Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 70-70)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرئ بالتاء والياء كلاهما على صيغة الأفعال ، فعلى الأول يكون المنذر هو الرسول ، وعلى الثاني يكون المنذر إمّا الله بالقرآن ، أو القرآن نفسه ، وقرئ : ولتنذر ولينذر من " نذر به " إذا علمه " . لمّا حقق الله ماهية ما أنزل الله على رسوله ، بأن حصره في قسمين هما أشرف أقسام الكلام ، لأن التقسيم باب من التعريب - وهو ضم قيود متخالفة إلى المقسم ليحصل بانضمام كل قيد إليه ماهية قسم منه وحده - ، أراد أن يبيّن غاية المُنزل ، إذ الحقائق قد تعرف بغاياتها أيضاً كما تعرف بقيودها وأجزائها ، فبيّن الفائدة فيه فذكر أن الفائدة فيه أمران : إنذار المؤمنين ، وإيجاب كلمة العذاب على المنافقين . مكاشفة تحقيق الآية يستدعي إشارات : الأولى في معنى " الحي " هاهنا : إن " الحياة " حياتان : حياة الجسد وحياة النفس ، أما حياة الجسد : فهي " النفس " بعينها ، لأن بالنفس يتحرك ويحس وينمو ويتغذى ، وأما حياة النفس فهي قوة نورية بها تهتدي النفس إدراك المعارف الحقة الإلهية ، التي توجب بقاءها أبداً سرماً مخلداً . وتحقيق ذلك ، أن ماهية الإنسان لمّا كانت مجموعة من بينه جسمانية ونفس روحانية ، وهما جوهران متضادان في الأحوال الذاتية ، متبائنان في الصفات الأصلية ، مشتركان في الأفعال العارضة والآثار الزائدة ، فصارت حياة كل منهما شيئاً آخر ، وإحدى الحياتين - وهي الدنيوية - لا تحتمل البقاء والدوام ، لأن الحس والحركة مثاران ( منشآن ) للتغير والدثور ، لأن قوامها بالتجدد والإنفعال والتأثر والحركة ، وأما الحياة الأخروية فهي باقية دائمة ، لأن العقل والإبداع اللذين فيها بإزاء الحس والحركة في الحياة الحيوانية لا يحتملان العدم والإنقطاع - كما تقرر في مقامه - . ولكل من الحياتين قوة واستعداد وكمال ، فالقوة في الحياة الحسية كما للمني ، والاستعداد فيها كما للجنين ما دام كونه في مضيق الرحم ، والكمال كما للمولود ، وأما القوة في الحياة الملكوتية فكما لكل نفس إنسانية في أوائل درجتها ومبدء فطرتها التي فطر الله الناس عليها قبل أن يتغير أو ينحرف ، وأما الاستعداد فكما لأرواح أهل الإيمان والتقوى ما داموا في مضيق رحم الدنيا ومشيمة الأبدان قبل خروجهم من حفرة القبور إلى سعة عالم الآخرة والنشور ، والجنة التي عرضها السموات والأرض ، وأما الكمال فكما لأهل المعرفة عند قيام الساعة عليهم - سواء قامت على غيرهم أم لا - . قال الجنيد - قدس سره - في هذه الآية : " الحي من تكون حياته بحياة خالقه ، لا من تكون حياته ببقاء هيكله ، ومن يكون بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت وقت حياته ، ومن كانت حياته بربه كانت حياته عند وفاته ، لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية " . انتهى قوله . الاشارة الثانية في أن لكل من هاتين الحياتين افتقاراً - في الخروج من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال - إلى أغذية وأدوية معينة . أما أغذية الحيوانات الدنيوية وأدويتها فمعلومة لكل أحد ، وقد تقع الحاجة في معرفة بعض الأدوية وتمييزها ، والفرق بين ضارّها ونافعها ، وترياقها النافع وسمها الناقع إلى الأطباء والبيطارين . وأما أغذية الأرواح الأخروية وأدويتها ، فأغذيتها المعارف القرآنية والعلوم الربانية ، وأدويتها النافعة المواعظ الخطابية والآداب الدينية والأعمال الشرعية . والمهلكات هي الجهل بالمعارف