Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 69-69)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهي أن جماعة من المشركين الجاهلين بأساليب كل طبقة من الكلام ، وبأحوال كل طائفة من اللئام والكرام ، العاطلين عن التمييز بين ملفقّات الهوى والشيطان ، وبين ما أفاضه الله على أرواح أحبائه وأيدهم بنور منه ، وكتب على ألواح قلوبهم تعلّم الحق من العلم والإيمان ، وعلمّهم ما لم يكونوا يعلمون ، لقوله : { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 - 5 ] كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إنه شاعر " - وقيل : إن القائل " عقبة بن أبي معيط " - فقال سبحانه رداً عليهم ، وتسفيهاً لعقولهم : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } أي : ليس ما فاض على قلبه بإذن الله من قبيل القياسات الشعرية ، ولا ما أجرى على لسانه أشعاراً موزونة ، وأين المعاني التي يتخيلها الشعراء ويتقوَّلُها الأدباء عن حقائق الإيمان ؟ وأين عبارات أهل النظم وأساليبهم عن بدائع ألفاظ القرآن ؟ - وما ينبغي له - أي : لا يليق به الشعر ، لأن مأخذ معارفه ومنبع مكاشفاته مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلاّ هو ، ومخزن معلوماته خزائن معرفة الله التي لا تنزل إلاّ بقدر معلوم بواسطة بعث ملائكة الله المقدسين عن تصرفان الوهم ، والهوى ، ومأخذ المعاني الشعرية هو مخزونات الوهم والخيال مما تستنبطها النفس منها بوسيلة تلفيقات المتخيلة ودعابات الوهم ، فأين أحدهما من الآخر ؟ وفي قوله : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } اشعار بأن شأنه أجلّ ومرتبته أعلى من أن يتصور منه ذلك ، لا أنه لا يتسهل له ذلك . وقيل معناه : ما يتسهل له الشعر وما كان يتزين له بيت شعر ، حتى أنه إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً ، كما روي عن الحسن " أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يتمثل بهذا البيت : " كفى الإسلام والشيب للمرء ناهياً " فقال أبو بكر : " يا رسول الله إنما قال الشاعر : * " كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً " * أشهد أنك رسول الله ، وما علّمك الشعر وما ينبغي لك " . " وعن عائشة أنها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتمثّل ببيت أخي بني قيس : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً * ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل يقول : " ويأتيك من لم تزود بالأخبار " فيقول أبو بكر : " ليس هكذا يا رسول الله " فيقول : " إني لست بشاعر وما ينبغي لي " . وقال صاحب الكشّاف : " ما ينبغي له وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه ، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل ، كما جعلناه أميّاً لا يهتدي للخط ولا يحسنه ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض " . وعن الخليل : كان الشعر أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى له ، وأما قوله : ( صلى الله عليه وآله ) : @ أنا النبي لا كذِب أنا بن عبد المطلب @@ وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : @ هل أنت إلاّ إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت @@ فقد قال قوم : إن هذا ليس بشعر ، وقال آخرون : إنما هو اتفاق منه وليس بقصد إلى قول الشعر ، وما هو إلاّ كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلّف ، إلاّ أنه اتفق - من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه - أن جاء موزوناً ، كما يتفق في كثير من الإنشاءات والخطب والرسائل