Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 73-73)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد أجمل الله تعالى ها هنا ذكر منافع الحيوان لظهورها على البصير المتأمل وإن غفل عنها الأكثرون ، ولهذا فصّلها في موضع آخر بقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً } [ النحل : 80 ] الآية . وقوله : أفلا يشكرون - أي : أفلا يعرفون نعمة الله ليدَّبَّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ؟ أفلا ينظرون في بدائع حكمة الله وآثار قدرته وجوده في هذه المخلوقات ومنافعها ، ليدّبروا في عظمة خالقها وصانعها ، ليعرفوا ذاته وصفاته والهيته وحكمته وقدرته ولطفه وجوده ، وتخلصوا من عذاب جهنم ونار القطيعة والطرد . فمن منافعها وفوائدها التي لو نظر إليها الإنسان بعين التدبر - لا بعين الغفلة والعادة - لأكثر التعجب من حكمة خالقها ومصورها ، هي جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، التي خلقها الله لباساً لخلقه ، وأكناناً لهم في ظَعْنهم وإقامتهم ، وآنية لاشربتهم ، وأوعية لأغذيتهم ، وصواناً لأقدامهم ، كما جعل ألبانها ولحومها أغذية لهم . ومن فوائدها جعل بعضها زينة للركوب ، وبعضها حاملة للأثقال وقاطعة للبوادي ، إلى غير ذلك من آثار نعم الله الجليلة والدقيقة فيها ومنافعها الكثيرة التي خلقت لأجلها ولأجل غيرها . ومعظم منافعها أنها مواضع حكمة الله لمن تدبر فيها ، ومحّال الشكر على نعم الله لمن قدر على الشكر له ، وإنها أسباب اهتداء الإنسان إلى معرفة خالقه ورازقه إذا نظر وتأمل في دقائق النعمة وبدائع الصنعة المودعة فيها ، فعلم من آثار اللطف والرحمة على ما قضى العجب من الحكمة ، حامداً لله البارئ الحكيم ، وشاكراً على نعماء الجواد الرحيم ، حسبما أمر به وحثّ عليه بقوله : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } . ومن نظر في خلقة واحد صغير من الحيوانات ، لعلم من صنائع جود الله وآثار حكمته فيه ما يعجز عن وصفه ويكلّ عن الإحاطة به ، إذ ما من حيوان - صغير ولا كبير - إلاّ وفيه من العجائب ما لا يحصى ، بل لو أردنا أن نذكر عجائب البقّة أو النملة أو النحل أو العنكبوت - وهي من صغار الحيوانات - في بناء بيتها ، وفي جمع غذائها ، وفي ألفها لزوجها ، وفي إدخارها لنفسها ، وفي حذقها في هندسة بيتها ، وفي هدايتها إلى حاجتها ، لم نقدر . فانظر إلى النحل ومسدساتها ، وإلى اهتدائها وتفطنّها بوحي الله إليها في اتخاذ بيوتها من الجبال ومن الشجر ومما يعرشُون ، ثم اهتدائها إلى بناء بيوتها على وضع الأشكال المناسبة لأبدانها ، وحيث لم يمكن في أفضل الأشكال ترامي ( تراخي ) بعضها لبعض من غير فرجة وفصل ، تحرّت من الأشكال إلى ما هي الأشبه بالاستدارة - وهي المسدسات - لكون مساحتها كمساحة الدائرة ، حاصلة من تربيع نصف قطرها في نصف محيطها ، وليس غير المسدس من المضلعات هكذا ، فسبحان من هداها من المعرفة والقياس ما لم يصل إليها فَهْمُ كثير من الناس . ثم انظر إلى العنكبوت ومثلّثاته على طرف نهر أو باب ، كيف يطلب أولاً فرجة بين موضعين متقاربين بمقدار ذراع ، حتى يمكنه أن يصل بالخيط اللُّعابي بين طرفيه ، ثم يبتدئ فيلقي لعابه الخيطي إلى جانب فيلتصق به ، فيعدو إلى الجانب الآخر ، فيحكم الطرف الآخر من الخيط ، ثم يحكم كذلك ثانياً وثالثاً ويجعل بُعْدَ ما بينها تناسباً