الإيمانية واكتساب ذمائم الأخلاق ، والأطباء العارفون بمنافع الأغذية والأدوية الروحانية ، ومضارّ السموم القاتلة المهلكة الشيطانية ، هم الأنبياء ، ثم الأولياء ، والعلماء الراسخون في العلم . الاشارة الثالثة لمّا ثبت أن الإنسان جملة مجموعة ، فلا جَرَمَ صارت أفعال الخلق ما داموا في الدنيا متبائنة متضادة ، فصار كل أحد من حيث بدنه الجسماني الأرضي مريداً للبقاء في الدنيا متمنيّاً للخلود فيها مخلداً في الأرض ، ومن أجل نفسه الروحانية طالباً لِلَذّات الآخرة متمنيّاً لحصول المعارف ، وهكذا أكثر أمورهم متبائنة متضادة ، كالعلم والجهل ، والجود والبخل ، والنفع والضر ، والخير والشر ، وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادات والآراء المتناقضات . والاختلافات الواقعة في المذاهب والآراء ، كلها منشعبة من هاتين الجهتين في الإنسان ، وقلّ من الناس من يتجرد فيه احداهما عن الأخرى ، بحيث لا يشوبها أصلاً . فإن الصفات المختصة بالجسد المجرد ، هو أنه جوهر ظلماني جسماني مركّب ، وطبائع ممتزجة مفسد مستحيل ، راجع إلى العناصر بعد انحلاله وترك استعمال النفس إياه ، حتى أن حياته الحسيّة نور من أنوار النفس وقعت عليه فيحيا به البدن ، إلاّ أن هذه الحياة مركب الروح الإلهي الشريف الذي هو نور من أنوار الله المعنوية ، وشعلة ملكوتيّة حاصلة في فتيلة النور الحسي والحياة الحيوانية ، بسبب النفخ الإلهي بوساطة نافخ هو ملك مقدس اسمه " إسرافيل " ، وشأنه تصوير الصور العقلية بإذن الله ، وإنشاء الحياة الثانية المخلّدة بإذن رب الصور المجردة . وأما الصفات المختصة بالنفس ، فهي إنها جوهر روحانية سماوية نورانية حية بالذات بالحياة الأولوية فعلاً ، وبالحياة الأخروية قوة ، علامة بالقّوة ، قابلة للتقديس ، فعّالة في الأجسام بالآلة ومستعملة للآلات ، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم ، ثم إنها تاركة لها ومفارقة إياها وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها ومعادها كما كانت بَديّاً ، إمّا بربح وغبطة سرور ، أو بندامة وخسران وحسرة ، أما مشرقة ناضرة ، إلى ربها ناظرة ، أو مظلمة مكدرة منكوسة معلقة معذبة لقوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [ الأعراف : 29 - 30 ] وقوله : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] وقال سبحانه : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . وكفى بهذا أيها الأخ المسكين زجراً ووعيداً وتوبيخاً وتهديداً ، فتذكر الموت ومفارقة الروح إن كنت من أهل الذكر والإنذار ، متنبهاً من نوم الغفلة ، ومنبعثاً من قبر الجهالة حيّاً بروح المعرفة ، وأعيذك أن تكون من الذين ذمهم الله بقوله : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] . ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان مثنوية متضادة ، من جهة أنه جملة مجموعة من جوهرين متبائنين حصلا من اقليمين ، صار لكل منهما حياة يتوقف بقاؤها على أغذية وأشربة مخصوصة ، ولكل منهما قِنْيَة ، وصارت القنية نوعين اثنين - جسمانية كالمال ومتاع الدنيا ، وروحانية كالعلم والدين - وإنما معدن العلم والدين هو الذكر الحكيم والقرآن المبين ، ولهذا قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [ يس : 69 - 70 ] أي بالحياة الروحانية الأخروية . وكما أن بالمال يتمكن الإنسان من تناول اللذات - من الأكل والشرب في الحياة الدنيا - فهكذا بقوة العلم واليقين يصل إلى الأغذية والإشربة