للفصحاء بل كثيراً ما يتفق في محاورات الناس عبارات موزونة وألفاظ منظومة من غير قصد ولا خطور بالبال - لا مِنَ المتكلم ولا مِنَ السامع - إنها شعر . وذكر صاحب الكشّاف أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعراً . كشف حال وتزييف مقال هذه كلها تكلفات مستغنى عنها ، وتمحلات لا تعويل عليها ، مبناه على الغفلة عن هذا المرام ، وعدم تحصيل الغرض المسوق إليه الكلام ، وعدم التفطن بالجهة التي بها يشين صنعة الشعر ويذم الشاعر ، وذلك لأن المذموم من الشعر ليس الوزن والتقفية ، ولا معانيه الحقة التي فيها تأثير في النفس بالإنذار والموعظة ، بل لعمري لحري أن تعد سليقة الوزن من عداد الفضيلة لا الرذيلة ، وظلا من ظلال الوحدة الجمعية كالعدالة ، ولائق بالمعاني الحقة أن تعد من الحكمة لا الوسوسة . بل المذموم من الشعر التخييلات الكاذبة الباعثة على الرغبة والرهبة والمبالغات المهيجة للنفوس على الإقدام والإحجام من غير محافظة على الصدق والحقيقة ، وأما المكالمات المشتملة على المقاصد الصحيحة الثابتة في ألفاظ منظومة من غير مبالغة تزيد على ما هي عليها ، ولا تمزيج لها بالتخيلات الباطلة فليست بضائرة . وكان الشعر عند الحكماء الأوائل مجرد كلام تخييلي مفيد للتخيل المحض من غير اشتراط وزن ولا قافية ، وبهذا المعنى كان " هوميروس " معدوداً من الشعراء ، وكذا في اصطلاح المنطقيين إحدى الصناعات الخمسة بلا شرط الوزن والتقفية . نعم شأن النبي أجلّ من أن يلتفت ويتوجه إلى تحصيل الوزن والقافية كما أنه أجلّ من أن يلتفت إلى إزالة البيت عن نظمه الذي كان له ، وشيء من الروايتين المنقولتين ما دلّ على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان متعمداً في تغيير النظم ، بل على أنه جرى على لسانه غير النحو الذي قاله الشاعر ، فإذا اعترض عليه بذلك قال : " إني لست بشاعر وما ينبغي لي " ، أي : ليس لي قصد إلى صورة هذا المنظوم وسائر المنظومات ، بل إلى معناه إذا كان حقاً ، وما ينبغي لي أن أكون شاعراً ، أي مُنْشياً للمعاني المتخيلة الشعرية ، ولا متعمداً إلى ملاحظة الأوزان والبحور والقوافي ، لجلالة شأني ورفعة مكاني عنه ، لا أنه حرم الله عليه الشعر وجعله عاجزاً عن الإتيان به ، بحيث لو أراد لم يتأت له - كما ذكره الخليل وغيره - حاشاه عن ذلك . كيف والذوق السليم يحكم بأن القصور عن الإقتدار على إنشاء الشعر وانشاده نقص في الفطرة ، فيستحيل على من كان في حاقّ الاعتدال الإنساني ، وبحبوحة العدالة النفسانية من غير انحراف واعوجاج أصلاً . وأما علم الخط والسواد ، فيحتاج إلى تعمّل واكتساب وتكلّف خارج عما فطر الله النفس عليه ، وكذا سائر الصناعات العملية الغير الكمالية ، المفتقرة إلى معاونة الآلات الخارجية ، وهذه بخلاف العلوم الحقيقية والأخلاق الكريمة والنبوة والحكمة ، فإنها مع كونها كمالات نفسانية ، ليست مما يفتقر تحققها إلى التعمّلات والاكتسابات كل الإفتقار ، بل قد يتحقق بمحض الموهبة الربانية ، لأنها ليست أموراً جسمانية متعلقة بالحركات والتعمّلات على سبيل الوجوب والإضطرار . وبالجملة - الشعر يطلق على معنيين : أحدهما : الكلام المنظوم المعتبر فيه أحد الأوزان العروضية ، وترجيع القوافي ، وهو قد يشتمل على الحِكَم والمواعظ ، وقد يشتمل على المجازفات الخيالية . وثانيها : الكلام التخييلي المؤثر في النفس بسطاً وقبضاً ، الموقع لها ترغيباً وتنفيراً ، وإقداماً وإحجاماً ، كما في قولك : " الخمر ياقوتة سيّالة " حيث يفيد النفس ترغيباً كاملاً في الإقدام على شربها مع ظهور كذبه ، وقولك : " العسل مرة مقيئة " ينفر الطبع عن تناوله ، مع العلم بأنه كذب ، تنفراً موجباً للإحجام عنه ، فالمذموم هو الثاني لا الأول مطلقاً ، بل القسم الثاني منه . وعلى هذا يحمل ما ورد في الأخبار ، من النهي عن انشاد الشعر في المساجد وفي الصيام ، لا ما كان في مدح أهل بيت النبي ( عليه وعليهم السلام ) ، وهو منشأ تهجين الشعراء في قوله تعالى : { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 224 - 226 ] لأن الغالب على أكثرهم إنشاء الجزافيات المضلّة والمخيلات الوهمية الكاذبة ، ولهذا استثنى عن ذلك بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ الشعراء : 227 ] . والشعراء المؤمنون الذين يُكثرون ذكر الله وأحوال الآخرة والملكوت ، وغالب أشعارهم في توحيد الله والثناء عليه بما هو أهله ومستحقه ، والحكمة والموعظة الحسنة ، والمدح لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأولياء أهل بيته وأمته الصالحين ، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ، ولا يمزجون بشائنة وعيب ، وكان هجاؤهم على سبيل الإنتصار ممن يهجوهم ، كما قال الله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] . وحق القول ( الكلام ) فيه : أن الشعر باب من الكلام الحسن ، فحسنه كحسن الكلام وقبحه كقبح الكلام ولقد كثر الله من الشعراء الذين كانوا من الفضلاء الممدوحين والحكماء المقبولين بل الأولياء المرضيين . والأول كحسّان بن ثابت ، وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك ، من الذين كانوا ينافحون عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويكافحون هجاة قريش . والثاني : كابن فارض ، والشيخين : أبي علي وأبي نصر - ثم الشيخين - شهاب الدين السهروردي ، ومحي الدين بن عربي ، ومن شعراء العجم : النسائي والعطّار ومولوي وسعدي ونظرائهم . وأما الثالث : فأمام الكل في الكل أمير المؤمنين علي وأولاده الأطيبين سلام الله عليهم أجمعين . " وعن كعب بن مالك : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : " اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " وكان يقول ( صلى الله عليه وآله ) لحسان بن ثابت : " قل وروح القدس معك " " . ولما نفى الله تعالى أن يكون القرآن من جنس الشعر بالمعنى الذي مرّ ذكره ، قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } يعني : ما هو إلاّ ذكر من الله يوعظ به الجن والإنس ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ يوسف : 104 ] وما هو إلاّ كتاب سماوي يقرء في المعابد ، ويتلى في المساجد ، ويتبرك بتلاوته ، وينال الفوز بدراسته ، فيه شفاء للصدور ، ونجاة للنفوس ، ودواء للأسقام ، وهداية للأنام ، ومزيل للأوهام ، ومصفاة للإفهام ، ومصيدة للطيور السماوية ، ومطردة للأغوال المضلة ، ومرقاة إلى السموات العُلىٰ ومنازل الروحانيين هو حبل من الله متين إلى أعلى شواهق عليين ، كتاب مرقوم يشهدة المقرّبون ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين وأوهام الموسوسين ، وسلسلة من سلاسل المقيدين في مجالس أهل سجيّن ، وهو كتاب فيه دواوين الفجّار الضالين المكذبين . اشارة أخرى في قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } ، إشارة إلى قسمين من الأقسام الخمسة المشهورة من الكلام ، وهما أشرف الصناعات المنطقية وخير الطرق العلمية ، يعني : الحكمة والموعظة الحسنة فان الذكر يعني به الخطابة المفيدة للظن ، والقرآن يعني به البرهان المفيد لليقين . وذلك لأن أحد قسمي البرهان - وهو الذي يعطي اللّم - ما كان المفيد للتصديق ، وهو الوسط في القياس علة لثبوت الحكم في الخارج ، أي اتصاف الموضوع بصفة كاتصاف الإنسان بالوجود ، كما