هندسياً ، حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كاللحمة اشتغل بالتسديد ، فيضيف السّدى إلى اللحمة ، ويحكم العقد على موضع التقاء السّدى باللحمة ، ويرعى في جميع ذلك تناسب الهندسية ، ويجعل ذلك شبكة لاصطياد البق والذباب ، ويقعد في زاوية مترصداً لوقوع الصيد في الشبكة ، فإذا وقع بادر إلى أخذه وأكله ، فإن عجز عن الصيد كذلك ، طلب لنفسه زاوية من حائط ، ووصل بين طرفيه في الزاوية بخيط ، ثم علق نفسه منها بخيط آخر وبقي متمسكاً في الهواء ينتظر ذبابة تطير ، فإذا طار ذباب رمى نفسه إليه ، فأخذه ولفّ خيطه على رجله وأحكمه ثم أكله . أَفَتَرى أنه يعلم هذه الصنعة من نفسه ؟ أو كَوّن نفسه ؟ أو كَوّنه آدمي أو علّمه ؟ أو لا هادي له ولا معلّم ؟ أفيشك ذو بصيرة في أنها مسكينة عاجزة ضعيفة ؟ بل الفيل العظيم بشخصه ، الظاهر قوته ، عاجز عن أمر نفسه ، فكيف هذا الحيوان الضعيف ، أفلا يشهد هو وشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته بفاطره الحكيم ومدبّره العليم ؟ فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المريد الخبير ، وجلاله وكمال قدرته ما تتحيّر فيه الألباب والعقول ، فضلاً عن سائر الحيوانات من الأنعام وغيرها ، وإنما سقط تعجب القلوب منها لأُِنسِها بكثرة المشاهدة . والإنسان أعجب الحيوانات ، وأعجب كل عجيب ، وليس يتعجب من نفسه ، وأكثر الناس ناسون أنفسهم ، غافلون عن عجائب القلب ، شاكّون في أمر المعاد وبقاء النفس وسعادتها وشقاوتها ، لأنهم عن الذكر لَمُبْعَدُون ، وعن السمع لَمَعْزولون ، وعن آيات ربهم مُعرضون ، لأنهم غرّتهم الحياة الدنيا ، ليسوا من أهل المحبة الإلهية . ولو أنك تعظّم عالماً بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غرائب شمائله وآثاره ، وصنائعه البديعة ونكاته الدقيقة ، وتصانيفه الرشيقة وأشعاره الحسنة وكتبه النفيسة ، فكلما تصفحت غريبة غريبة من تصنيفه وشعره ، فتزداد به معرفة وتزداد به محبة ، وله توقيراً وتعظيماً واحتراماً ، حتى أن كل كلمة من كلماته وكل بيت من أبيات شعره يزيده محلاً في قلبك ويستدعي التعظيم له من نفسك . فهكذا المحبّون لله ، العاشقون لصنعته وقدرته ، ويتأملون في بدائع خلق الله وتصنيفه ، ويتدبرون في دقائق حكمة الله وعنايته في وجود السموات والأرض وما بينهما ، ثم اعلم أن نظر العشّاق الإلهيين في كل شيء نظر آخر ، لأن عيونهم مكحلة بسواد الزبر الموروثة من الأنبياء ، وبصائرهم منورة بأنوار متابعة سيد الرسل ( عليه وآله الصلاة والدعاء ) وكلما نظروا فيه بعين التوحيد ، نظر غيرهم بعين التفرقة ، وكلما ينظر فيه الطبيعي أو الطبيب ويكون سبب ضلالهم وشقاوتهم ، ينظر فيه الموحد الموفق ويكون سبب هدايته وسعادته . وما من ذرة في السماء والأرض والبر والبحر إلاّ والله يُضل بها ما يشاء ، ويهدي من يشاء ، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله وصنعه ، وأثر من آثار وجوده وكرمه وآلهيته ، استفاد منها المعرفة واهتدى ، ومن تأمل فيها قاصراً للنظر ، من حيث لها طبيعتها الجزئية وغايتها القريبة ، ومن حيث يؤثر بعضها في بعض ، لا من حيث ارتباطها بمسبّب الأسباب حتى يكون طريقاً من طرق الإرتقاء إلى فاطر الماهيات ، فقد شقي وتردّى - فنعوذ بالله من الضلال ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنّه وفضله - .