الروحانية ، وبالعلم يضيء النفوس ويشرق ويكمل ويصح ، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويسمن . وما ورد في الباب من الأحاديث والأخبار كثيرة : منها : ما رواه أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني عن سليم بن قيس ، قال : سمعت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " منهومان لا يشبعان ، طالب دنيا وطالب علم " وفي رواية أخرى : " منهوم العلم ومنهوم المال " . ومنها ما رواه عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يقول : روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة ، فإنها تكِلّ كما تكِلّ الأبدان . وقال بعض الحكماء : أليس الرجل إذا مُنع عنه الطعام والشراب يموت ؟ قالوا : بلى ، قال : كذلك القلوب ، إذا منعت عن الحكمة والعلم ثلاثة أيام تموت . ولما كان هذا هكذا صارت المجالس اثنين ، مجلس الأكل والشرب واللهو واللعب ، ولذّات جسمانيّة من لحوم الحيوان ونبات الأرض ، لصلاح الجسد وحياته الفانية ، وزيادة لذاتها وشهوتها ، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني ، فيها قوة للنفوس ، وقرة للأعين ، ولذة للأرواح التي لا تبيد جواهرها ، ولا تنقطع حياتها وسرورها ولذتها وشهوتها في الدار الآخرة ، كما في قوله تعالى : { فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] . الاشارة الرابعة الكفر ، هو الاحتجاب ، والكافرون هم المحجوبون عن الله تعالى ، لقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] وسبب كفرهم وحجابهم أمران : إما غلبة حب الدنيا واستيلاء القوى البدنية الحسية ، وإما غلبة الهوى واستيلاء القوى النفسانية الشيطانية وانحرافها وضلالها عن الهدى . فالكفّار هم أهل الإغترار ، فمنهم من غرتهم الحياة الدنيا ومنهم من غرهم بالله الغرور . أما الذين غرتهم الحياة الدنيا ، فهم أهل الحرص والشهوة ، فلغاية ميلهم إلى اللذات العاجلة وحرصهم إلى اقتناء المال واكتساب الشهوات ، صاروا محجوبين عن فهم القرآن ومعانيه ، دون ألفاظه ومبانيه ، وعن إدراك أمور الآخرة وأحوال المبدء والمعاد ، والعلم بالمفازات والربوبيات ، فانكبوا عن الطريق وحرموا عن الجدوى ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واشتغشوا ثيابهم ، نسوا الله فأنساهم أنفسهم . وأما الذين غرهم بالله الغرور - أي الهوى والشيطان والقياس الفاسد - فهم الذين حادوا عن الطريق ، وانحرفوا عن الحق بواسطة مرض قلوبهم وانحراف طبائعهم عن الصراط المستقيم ، واعوجاج نفوسهم عن درك المعارف بالبراهين النيّرة والآيات الربانية ، وإنما سبب انحرافهم عن الحق وحَيْدِهِم عن الصراط أحد الأمرين : إما تعصب الآباء وتقليد الأسلاف ، وإما الاستبداد بالرأي الفاسد والفكر الكاسد ، وكل ذلك يوجب العمى في القلب . وهذا القسم من الكفار هم " المنافقون " ، وهم من أهل القهر الإلهي ، لا ينجع فيهم الإنذار ولا خلاص لأحدهم من النار . والقرآن مع كونه شفاء للصدر ، ونجاة من الأسقام ، والترياق الأكبر لدفع السموم ، لا ينفع في إزالة هذا الداء المهلك ، ولا ينجع في قطع هذا المرض المزمن القاتل ، ولا في دفع هذا السم الناقع . { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 33 ] { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [ غافر : 6 ] بل الإنذار بالقرآن ، والإشعار بآيات الله والتعليم بالكتاب والحكمة يزيدهم شراً وَوَبالاً ، ويضاعف فيهم جهلاً وضلالاً ، ويحق عليهم عذاباً ونكالاً ، ولهذا