Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 20-21)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يتخيّرون : يأخذون خيره . يقال : تخيّرتُ الشيء : أخذتُ خيره وأفضله . ويشتهون : يتمنّون . فإنّ أهل الجنّة إذا تخيّروا شيئا واشتهوه خلقه الله دفعة ، فإذا تمنّوا فاكهة - أيّ فاكهة كانت - ، تكوّنت بإذن الله كما تخيّروه . وإذا تمنّوا لحم الطير النضيج ، خلق الله لهم لحم الطير نضيجاً من غير حاجة إلى ذبح الطير وإيلامه . قال ابن عبّاس رضي الله عنه : يخطر على قلبه الطير فيطير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى . وهذه علم غفل عنه الأكثرون ، وأدركه المكاشفون إدراكاً علميّا ذوقيّا بعد أن اعتقدوه اعتقاداً إيمانيّا ، وربما يبلغ العارف إلى مقام يقال له مَقام : " كُنْ " في عرفهم ، فيكون هذا حاله ، وإن كان بعد في الدنيا مثل حال أهل الجنّة ، فما يقول لشيء " كُن إلاّ ويكون " . وروي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إنّه قال - حين كان في غزوة تبوك - كُن أبا ذر . فكان أبا ذر . وذلك لأنّ الله قد حوَّل باطنه في النشأة الأخرويّة ، بل ما من عارف بالله من حيث التجلّي الإلهيّ إلاّ وهو قبل النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ونُشر في قبره ، فهو يرى ما لا يراه الناس ، ويشاهد ما لا يشاهدون ، ويفعل ما لا يفعلون ، عناية من الله ببعض عباده . كما أعرب عنه بعض العرفاء حكاية عن نفسه - وبيانه ممّا يحتاج إلى إظهار لمعة من علوم المكاشفة قريبة المأخذ من علوم المناظرة - ، وهو أنّ الله سبحانه ، قد خلق النفس الإنسانية وأبدعها مثالاً له ذاتا وصفة - ولله المثل الأعلى - ، وفعلاً ، مع التفاوت العظيم بين المثال والممثّل له ، ولذلك جعل معرفتها وسيلة إلى معرفته ، كما يدلّ عليه الحديث المشهور : " مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَفَ ربّه " . فهي قد أبدعت مفتاحاً لمعرفة الله تعالى ذاتاً وصفة وأفعالاً ، لا لكونها مثالاً له كذلك ، أما الذات ، فقد خلقها الباري وجوداً نوريّا مفارقا عن الأجرام والأحياز والأوضاع في ذاتها . وأمّا الصفات ، فقد خلقت عالمة قادرة حيّة سميعة بصيرة متكلّمة ، وهذه كلّها صفات الله من حيث المفهوم . وأمّا الأفعال ، فذاتها عالَمها ، والبدن كأنّه نسخة مختصرة من مجموع العالَم الدنيوي - أفلاكه وعناصره ، بسايطه ومركّباته ، وجواهره وأعراضه - ، ولها أيضاً في ذواتها مملكة خاصّة شبيهة بمملكة بارئها ، مشتملة على أمثلة الجواهر والأعراض المجرّدة والماديّة ، وأصناف الأجسام الفلكيّة والعنصريّة ، وساير الخلايق يشاهدها بنفس حصولها فيها ، ومُثولها بين يديها ، شهودا إشراقيّا ، ومُثولا نوريّا . والناس في غفلة وذُهول عن عجايب الفطرة الآدمية وغرايب القلب الإنساني ، لاهتمامهم بعالَم المحسوس ونسيانهم أمر الآخرة ومعرفة الرب والرجوع إليه : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] . فمن جملة المضاهاة الواقعة بين الربّ والنفس ، أنّه جعلها ذات نشأتين : - الغيب والشهادة - ، كما انه عالم الغيب والشهادة ، وذات عالمين : المُلك والمَلكوت ، والخلْق والأمر - كما لهُ الخلْق والأمر - ، فأفعال النفس بإرادتها على ضَرْبَين ، فما يفعله باستخدام قواها البدنيّة وجنودها الجسمانيّة ، فهي متغيّرة متجدّدة ، لأنّها كائنة بواسطة الحركات وانفعلات موادّ الآلات ، والحركة لا تدوم لأنّها عين الحدوث والإنقضاء ، وربما تنقضي القوى والطبايع لكلال آلاتها وفتور موضوعاتها ، وأمّا ما يفعله بذاتها من غير توسّط القوى الطبيعيّة والآلات الجسمانيّة ، فهي أمور ثابتة محفوظة عندها ما دامت ذاتها تديمها وتحفظها بعد أن حصلت لها ملكة الحفظ والإسترجاع ، من جهة رجوعها إلى الباري ، واتّصالها بالملأ الأعلى والحفظة الكرام الكاتبين . فكذلك أفعال الله تنقسم إلى ثابتات ومتغيّرات ، مُبدعات وكاينات ، فعُلم من هذا أنّ الله خلق النفس الإنسانية ذات اقتدار على إيجاد صور الأشياء في عالَمها الخاصّ ، ومملكتها الغائبة عن هذا العالَم بمشيّتها وإرادتها ، لأنّها من سنخ الملكوت وعالَم القدرة والجبروت ، إلاّ أنّ ما تخترعه وينشأ في عالَمها ما دامت في هذا العالَم وصحبة الأعدام والقوى والملكات تكون حقيقة الوجود شبيهة بالأشباح والأظلال ، فإذا قويت ذاتها وقرُبت من مبدئها بقطع هذه العلايق الماديّة ، أصبحت مخترعة للصور الغيبية المناسبة لأخلاقها الحسنة أو السيّئة ، إمّا ملذّة أو موذية ، ولم تفارق الدنيا عن الآخرة إلاّ في كمال الصورة وقوّة وجودها هناك ، ونقصها وضعف وجودها هنا . فلو كانت للنفس قدرة تامّة على تصوير الصورة الملذّة في عالَم الحسّ ، كما لَها قدرة على تصويرها في عالَم الخيال ، لكان نعيمها كنعيم أهل الجنّة ، حيث تكون شهوتهم سبب تخيّلهم ، وتخيّلهم سبب إحساسهم ، فلا يخطر ببالهم شيء ينالون إليه ، إلاّ ويحضر عندهم دفعة . وإليها الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إنّ في الجنّة سوقاً تُباع فيه الصُور " . والسوق ، عبارة عن اللطف الإلهيّ الذي هو منبع القدرة على اختراع الصُور بحسب المشيّة ، وانطباعها ووجودها في العين وجوداً ثابتاً ما دامت المشيّة ، لا وجوداً هو بمعرض الزوال كما في منام هذا العالم . وهذه القدرة أكمل وأوسع من القدرة على الإيجاد من خارج الحسّ ، لأنّ الوجود من خارج الحسّ يشغل بعضها عن إدراك البعض ، ويحجب بعضها عن بعض لضيق عالَمه ، فإذا صار الإنسان مشغولاً بسماع واحد ورؤيته أو مماسّته ، صار مستغرقاً محجوباً عن غيره ، وأمّا هذه النشأة فتتّسع اتّساعاً لا ضيق فيه ، حتّى لو أراد أحد من أهل الجنّة أن يأكل جميع الفواكه لأكلها بعد أخطارها بباله ، ولو أراد كل أحد منهم أن يأكل ما يأكله غيره لوسعتهم لقمة واحدة ، فتحضر تلك اللقمة الواحدة في ساعة واحدة لألف شخص في ألف مكان ، وحمل أمور الآخرة على ما هو أوسع وأتمّ للشهوات وأوفى للدواعي والرغبات ، أوْلى . وممّا ورد في الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إنّه يأتي إليهم المَلَك بعد أن يستأذن في الدخول عليهم ، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله ، فإذا في الكتاب لكلّ إنسان مخاطب به : من الحيّ القيّوم الذي لا يموت ، إلى الحيّ القيّوم الذي لا يموت ، أما بعد : فإنّي أقول للشيء : كُن . فيكون ، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء : كن . فيكون . فقال : فلا يقول أحد من أهل الجنّة لشيء : كن . إلاّ ويكون " . قال بعض العرفاء : من أراد أن يعرف كماله فلينظر في نفسه ، في أمره ونهيه وتكوينه ، بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره ، فإن صحّ له المضاء في ذلك ، فهو على بيّنة من ربّه في كماله ، فإن أمر أو نهى أو شرَع في التكوين بواسطة خارجة فلم يقع ، أو وقع ولم يعم ، مع عموم ذلك بترك الواسطة فقد كمل ، ولا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة ، فإنّ الصورة الإلهيّة بهذا ظهرت في الوجود ، فإنّه تعالى أمر عباده على ألسنة رسله وفي كتابه ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى ، وبارتفاع الوسايط لا سبيل إلاّ الطاعة خاصّة ، ولا يتمكّن من إبائه . قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " يد الله مَع الجماعة " . وقدرته نافذة ، ولهذا لو اجتمع الإنسان في نفسه حتّى صار شيئاً واحداً أنفذت همّته فيما يريد . وقال أيضاً في فصوص الحِكم : " بالوهم يخلُق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلاّ فيها ، وهذا هو الأمر العامّ ، والعارف يخلُق بالهمّة ما يكون وجوده في خارج محلّ الهمّة ، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ولا يؤودها حفط ما خلقه ، فمتى طرأ على العارف غفلةً عن حفظ ما خَلق ، عدم ذلك المخلوق " . وقال أبو علي في تعليقاته : " كلّما كان أشدّ تصوّراً يكون أتمّ فعلاً ، إلى أن ينتهي إلى الأوّل الذي ليس فيه شيء بالقوّة ، فيلزم أن يصدر عنه كلّ موجود ، والنفس ما دامت تصوّراتها بالقوّة ، لا يصحّ صدور فعل عنها إلاّ بصوِّر يصوِّر لها الأشياء ويُخرجها من القوّة إلى الفعل ، والكواكب تؤثر في نفوسنا دون العكس ، لأنّها غير متشعّبة القوى ، ونحن قوانا متشعبّة يصدّ بعضها عن فعل بعض بالتمام ، ويشغلها عنه كما تشغل الحواسّ القوى الخياليّة عن فعلها بالتمام ، وإذا لم يشغلها تمّ فعلها ، كالحال في المنام ، والكواكب قواها غير متشعبّة ولا صادّة بعضها بعضا ، بل كأنّها قوّة واحدة ، فالباصرة فيها هي القوّة السامعة ، وهي القوّة المصوّرة ، فكأنّها متوفّرة على قوّة واحدة ، فلهذا تؤثّر فينا ولا نؤثّر فيها " . - انتهى - . والحاصل أنّ مبدأ صدور الأفاعيل ، هو تصّورات المبادئ ، سواء كانت الأفاعيل دنيويّة أو أخرويّة ، بشرط قوّة الهمّة وشدّة جمعيّة القوى ، فلمّا كان تفرّق القوى وتوزّع الدواعي مرتفعا في الآخرة - لكون الانقسام والتفرّق من خواصّ هذه النشأة - ، فلا محالة يكون هناك للنفوس الكاملة اقتدار تام على انشاء كلّ ما يتمنّونه ، واختراع كلّ ما يتخيّرونه من الصور المستلَذّات كالحور والقصور ، والشراب والسلسبيل والزنجبيل ، فلكلّ نفس سعيدة عالم مثل هذا العالَم ، إلاّ أنّ عالَمه أشرف وأصفى ، لكون موضوعه الجوهر النوريّ النفسانيّ ، وموضوع هذا العالَم المادّة الكثيفة الظلمانيّة ، وهذا اقلّ الدرجات وأدنى المنازل لِعوام أهل الجنّة ، ولمن ينجو من عذاب النيران بالشفاعة أو التفضّل ، وللجنّة طبقات بعضها فوق بعض .