أهل الكشف واليقين - ، إن في هذا لبلاغاً لقوم عالمين .