قال : { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } . فما هو سبب الهداية والإنذار لقوم ، فهو بعينه سبب نزول كلمة العذاب على قوم آخرين من الكفار { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ * ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } [ البقرة : 26 - 27 ] - الآية - . وأما القسم الأخير من الكافرين ، فيمكن إزالة مرضهم ودفع غرورهم بهذا القرآن ، لأن منشأ كفرهم واحتجابهم ليس قوة نفسانية غير قابلة للتأثر والإنفعال - لكونها قاسية كالحجارة أو أشد قسوة - ، بل منشأها شهوة الطبع ومحبة الدنيا ، والشهوات أمور انفعالية قابلة للزوال والدثور ، وأكثر اغترارهم بالدنيا ولذاتها لأجل الشكوك ، وشكوكهم ترجع إلى أن قالوا : " هذه نقد ، والنقد خير من النسيّة ، فتكون الدنيا خيراً من الآخرة " أو قالوا : " اليقين خير من الشك ، ولذّات الدنيا يقينية ، ولذّات الآخرة مشكوك فيها ، وكذا اللذة الحسية يقينية ، واللذة العقلية بلقاء الله أمر مشكوك فيه ، والعاقل لا يترك اليقين بالشك " . وهذه أوهام فاسدة وأقيسة باطلة ، وعلاج المغرور بها ، إما البرهان وإما التصديق بمجرد الإيمان بما أخبر الله تعالى من قوله : { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ القصص : 60 ] { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] { وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] وقد أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك طوائف من الكفار ، فقلدوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان ، ومنهم من قال : " نشدتك بالله أَبَعَثَكَ الله رسولاً " ؟ فكان يقول : " نعم " ، فيصدّق . وهذا إيمان العامة ، وهذا بمنزلة تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب ، مع أنه لا يدري وجه كونه خيراً ، وأما المعرفة بالبرهان ، فهو أن يعرف وجه فساد القياس الأول بفساد إحدى مقدمتيه ، وإن كانت الأخرى صحيحة ، فإن قوله : " النقد خير من النسيّة " محل التلبس ، فإنه لو كانت بين النقد والنسية مماثلة في القدر والمقصود ، فالنقد خير من النسية ، وإلاّ فلا . وأما القياس الثاني - وهو أكثر فساداً من الأول لأن كلا أصليه باطل - أما قوله : " اليقين خير من الشك " ، إنما يصح في صورة التساوي وإلاّ فلا ، أو لاَ ترى أن التاجر في تعبه على يقين وفي ربحه على شك ، ومع ذلك يترك الراحة اليقينية طلباً للربح المشكوك فيه ، وكذا المتفقه في اجتهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك ، ولهذا أمثلة كثيرة . وأما أصله الآخر وهو : " إن الآخرة شك " فهو أيضاً خطأ ، بل ذلك يقين عند المؤمنين ، وليقينه مدركان : أحدهما : الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والأولياء ، وذلك أيضاً يزيل الجهل والغرور ، وهو مدرك عوامّ أهل الإسلام ، وأكثر الخلق اطمأنوا به كما تطمئن نفوس المرضى إلى تصديق قول الأطباء الحذّاق ، وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق متى لم تتغير فطرتهم الأصلية ، كما لأحد صنفي الكفار من المنافقين الأشرار . والقرآن كما يشتمل على البراهين العقلية التي يكمل بها العلماء الأحياء بالفعل - وهم أهل البرهان والكشف - ، كذا يشتمل على ما ينتفع به من كان معتقداً قول الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم بعد السماع منهم ، - وهم أهل الحياة الآخرة بالقوة - ، سواء حصل لهم استعداد قريب كجملة المؤمنين المعتقدين