Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 62-62)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إعلم أنّ من علم وتفطّن بصنعة الباري ومسلك عنايته وحكمته في وجود النشأة الأولى للإنسان ، ومذهب طبيعته وقوى نفسه في التدرّج في الأحوال ، والترقّي من صورة إلى صورة عند الاستكمال - حيث ابتدىء أوّلاً من تراب ثمّ من نطفة ، ثمّ من ماء مهين ، ثمّ كان علقة جامدة في قرار مكين ، ثمّ كان مضغة مخلّقة ، ثمّ كان جنينا مصوّراً تامّا ، ثمّ كان طفلاً متحرّكا حسّاسا ، ثمّ كان صبيّا ذكيّا فهيماً ، ثمّ شابّاً متصرفّاً قويّاً نشيطاً ، ثم كان كهلاً مجرّبا ، ثمّ كان شيخاً كاملاً إمّا في الحكمة والمعرفة فيكون حكيما أو وليّا من أولياء الله ، ثمّ بعد الموت يكون مَلَكا سماويّا أو من الملائكة المقرّبين ، أو في المكر والجربزة فيكون محتالاً مكّاراً عدوّا للدين من أعداء الله ، ثمّ يكون بعد الموت شيطاناً مريداً لعنه الله ، محشوراً في حزب الشياطين وأصحاب النار ، وإمّا في طلب اللذّات الحسيّة من الشهوة والغضب ، فيكون إمّا ظالماً محشوراً بعد الموت في صورة السباع والحيّات ، أو فاجراً محشوراً في صورة البهائم والحشرات ، فيعلم يقينا أنّ للانسان نشأة أخرى فوق هذه النشأة الأولى ، بل الدنيا والآخرة واقعتان تحت جنس المضاف بحسب المفهوم ، فتعقّل كلّ منهما وتذكّره يستلزم تعقّل الأخرى وتذكّرها . فإنّ الدنيا عبارة عن حالتك القريبة قبل الموت ، والآخرة عن حالتك البعيدة بعد هذه الحياة ، فكلّ منها مقيسة إلى الأخرى ومضافة إليها . وكما أنّ للإنسان أطواراً متفاوتة في الدنيا - بعضها فوق بعض - ، كذلك له مواطن وأطوار متفاوتة في الآخرة ، بعضها صوريّة وبعضها معنويّة ، يسافر في مواطن الآخرة ، وتتوارد عليه الأمثال ، وتتعاقب له الأحوال ، مثل : العَرْض والحساب والميزان والكتاب والصراط والأعراف والجنّة والنار . ويحتمل أن يكون المراد : إنّك يا إنسان ، لمَا علّمتك نشأتك الدنيوية ، وحالتك الدنيّة الأولى التي قد وقعت لك فيها الانتقالات من رتبة إلى رتبة فوقها ، فكنت أوّلاً جماداً ، ثمّ نباتا ، ثمّ حيوانا ، ثمّ بشراً سويّا سميعا بصيرا متفكّراً ، ولم تنتقل من رتبة من هذه المراتب إلاّ وقد خلعت عنك صورة خسيسة وأعراض ناقصة ، وألبست ما هو أجود منها وأشرف ، فكذلك ينبغي لك ويجب عليك أن لا تتوانى عن استعمال القوّة العاقلة التي هي آخر ما حصل لك في هذه النشأة ، في تذكّر أمور الآخرة ، وأنّ الغايات كانت بازاء البدايات ، ومعرفة من منه الابتداء وإليه الرجوع للكلّ . فلا ترقى درجة العلوم والمعارف ، إلاّ وتخلع عن نفسك أخلاقاً وعادات وأعمالاً كنت معتاداً عليها منذ الصّبا من غير بصيرة ولا رويّة ، حتّى يمكن أن تفارق هذه الصورة البشريّة ، وتلبس لباس الأخيار وتتصوّر بصور الملائكة ويمكنك الصعود إلى المنازل العالية ، والترقّي إلى المراتب الجنانيّة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا . وقرئ : النشأة والنشاءة . وفي الكشّاف : إنّ في هذه الآية دليلاً على صحّة القياس ، حيث جهّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى . ولا يخفى أنّ هذا ليس من باب القياس ، فإنّه من باب ملاحظة النهايات من البدايات ، والاستدلال من ذوي الغايات على غايتها تؤول إليها ، فكما أنّ النشأة النباتيّة غاية النشأة الجماديّة ، والحيوانيّة غاية النباتيّة ، والحياة العقليّة غاية الحياة الحسيّة وكمالها ، فكذلك النشأة الأخرى غاية النشأة الأولى . فمَن نظر إلى ترتيب الأمور ، وتفاوت الموجودات في مراتب الشرف والخسّة ، والكمال والنقص ، ووجد أنّ لكل ناقص خسيس توّجها غريزيّا إلى ما هو أقرب منه إلى الشرف والكمال ، ثم نظر إلى حال الإنسان فوجد أنّ له انتقالات من صورة إلى صورة فوقها ، واستحالات من صفة إلى صفة يعلم علما يقينيّا أنّ له نشأة ثانية باقية يقع له فيها الرجوع إلى موجد الكلّ وغاية الجميع . وهذا استلال برهاني ومسلك شريف جدّا ، فإنّ الله تعالى قد ذكره ونبَّه عليه في مواضع كثيرة تعليما لعباده : منها ما قال في سورة الحج : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [ الحج : 5 ] - إلى قوله - { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ } [ الحج : 5 ] ثم قال : { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [ الحج : 6 - 7 ] . وقال في سورة المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 15 - 16 ] . وقال في سورة لا أقسم : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } [ القيامة : 37 - 38 ] . وقال في سورة الطارق { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } [ الطارق : 5 ] إلى قوله : { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] . فهذا المسلك في معرفة المعاد ، ليس قياساً فقهيّا كما توهّم ، إذ القياس الفقهيّ من أضعف الأدلة وممّا لا يفيد إلاّ ظنّا ضعيفا . ثمّ القياس على تقدير صحّته إنّما يصحّ في العمليّات ، إذ الغرض فيها مجرّد العمل - دون الاعتقاد - فكفى فيه الترجيح بالاجتهاد ، وأمّا العقايد الحقة الدينيّة - سيّما معرفة المبدأ والمعاد - فيجب على كلّ مكلّف تحصيل اليقين فيها ولا يكفي الظنّ . وقد ذمّ الله تعالى أهل الظنّ والتخمين في قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] .