Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 72-72)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
من شواذ القراءات قراءة الحسن والأعمش : " ركوبهم " بالضم ، وقراءة عائشة وأبي بن كعب " ركوبتهم " أما الركوب فمصدر على حذف مضاف ، كذو وأمثاله ، ويجوز أن يكون التقدير : " فمن منافعها ركوبهم " كما يقول الإنسان لغيره : " من بركاتك وصول الخير إليّ " . وأما " الركوب " و " الركوبة " فهما ما يركب كالقتوب والقتوبة ، والحلوب والحلوبة - لما يقتب ويحلب - وقيل : " الركوبة " جمع . وذلّلناها لهم - أي : سخّرناها لهم حتى صارت منقادة ، ولولا تذليله وتسخيره لها وإلاّ فمن الذي يقدر عليها كما قيل : @ يصرّفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير @@ ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبّح بقوله : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] . فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - قسّم الأنعام بأن جعل منها ما يركب ، ومنها ما يذبح فينتفع بلحمه ويؤكل . تبصرة عقلية لما أشار سبحانه إلى مبدء وجود الحيوان وغايته من ملائكة الله المكرمين وأوليائه الصالحين ، أراد أن يشير إلى بعض منافعه العرضيّة وفوائده التبعية ، وقد تقرر عند الحكماء في العلوم النظرية ، الفرق بين ما هو علّة غائية ماهيّة وغاية ذاتية وجوداً ، وبين ما يتبعها - سواء كانت من الضروريات اللازمة أو من التفضلات الزائدة - وبيّنوا ذلك بأدلة موضحة وأمثلة كاشفة ، وحكموا بأن أفعال الله تعالى وأن لم يكن لها علة غائية ، ولكن ذاته ذات لا تحصل منه الأشياء إلاّ على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يتصور من النظام - سواء كان ضرورياً كوجود العقل للإنسان والمعرفة للعقل والنبي للأمة ، أو غير ضروري لكنه من التفضلات المستحسنة ، كإنبات الشعر على الحاجبين ، وتقعير الأخمصين للقدمين - . فكما أن الماء والنار والشمس والقمر إنما تفعل أفاعيلها - من التبريد والتسخين والتنوير - لحفظ كمالاتها ، لا لانتفاع غيرها ، ولكن يلزمها انتفاع الغير ، وكذلك مقصود الأفلاك في حركاتها هي الطاعة لله والخدمة لما وراءها ، والتشبّه بالخير الأقصى بوساطة المعشوقات الكاملة العقلية ، فلكل منها مطاع معشوق يخصه - وإلاّ لما اختلفت الجهات والحركات - وللجميع إله واحد ومحبوب واحد ، يضمحل تحت نور كبريائه كل خير ومحبوب دونه ، هو الذي أدار رحاها وبسم الله مجراها ومرساها ، ومطلوبها في الحركات والصلوات والركوع والسجود ، وطاعة الله وطلب التقرب منه والتشبّه بما عنده ، لا نظام السفليات من الإنسان والحيوان والنبات ، إلاّ أنها يترشح منها نظام ما دونها على أبلغ وجه وأتمّه ، كما قيل : " وللأرض من كأس الكرام نصيب " ، فإن الأرض والأرضيات مما لا قدر لها محسوساً حتى تتحرك لأجلها الفلكيات . وأما الإنسان الكامل ، فإنه وإن كان من جهة جسميته حقيراً سفلياً غاية الحقارة والسفلية ، إلاّ أنه من حيث روحه وعرفانه مما يليق أن تطوف عليه العناصر والأفلاك ، وتدور حول كعبة قلبه الأجرام العلويّة بما فيها من النفوس والأملاك ، لقوله تعالى : ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) . فإذا تقرر عندك ما سردنا لك ، ووضح لديك ما مهّدنا لأجلك ، فاعلم أن لوجود الحيوان علة غائية هي جهة ماهية الإنسان بحسب وجودها في القضاء الإلهي والعالم العقلي ، وله غاية ذاتية هي ثمرة وجوده وتمامه وكماله - وهي وجود الإنسان - ، إذ لأجله بنى العالم العنصري وخلق الأكوان ، فهو الأصل في القصد من وجود الحيوان ، والغرض من حدوث مواد العناصر والأركان ، فهو الأول في التصور والتفكر ، والآخر في التحصيل والعمل ، وهو اللباب الأصفى من خلائق عالم الأركان ، ومن فضالة وجوده خلق سائر الأكوان . وها هنا دقيقة لا ينبغي الذهول عنها ، وهي أن المواد الحيوانية كلها متوجهة إلى أن يحصل منها وجود الإنسان - لأن وجوده كمالها وغايتها كما علمت - ولا ينافي هذا المعنى عدم بلوغ أكثرها إلى هذه الدرجة لما فيها من الموانع والصوارف الداخلية والخارجية ، الوجودية والعدمية مما يطول شرحها . فالحيوان الكامل الواصل إلى غايته وثمرته ، هو الذي وقع داخل ماهية الإنسان من حصة حيوانيته الموجودة له وفيه ، وأما غيرها فهي منقطعة السير منبّتة السفر - لأجل قصور قوتها - دون المرام ، وإنبتات مسافتها قبل التمام . إلاّ أنها وأن تعوقت وتعطلت عن سفرها إلى ذات الإنسان ، لكنها بحسب الأكثر غير معوقة ولا معطلة عن خدمة الإنسان ، بل مجبولة على طاعته ، ساعية نحو الوصول إلى لوازم وجوده وعوارض كونه - من الأكل ، والركوب ، والمشارب والمنافع - ، فغاية بعضها صيرورته غذاء الإنسان ، وغاية بعض آخر كونه حاملاً لغذائه ، وغاية بعض صيرورته ملاصقاً لبدنه مركوباً له ، وغاية بعض آخر كونه حاملاً لما يلاصق بدنه حملاً لمحمول طبيعي كالجلود والأصواف أو لمحمول غير طبيعي كالأثواب وغيرها ، إلى غير ذلك من المنافع التي تعود إلى الإنسان بوجه من الوجوه ، مما يتعذر ذكرها جميعاً على التفصيل . والغرض أن وجود الإنسان هو الغاية الذاتية لوجود الحيوان وما يحتاج إليه أو ينتفع به من الأكل والركوب ، وسائر المنافع والمشارب وغيرها هي من الغايات العرضية لوجوده ، أو من التوابع اللازمة الضرورية أو غير الضرورية له ، والجميع راجعة بوجه من الوجوه إلى الإنسان ، لأن وجوده غاية الأكوان ، وكمال هذا العالم وأجزائه من الأصول والأركان .