بالله واليوم الآخر ، الجازمين بصدق دعوى الرسول ، المتابعين للأئمة بعده ، أو لم يحصل ، ولكن من شأنهم أن يحصل لهم الاعتقاد اليقيني ، فهذا القدر من الإيمان والإعتقاد الجازم باليوم الآخر ، الذي لجملة أهل الإيمان يكفي للحث على العمل لأجل الآخرة والعبادة لله ، وصرف نعمه فيما خلقها لأجله ، ليستعدّوا بذلك لليقين ، وهو المعنيُّ بالحياة الأخروية بالفعل ، لقوله : { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . وأما المدرك الثاني للمعرفة ، الموجب لبرد اليقين ، فهو إما الوحي للأنبياء أو الإلهام للأولياء ، ولا تظن أن معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأمر المبدء والمعاد ، أو لأمور الدين ، تقليد بجبرائيل بالسماع منه ، كما أن معرفتك تقليد له ، حتى تكون معرفتك كمعرفته ، وإنما يختلف المقلد فقط - هيهات - ، فإن التقليد ليس بمعرفة ، بل هو اعتقاد صحيح أو فاسد ، والأنبياء عارفون بالله وآياته ، ومعنى معرفتهم ، إنهم كشفت لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها ، فشاهدوها بالبصيرة الباطنية أوضح مما يشاهده الناس بالحواس ، وذلك بأن ينكشف لهم عن حقيقة الروح وهو سلّم المعارف وأنه من أمر الله ، ليس المراد به معنى يقابل النهي ، ولا المراد به الشأن والشيء - حتى يعم الموجودات كلها - بل العالم عالمان : " عالم الأمر " و " عالم الخلق " ، لأنه عبارة عن التقدير ، وكل موجود منزّه عن الكمية فهو من عالم الأمر ، وشرح معرفة الروح مما لا رخصة في ذكره ، لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كاستضرار المزكوم بشم رائحة الورد ، بل كاستضرار الجَعل بشم رائحة المسك ، لا كاستضرار عين الخفاش برؤية الشمس . فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه عرف ما فوقه من المفارقات ، حتى تنتهي معرفتها إلى معرفة الحق الأول ، فيعرف أن الجميع مقهورون تحت أشعة نوره الأبهر وكبرياءه الأنور ، وإذا علم نفسه وربه ، علم أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وذاته ، وأنه في العالم الجسماني غريب ، وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه ، بل بكره ، لأجل أمر عارض غريب من ذاته ورد على أبيه آدم أولاً ، وعبّر عنه بالمعصية ، وهي التي حطّته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته ، فإنها في جوار ربه ، وأنه أمر رباني ، وحنينه إلى جوار الرب تعالى له طبعي ذاتي ، فيشتاق إلى طلب الآخرة إلى أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته ، فينسى عند ذلك نفسه وذاته . ومهما فعل ذلك ، فقد ظلم نفسه ، واستحق الطرد والبُعد ، إذ قيل له : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ الحشر : 19 ] أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم . وانفتاح هذا الباب من سرّ القلب إلى عالم الملكوت يسمى " معرفة " و " ولاية " ويسمى صاحبه " ولياً " و " عارفاً " ، وهي مبادئ مقامات الأنبياء . وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء سلام الله عليهم . وهذه إشارات إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العشاق الالهيون ، ويشمئزّ من سماع ألفاظها المغترّون والقاصرون ، فإنها تضرهم كما تضرّ رياح الورد بالجُعل ، وكما تبهر الشمس أبصار الخفافيش . فإذا تمهّدت وتحققت لك أسرارها وأغوارها ، يظهر لك أن لفظي " الإيمان " و " الحياة القلبية " كالمترادفين في لغة القرآن وفي اصطلاح حامليه ، كما عند