Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 11-11)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هم الذين قربت درجاتهم عند الله ، وأعليت مراتبهم في الجنّة ، وهذا القرب ليس بالمكان ولا بالزمان ، بل إنّما هو بحسب قُربا معنويّا لأجل الشرافة والبراءة عن الدنيا وشرورها ، ونقايص الموادّ وآفاتها ، وذلك لأنّ ظلّ الوجود إذا امتدَّ وطال وانبسط عن الباري ، ووقع على قوابل الماهيات حسب اقتضاء الرحمة الواسعة - المعبَّر عنها بالنفس الرحماني - ، فابتدأت وترتّبت الموجودات من جهة الإبداع على ترتيب الأشرف فالأشرف ، منتهية إلى الأخسّ الذي لا أخسّ منه كالهاوية والظُلمة ، ثمّ عادت وتوجّهت إلى الكمال بعد التوحيد ، وارتقت إلى الشرف بعد أن هبطت منه من جهة التكوين على ترتيب الأخسّ فالأخسّ ، حتّى انتهت إلى الأشرف الذي لا اشرف منه في الإمكان ، وظاهر انّ أشرف الممكنات وأعلاها مرتبة في سلسلة البَدْو هو الروح الأوّل والقلم الأعلى ، ثمّ سلسلة العقول - وهم الملائكة المقرّبون السابقون - ، ثمّ سلسلة النفوس المجرّدة - ، وهم الملائكة المدبّرون السابقون - ، ثمّ النفوس المنطبعة ، ثمّ الصُور الطبيعيّة ، ثمّ الموادّ الجسميّة إلى أسفل السافلين - وهي غاية تدبير الأمر من السماء إلى الأرض - . ثمّ يعرج إليه ، وأخسّ الممكنات وأدناها منزلة في سلسلة العَوْد هو الجسم بما هو جسم ، ويليه في الخسّة الصّور العنصريّة ، ثمّ سلسلة الجمادات ، ثمّ النباتات ، ثمّ الحيوانات بنفوسها الحيوانيّة ومادّة أرواحها البخاريّة التي هي أجرام لطيفة شفّافة ، وأشرف أنواع الحيوان ؛ الإنسان نفساً وبدناً ، لأنّ الاسطقسات في بدنه امتزجت غاية الامتزاج ، حتّى انتهت بروحه التي هي جسم حارّ لطيف حاصل من صفوة الاخلاط تنبعث من القلب في التجويف الأيسر منه ، ثمّ اعتدلت في الدماغ اعتدالاً بالغا حتّى شابَهت الجرم الفلكي في صفائه ونقائه ونوره وضيائه ، وبُعده عن التضادّ الموجب للفساد ، فصارت مرآة للنفس الناطقة ، بها تدرك الوجود كلّه على هيئته التي كان عليها كلياً وجزئياً ، أمّا كلياته فبذاتها المجردة . وأمّا جزئيّاته فبهذه المرآة المجلوّة . فإنّ في الإنسان شيئا كالمَلَك ، وشيئا كالفلَكَ ، فمن حيث اعتدال مزاجه وعدم الأضداد فقد شابه السبع الشداد ، ومن حيث مفارقة صورته الموادّ القوابل ، يشاكل العلل الأوايل والعقول الفواعل . وأشرف الإنسان مَن بلغ في الشرف والبراءة إلى مرتبة السابقين الأوّلين من الملائكة المقرّبين ، فصار متّحدا بالعقل الفعّال اتّحاد العاقل بالمعقول ، كما ذهب إليه كثير من الحكماء ، وأشارت إليه كلمات الأولياء ، وشهدت عليه أذواق الصوفيّة ، وبُرهن عليه في الشواهد الربوبيّة . فانظر إلى اتّقان حكمة المبدع البديع ، وَجُود الصانع المنيع كيف بدأ بالوجود من الأشرف فالأشرف ، حتّى اختتم بالأجسام ، وانتهى إلى معدن الشرور والظلام ، ثمّ شرع في التلطيف والتشريف والإنارة والتصعيد والتكميل ، بإفاضة ثانية ولطف جديد ، ففتح فاتحة أخرى للجود والإفادة ، وأنشأ النشأة الثانية للإعادة ، وقد قال سبحانه : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] . فعكس الترتيب الأوّل من الأخسّ فالأخسّ ، إلى النفيس فالأنفس ، حتّى بلغ به إلى أرواح كالأملاك ، وأبدان كالأفلاك ، وهكذا إلى أن وقع الإختتام بروح أشرف الأنام ، خاتم الرسل المضاهي بنوره نور العقل الأوّل ، ولهذا المعنى قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . " أوّلُ ما خَلق الله نوري " . فتمّت به دائرة الوجود ، وعادت سلسلة الإفاضة والجود في النهاية حيث وقعَت منه [ في ] البداية ، وهو سبحانه المبدأ والمنتهى في البداية والرُجعى .