أنه علة للعلم به وثبوته في النفس ، فالمبرهِن ها هنا من لاحظ ماهية العلة المعطية لوجود الشيء وجَعَلَها مقدمة للوصول إلى المطلوب . هذا شأن الحكماء في اكتسابهم العلوم الإنفعالية الإرتسامية الذهنية ، وأما العلوم الشهودية الاشراقية كما هو شأن الأنبياء ، فهي إنما تحصل لهم بمشاهدة المبدء الفعّال ، وملاحظة العين الجمعي والعقل البسيط الذي هو فعّال الصور الفعلية الموجودة ، وخلاّق العلوم التفصيلية الاشراقية ، وهو مفتاح خزائن الأشياء ، المشار إليها بقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [ الحجر : 21 ] ، وحقيقة القرآن عند أهل الله بحسب المعنى هو هذا العقل البسيط ، وهو مفتاح المفاتيح الغيبية المشار إليها في قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] . فقد ثبت أن القرآن من جهة المعنى المعقول للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أشرف ضروب البرهان ، وأكسير سعادة الإنسان ، وأما الأقسام الثلاثة الأخيرة - وهي الجدل والشعر والمغالطة - ، فلا يفيد شيء منها اليقين ولا الظن إلاّ في قسم من الجدل ، وهو الذي يؤول إما إلى البرهان أو الخطابة ، ولهذا أضافه الله إليهما في قوله : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وهي المجادلة التي ترجع إلى أحدهما مع عموم اعتراف الخلائق فيه المعتبر في مطلقه . وأما ها هنا لم يعدها من أقسام كتاب الله الذي فيه جوامع الكلم وأصول الحِكم ، لما عرفت من أن الفائدة فيها من حيث هي مجادلة ليست تكميل النفوس بانفرادها مع قطع النظر عن الهيئة المدنيّة الجمعية ، وإنما المقصود الأصلي من الأنظار العلمية ، هو تكميل جواهر النفوس بحسب ذواتها ، وفيما بينها وبين الله ، مع قطع النظر عن النَسَب والأوضاع المنقطعة آخر الأمر ، لقوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وفي الحديث : " كل نَسَب منقطع إلاّ نسبي " . وأما الشعر : فلما عرفت من أن مداره على الأكاذيب ، ومن ثمة قيل : " أحسن الشعر أكذبه " . وأما المغالطة : فالفائدة فيها تغليط الغير أو الإحتراز عن تغليطه ، ومرتبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينافي الأول ويتعاظم عن الثاني ، فيستحيل أن يكون النازل عليه شعراً أو مغالطة ، فبقي أن يكون النازل من الأقسام الثلاثة الباقية ، كما دلّ عليه قوله : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ } [ النحل : 125 ] - الآية - . وأما الإنحصار المستفاد من هذه الآية في الآيتين ، فلما عرفت من رجوع الجدل بحسب الذات إلى أحدهما ، فلا منافاة بين الأثنين ، والدليل على أن الجدل من حيث هو جدل ليس مما له دخل في حصول الهداية العلميّة وتكميل النفوس الآدمية ، بل ليس الغرض فيها شيء إلاّ غلبة الخصم والظفر على العدو ، وهو يشبه الحرب " والحرب خِدعة " ، وليس صناعة برأسه ولا علماً ولا أدباً ، وينبهك عليه مشاهدة ما يعرض لأهله والمشتغلين به ، لا على وجه الضرورة ، من الحيرة والدهشة والشكوك والظنون والعداوة والبغضاء بينهم مثل ما يعرض لأهل صناعة الجدل ، فشكّك الماضي منهم الآتي ، وطعن اللاحق منهم السابق ، كقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] . والعلّة الموجبة لذلك أمور شتى ، أعظمها أنهم ربما يكونون مقلدين في أصول يجادلون فيها من المذاهب فينظرون في الفروع ، ومن يكون مقلّداً في الأصل كيف يمكنه أن يكون محققاً في الفرع ؟ ومن يكون ذاهباً إلى الأصل بالتقليد لقائد يقوده ، كمن يقود أعمى في ليل مظلم ، متى يكون ناظراً إلى الفرع بعين البصيرة المستضيئة بنور الله ؟ . وخصلة أخرى : أن أكثرهم ربما جادل فينصر المذاهب لا على سبيل الورع والتدين ، ولكن على سبيل التعصّب والغرض النفساني ، وحب العشيرة والقوم ، فيعمى عن الحق ويضلّ عن الصواب . واعلم أنه ليس من طائفة تتعاطى العلم والأدب والكلام شرّ على العلماء ، ولا أضرّ على الأنبياء ، ولا أشد عداوة لأهل الدين ، ولا أفسد للعقول السليمة للمسلمين ، من كلام هؤلاء المجادلة وخصوماتهم في الآراء والمذاهب . وذلك إن كانوا في زمان الأنبياء فهم الذين يطالبونهم بالمعجزات ويعارضونهم بالخصومات ، مثل ما قالوا لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، وقالوا لنوح : { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [ هود : 27 ] وهم الذين كانوا إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون ، وهم الذين أخبر عنهم في هذه السورة بقوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] وبقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } [ البقرة : 13 ] وفي ذلك آيات كثيرة من هذا الباب ، وقال الله تعالى في ذمّهم وتوبيخهم : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء ، وأما إذا كانوا في غير زمانهم ، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات ، وينبذون كتب الأنبياء وراء ظهورهم ، يفرغون إلى المذاهب والآراء بعقولهم الناقصة وفطانتهم البتراء ، ويضعون لمذاهبهم قياسات تناقضية وأحتجاجات ممّوهة ، ويعارضون عقولاً سليمة من الأحداث والعامة فيغيرون فطرهم الأصلية ، ويضلّونهم عن سنن الحق وسواء السبيل ويحرفون الكم عن مواضعه ويميلون طبائع أهل الديانات النبوية عن موضوعات الشرائع الناسوسية وإنك تجد فيهم من له جودة عبارة فصاحة بيان ، وسحر كلام ما يقدر أن يصوّر بالوصف البليغ الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق وهو مع ذلك جاهل القلب ميّت الروح عن فهم حقائق الأشياء ، بعيد الذهن عن درك المعارف ، كما يروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إنه كان يقول : " أخوف ما أخاف على أمتي منافق القلب عليم اللسان ، غير حكيم القلب ، يغيرهم بفصاحة بيانه ، ويضلّهم بجهله وقلة معرفته " . وتجد فيهم من يجادل ويحتج ويناظر ، وكلامه ينقض بعضه بعضاً ، ولا يتفطن ولا يحس بذلك ، فإذا تنبّه عليه لم يشعر به ، وربما يصلح فاسده بما هو أفسد وأسخف وأسقط من الأول . وتجد فيهم الرجل العاقل ( الغافل ) المحصّل ، الركين في أشياء كثيرة من أمور الدنيا وزينة أهلها ، وفي علوم جزئية مثل الطب والبيطرة والنجوم والنحو واللغة وغيرها ، فإذا فتّشت اعتقاده فيما هو أهل وأَوْلىٰ من أمور دينه وأحوال مذهبه ، وجدت رأيه واعتقاده في تلك الأمور ، أسخف وأقبح من رأي كثير من الجهّال والصبيان ، والعلة في ذلك أسباب شتى : منها : شدة تعصّبه فيما يعتقده تقليداً وافتخاراً من غير بصيرة ، وأخرى : إعجابه بنفسه في اعتقاده ، وأخرى : اعتقاده بأصول خفي عليه خطأه فيها ، وهي ظاهرة الشناعة في فروعها ، فهو يلتزم تلك الشناعات في الفروع مخافة أن ينقض عليه الأصول ، ويطلب لها وجوه المراوغة من إلزام الحجة تارة بالشغب وتارة بالتمويه وتارة بالمراوغة ، فيروغ كالثعلب عن الجواب والإقرار بالحق ، ويأنف أن يقول : " لا أدري " و " الله ورسوله أعلم " اقتداء بأدب الله كما قال : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ } [ الشورى : 10 ] فقال : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] وقال : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ آل عمران : 55 ] وآيات كثيرة في مثل هذا المعنى ، ولكن من هؤلاء من يحتج ويقول : معنى " الرجوع إلى الله " أي : إلى ثوابه .