أهل الله وأبناء الحقيقة ، وكذا " الموت القلبي " و " الكفر " يجريان مجرى المترادفين ، وإطلاق " الحي " على المؤمن و " الميت " على الكافر على وجه يُشعر بأن جهتي الحياة والموت هما الإيمان والكفر والمعرفة والجهل ، شائع كثير في الآيات والأحاديث ، وقد مرّ أن الحياة لها مراتب بحسب القوة والإستعداد ، وكذا الموت الذي يقابلها ، وما من نفس إلاّ وقد كانت في أصل الفطرة حية بالقوة قبل أن تبطل استعدادها فكل من في وجه الأرض إما أموات غير أحياء - وهم الكفار الجاحدون ، حيث بطل استعدادهم للحياة القلبية بالجحود والإنكار والتمرد والإستكبار - وإما مرضى - وهم أكثر الخلق - على تفاوت جهلهم ومرضهم ، وإما أصحاء - وهم العلماء بالله والمؤمنون حقاً - لكنهم ما داموا في الدنيا قبل قيام القيامة عليهم بمنزلة الأجنّة في بطون أمهاتهم ، وفي مشيمة البدن بمنزلة الجنين في مشيمة الرحم . والقرآن ليس شفاءً للأموات لعدم السمع والبصر الباطنيين ، اللذين هما بابان لفهم المعارف لهم ، وبطلان القلب الحقيقي الذي هو المشعر الإلهي عنهم ، كما قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [ النمل : 80 ] . وكقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يونس : 42 - 43 ] . فقد نبّه الله تعالى لنبيه النذير المنذر ( صلى الله عليه وآله ) ، على أن أصحاب ( أهل ) الحجاب الكلي سُلب عنهم السمع الباطني الذي هو غاية المسع الحسي - وهو فهم المقاصد وتعقّل المطالب - ، وكذا نبّه على أنهم لا يبصرون من الرجال الإلهيين إلاّ بقدر ما يراه بصر الدوابّ والأنعام من الصور والأشكال وهيئات الأجسام . وقال أيضاً : في غير موضع من القرآن في حق المنسلخين عن الفطرة الإنسانية " صم ، بكم ، عُمْي " سلب إدراك المعارف من طريق السمع عنهم ، وسلب معرفة الرجال وأولياء الله من باب البصر عنهم ، وكذا سلب عنهم الفطرة الإنسانية واستعداد الحياة البقائية الأخروية ، كما أفصح الله عن انحطاط درجتهم عما كانوا ، ونزول رتبتهم عما فُطروا عليه بقوله : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] ، وقال أيضاً : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 21 - 22 ] وقال في النعي عليهم والصريح بموتهم ميتة الجاهلية : { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النحل : 21 ] . وإذا ثبت أن الكفار والمنافقين فقدت عنهم آلة السمع والبصر وجدوا هما ، وماتت قلوبهم فلا يجديهم سماع القرآن ظاهراً ، ولا دراسة الكتاب والحديث رواية بلا دراية ، فقد ثبت أن القرآن لا يشفي عليلهم ولا يروي غليلهم ، لأنهم أهل الحجاب ، الذي حقّت عليهم كلمة العذاب ، وغلقت عليهم الأبواب ، وهو معنى قوله : { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } كما قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } [ يونس : 96 - 97 ] . وقال أيضاً : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] . واعلم أن حال أكثر المتظاهرين بالإيمان عند التحقيق هذا الحال - وإن كانوا من جملة المعدودين عند الناس من أهل الفضل والكمال - كما مضى من قوله تعالى في صدر هذه السورة " لقد حق القول على أكثرهم فم لا يؤمنون " ، فإن مجرد الإطلاع على ظاهر العربية من اللغة والنحو والصرف والعلوم الجزئية ، وكذا حفظ الأقوال في الحرام والحلال وصنعة المباحثة والقيل والقال ، وصنعة الكلام بالمجادلة من غير بصيرة بحقيقة الحال ، لا يرتقي به الإنسان عن درجة الجهّال والأرذال ، ولا يرتفع إلى