Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 63-67)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد نبَّه الله سبحانه في هذه السورة على ثبوت المعاد وحقيَّة حشر الأجساد بوجوهٍ مختلفة ، بعضها لدفع شُبه الجاحِدين المنكرين والضالّين المكذّبين ، وبعضها لزيادة تنوير قلوب أهْل الدين : منها قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } [ الواقعة : 58 ] - الآية - ، وقد مرَّ وجه الاستدلال به . ومنها : إنّ الحبّة المزروعة جوهر جامد أرضيّ ، غاية فعل الإنسان فيه أن يدفنه في التراب ويسقيه الماء ، وغاية في التراب فيه أن يفسده ويعفنه ويجعله تراباً مثله ورماداً - كما يفعل بأجساد الحيوانات - ، وكذا فعل الماء في الأشياء ، فإنّ فعل طبيعة الحبّة المزروعة في مادّتها التثقيل والتسكين ، لا الاصعاد إلى جانب السماء ، ثمّ الإثمار والإيلاد بعد حصول النشوء والنماء ، فلولا أنّ الله أفادها بمحكمته قوّة أخرى باطنيّة ، وكلمة فعّالة ملكوتيّة يفعل بها ما يغذّيها أوّلاً ، ثمّ ينميها ثانياً ، ثمّ يولّدها ثالثاً بما يقع منه الانتفاع بجنود وأعوان ، وخدم منتشرة فيها يستخدمها ثلاثة رؤساء : - الغاذية والنامية والمولّدة - ، لكانت إمّا رماداً ، أو هشيما تذروه الرياح ، أو حطاماً لا ينتفع به حيوان في مطعم ولا في ملبس ، أو تِبناً لا نفع فيه ولا غذاء منه ، فثبت تحقّق عند العارف المحقّق ، أنّ الله قد أودع في موادّ الكاينات قبول فنون من الصور والكمالات والقوى والكيفيّات ، وأودع بعنايته وحكمته في صورها توجّها طبيعيّا إلى ما هو أشرف وأقرب إلى أفق النور وعالَم الرحمة والسرور ، ثمّ أفاض عليها رحمة بعد رحمة ، وهداية بعد هداية ، حتّى أوصلها إلى غايات درجاتها ، ونهايات حركاتها ، وهكذا إلى أن تنتهي حركاتها وانتقالاتها إلى الحيوانيّة ثمّ إلى الإنسانيّة ، وكلّما حصل فيها كمال أتمّ وصورة أقوى ، كان عشقها وشوقها إلى ما هو كمال وغاية لها أكثر وأشد . فإذاً ، ثبت وتحقّق ، أنّه لا يجوز أن تقف حركة الوجود عند الإنسان وتسكن لديه ولا تتجاوزه إلى ما هو خير حقيقي ، لنقصانه ما دام في الدنيا عن تمام الارتقاء إلى عالَم الدوام والبقاء . فقوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } أي : تبذرون حبوبه في الأرض ، وقوله : { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي : تنبتونه وتغذونه وتنمونه ، وتجعلونه في أطوار الخلقة ، وتبلّغونه إلى أن يبلغ الغاية ويصل النهاية . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " لا يقولنّ أحدكم زرَعت ، وليقل حَرَثْت " . وسبب نهيه عن ذلك ، الاشتباه الواقع للناس بين المُعِدّ والموجِد كما مرّ . وقوله : { فَظَلْتُمْ } - وقرئ فَظَللْتُم ، على الأصل ، { تَفَكَّهُونَ } : أي تتعجبون ممّا نزل بكم في زرعكم حيث جعل حطاماً وصار هشيماً لا ينتفع به . وعن الحسن وقتادة وعكرمة : تندمون على تعبكم فيه وانفاقكم عليه ، وأصله من التفكُّه في الحديث ، وهو التلهّي به . فكأنّهم يترّوحون إلى الندم كما يترّوح الفِكه إلى الحديث بما يزيل الهمّ . وقرئ : يتفكّنون . وفي الكشّاف : منه الحديث : مثَل العالِم كمثَل الحمّة يأتيها البعداء ويتركها القرناء ، فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون . أي : يتندّمون . وقوله : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } : وقرئ : لأنّا - أي لملزمون غرامة ما انفقنا فيه ، أو مهلكون - لهلاك رزقنا - من الغرام وهو الهلاك . وقوله : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } - أي : قوم مبخسون ممنوعون من الرزق ، عادِموا الخطّ والبخت ، ولو كنّا قوماً مجدودين غير محارفين لما جرى علينا ذلك .