Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 8-10)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فأصحاب الميمنة ، هم الذين يؤتون صحايف أعمالهم بأيمانهم ، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤتونها بشمائلهم - وهما جميعا من أصحاب الأعمال ، والغالب عليهم القوّة العمليّة - ، لكن مبدأ أعمال الطائفة الأولى العقل العملي - كما مرّ - ، بوساطة الإدراكات الباطنة الجزئيّة كالتخيّل وما يجري مجراه ، وغايتها طلب الخيرات المظنونة والسعادات المقبولة ، ومبدأ أعمال الطائفة الثانية هو القوّة المحرّكة الحيوانيّة المسمّاة بالشوقيّة ، بوساطة الإدراكات الحسيّة ، وغايتها إمّا طلب الشهوة بالأكل والجماع وما يجري مجراهما ، أو الغضب بالغلبة والإنتقام وما يشبههما . وأمّا السابقون : فهم أعلى مرتبة من أن يكونوا من أهل العمل ، وإنّما شأنهم مشاهدة الحقايق ، وملاحظة عظمة الله وملكوته ، وقد شغلهم الله بمحبّته عن محبّة ما سواه ، وأغناهم عن الطعام والشراب ، وعن النظر إلى غيره ، فمنزلتهم منه منزلة الملائكة العلّييّن المجرّدين عن الأجرام كلّها ، وعن التعلّق بها ، سواء كانت من هذه الأجسام الكدرة الدنياويّة أو من الأجرام النورانية الأخرويّة . وعن الحسن : المراد من أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة : أصحاب اليُمن والشؤم لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم . " والسابقون " المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه ، وشقّوا الغبار في طلب مرضاة الله . والأوْلى ما ذكر أوّلاً . وهنا وجه آخر ذكر في كثير من التفاسير وهو : انّ أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار . وتحقيقه أن العالم بتمامه كشخص واحد ، لأنّ وجوده ظلّ لوجود الحقّ ، فله وحدة طبيعيّة جمعيّة هي ظل للوحدة الحقّة الإلهية ، وله روح واحد هو الروح الأعظم ، والعقل الأوّل المشتمل على مجموع الأرواح الكليّة العقليّة اشتمالاً عقليّاً ، وله كالإنسان جانبان : أحدهما : جانب اليمين ، وفيه الملكوت الأعلى ، وهي المدبّرات العلويّة المتعلّقة بالبرازخ النوريّة ، وفيها جنّة السعداء ، ومن ملائكتها من يسوقون عباد الله إلى رِضوانه ، ومنهم كتّاب حسناتنا يكتبون صحايف أعمالنا الحسنة ، وهم الملائكة العِلّيون ، وبأيديهم كتاب الأبرار : { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] . والكتابة عبارة عن تصوير الحقايق ، والكُتّاب هم المصوّرون الناقشون ، والصحيفة هي محلّ التصوير والنقش ، وكذا القلم هو الواسطة بين يمين الكاتب والكتابة . فالمراد من الكاتب هنا جوهر ملكوتي فعّال علويّ ، ومن القلم قوّته العمليّة المصوّرة ، ومن الصحيفة نفوسنا الناطقة الخالية عن النقوش في أوّل الفطرة ، ولا شكّ أنّ هذه الكتابة لا يمكن أن يشاهدها أحد بهذه الحواسّ الكَدرة الترابيّة البالية ، لأنّها مكتوبات غيبيّة وقعت في عالم الغيب ، لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون بالغيب ، ولا يعتمدون ولا يثقون إلاّ بوجود المحسوس بإحدى هذه الحواسّ . وثانيهما : الشمال ، وفيه الملكوت الأسفل ، وهي المدبرات السفلية سدنة البرازخ الظلمانية ، وفيها جحيم الأشقياء ، ولها طائفتان من الملائكة - كما في الأوّل - إحداهما السائقة لأهل النار إلى النار ، والثانية الكاتبة لأعمال السيّئات للفجّار ، لقوله تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] ، والطائفة الأولى منهما هي : { مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . والطائفة الثانية هي ملائكة بأيديهم أقلام من النار يكتبون المعاصي والشرور ، وأقوال الكذّابين وأهل الزور ، في صحايف لايقة للاحتراق بالنار ، لما فيها من الأخبار الكاذبة والكلمات الواهية الباطلة . كما في قوله تعالى : { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المطففين : 7 - 10 ] . وهذا الوجه قريب المأخذ ممّا ذكر أوّلاً ، وذلك لأنّ المراد من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال على الأوّل ، كلّ من أوتي كتابه بيمينه ، وكلّ من أوتي كتابه بشماله ، والمراد منهما على الوجه الأخير ، كلّ من كان مآله إلى الملكوت الأعلى وجنّة السعداء مع العلّيين ، وكلّ من كان مآله إلى الملكوت الأسفل وجحيم الأشقياء مع أهل السجّين ، ولا شبهة في أنّ من أوتي كتابه بيمينه كان حشره إلى ملائكة جانب اليمين والعلّيين ، ومن أوتي كتابه بشماله أو من وراء ظهره كان معذّباً بأيدي سدنة النار وزبانية الجحيم المعذبين لأهل النكال وأصحاب الشمال ، وكان في طبقات السجّين مع زمرة الشياطين ، فالمآل في الوجهين واحد . ولفظة " ما " في الموضعين للتعجّب ، عجب الله ورسولُه من حال الفريقين في السعادة والشقاوة . والمعنى : أيّ شيء هذه الطائفة في السعادة ، وأيّ شيء هذه الأخرى في الشقاوة . { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } : الأوّل مبتدأ والثاني خبره . وفي الكواشي السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمته ورضوانه . وفي الكشّاف : السابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم ، كقول أبي النجم : " أنا أبو النجم وشعري شِعري … كأنّه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت فصاحته وبراعته . وهنا وجهُ آخر ، وهو انّه كان ينبغي أن يقال : السَابِقون ما السَابِقون إلاّ أنّ الله تعالى أراد أن يصِفهم بوصف لا يُكتنه فقال هكذا ، فكأنّه قال : لا وصف لهم أفضل من هذا . وهذا من أوجه الوجوه . ومنهم من جعل الثاني تأكيداً للأوّل ، وجعل الخبر : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 11 ] وليس بذاك ، ووقف بعضهم على الأوّل وابتدأ بالثاني ، وليس بصواب ، لأنّه تمام الجملة ، وهو في مقابلة القولين الأوّلين .