رتبة السعداء والمقربين من الحق المتعال ، ولا يهتدي بحقائق القرآن والآيات ، بل يزيده شراً ووبالاً وجحوداً واستكباراً عن سماع ما هو الحق ، اللهم إلاّ بالقلب السليم عن الآفات المهلكة والأمراض النفسانية كما مرّت الإشارة إليه غير مرة ، ودلّ عليه قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . فقد بقي كون القرآن منذراً لمن كان حياً ، أي قابلاً للحياة الأخروية ، مستعداً لفهم المعارف الإلهية ، مؤمناً بالله واليوم الآخر - ولو بالسماع والتسليم - من غير انحراف عن سنن الحق وحَيْد عن الصراط المستقيم ، سواء كان صحيح القلب بريئاً عن المعاصي مطلقاً ، أو مريضاً لكن غير مزمن المرض ، ولا المكذب للطبيب وهم الأولياء والحكماء . فالدنيا بمنزلة دار الشفاء ، والعلماء الربانيون هم الأطباء ، والقرآن هو الدواء ، والحكمة التي بها تقع الشفاء - والإعراض عنه هو السم المهلك - الموجب للشفاء { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 57 ] . والنفوس الساذجة الغير الكاملة في العلم والعمل ، هم المرضى ، القابلون للتداوي ، المستعدون للصحة والحياة الكاملة ، والنفوس الجاهلة الشقية الغير السليمة - إن كانت لهم فطانة بتراء وجهل مشفوع بالإعتقاد ، واعتقاد تقليدي مركب بالنفاق والعناد - هم المرضى الغير القابلين للعلاج ، بل يزيد فيهم المرض يوماً فيوماً ، كما قال الله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 10 ] . وهؤلاء هم الذين كانوا مستعدين في الأصل للحياة ، قابلين للنور ، ولكن احتجبوا بالرَّين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب الخطيئات ومزاولة المكائد الشيطانية وطلب الترفعات الباطلة ، حتى رسخت الهيئات الفاسقة في صفحة باطنهم ، وتراكمت المَلَكات المظلمة على مرآة قلوبهم ، كما قال تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] . فلا تقبل التصفية والتطهير بعد ذلك ، لتراكم ظلمتهم وعينية نجاستهم ، كما قال : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ يونس : 100 ] وذلك لكونها كثيرة التعلق بالدنيا ، متعلقة الوجود بأجسادها وأبدانها الغالب عليها القوة الشهوية والغضبية مثل الكلب والخنزير ، والدنيا دار النجاسة وطالبها الأنجاس وطلبة الأرجاس ، لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " الدنيا جيفة وطلاّبها كلاب " ، وورد أيضاً في الحديث : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها " . وإن لم يكونوا ذا فطانة وعقل ولا اعتقاد صادق أو كاذب ، فهم إما المطرودون والمبعدون طبعاً من أهل الحجاب ، أو المستضعفون من النساء والولدان . فالأول هم الأموات المعزولون عن الخطاب ، المختوم على قلوبهم أزلاً ، كما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] فالقرآن لا ينذرهم كما لا ينذر القسم الأول ، إلاّ أن المانع في أحدهما وهم المنافقون وجودي - وهو المرض المزمن - ، وفي الثاني وهم المطرودون عَدَمي ، وهو الموت ، - وقد أخبر الله تعالى عن نفي قبول الإنذار عن أحدهما بقوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 33 ] وعن نفيه عن الثاني بقوله : { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] وقوله : { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ الكهف : 101 ] . وأما المستضعفون فهم غير معلومي العاقبة لا يعلم حالهم إلاّ الله . فهذا ما حضرني الآن في بيان هذه الآية ، والله أعلم بحقائق آياته وأسرار كلماته .