Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 77-78)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقرئ : " المتطهّرون " ، و " المُطَّهرون " بالإدغام و " المطّهرون " من أطهره بمعنى طهره ، والمطهرون بصيغة الفاعل بمعنى أنّهم يُطَهرون أنفسهم أو غيرهم بالتعليم والاستغفار لهم ، إذ القرآن الكريم عند الله ، لكونه كلام الله ، يتكلّم به خواصّ ملائكته وصفوة أنبيائه في الدنيا ، وخواصّ عباده المؤمنين في الآخرة ، لدلالة قوله وَلا يُكلِّمهم الله عليه بالمفهوم ، ولأنّه رفيع المرتبة مصون عن النسخ ومحفوظ عن التغيير والتبديل لكونه علما بحقايق الأشياء التي لا تتبدّل بتغيير الملل والمذاهب ، فهو عند الله شريف المنزلة . وقيل : إنّه كريم بمعنى أنّه كثير المنفعة ، وهو أيضاً حقُّ لأنّه عامّ المنافع كثير الخيرات والبركات ، ينال الأجر العظيم بتلاوته تاليه ، ويفوز بالثواب الجسيم العامل بما فيه ، ولكونه نوراً يهتدى به في ظلمات الأرض كما قال : { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] والنور كثير البركة لكونه حِكْمة ، والحكمة مفتاح كلّ سعادة لقوله : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . وقيل : إنّه كريم ، بمعنى إنّه حسن مرضيّ في جنسه ، لأنّه معجزة للنبي الكريم المشتمل على كلّ دقيق وجليل من العلوم ، وعلى المواعظ والأحكام ، والإخبار عن المغيّبات . في كِتَاب مَكْنُونٍ - أي : مستور ما فيه عن الخلْق ، لكونه من عالم الغيب ، والخلق من عالَم الشهادة ، بل مصون من أعين غير المقرّبين من الملائكة لا يطّلع عليه من سواهم ، وسوى مَن وصل إلى مقامهم من الأنبياء المصطفَين ، وذلك الكتاب هو اللوح المحفوظ عن المحو والتغير والنسخ ، لأنّه جوهر مجرّد عال عن عالَم الأجرام التي يتطرّق إليها الكون والفساد وعن عالَم الألواح القدريّة التي يعتريها المحو والإثبات ، وأرواحها التي يجري فيها النقل والتغيير والتبديل والنسخ ، فهو بجوهره عالم عقليّ محلّ للقضاء الإلهيّ ، ولوح كلّي مكتوب فيه جميع ما قضى الله بقلم الحقّ الأعلى كما في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . " إنّ الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلْق : إنّ رحمتي سبقت غضبي " . فهو مكتوب عنده فوق العرش بقلم القدرة الإلهيّة - وهو المسمّى بـ " أمّ الكتاب " لقوله : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] لأنّ جميع العلوم الحقّة الموسومة باللَّدُنيّة - التي لا تعلم إلاّ بتوفيق الله - ثابتة فيه فائضة منه بإفاضة الله على قلب من يشاء من عباده ، كما قال : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 - 5 ] { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] . فكما أنّ عالَم اللوح القضائي - وهو مجموع الجواهر العقليّة والأرواح المفارقة بالكليّة التي هي مفاتيح الغيب لقوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] - محلّ القضاء الإلهي ، وهي أيضاً خزائن ما في علم الله ، فالعالَم النفسانيّ بجرمه السماويّ محلّ القدرة لقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] . فمحلّ حصول المعلومات الكلّية هو عالَم النفوس الناطقة وإنّما ترتسم صورَها في الألواح القدريّة على سبيل التنزّل ، إذ الصور الكليّة العقليّة في عالَم القضاء في غاية الصفاء لا تتراءى ولا تتمثّل في معلوميّتها لِما تحتها لشدّة نوريّتها وجمالها ، كمرآة مضيئة ترد البصر عن ادرك ما فيها من الصور بشعاعها ، فتنتسخ تلك الصور منه في لوح النفس الناطقة الكليّة التي هي قلب العالَم ، كما ينتسخ بالقلم في اللوح صوراً معلومة مضبوطة بعللها وأسبابها على وجه كلّي . وهذا مثل ما يظهر في قلوبنا عند استحضارنا المعلومات الكليّة كالصور النوعيّة في باب حدود التصوّرات ، وككبرَيات القياس في باب براهين التصديقات عند الطلب للأمر الجزئيّ المنبعث عنه الإرادة للفعل والعزْم عليه ، وذلك الأوّل كالعلم الإجمالي الذي لنا ، وهو عقل بالفعل تنشأ منه الصور الكليّة عند الاستحضار ، ثمّ ينتفش من عالَم النفوس الناطقة الكليّة في النفوس الحيوانيّة السماويّة والحسّاسة المنطبعة في أجرامها نقوش جزئيّة متشخّصة بأشكال وأوضاع معيّنة ، مقارنة لاوقات مقدّرة من لواحق المادّة على ما يظهر في الخارج . وهذا كما ينتقش في قوّتنا الخياليّة كالصوَر الشخصيّة ، وكصغيرات القياس - ليحصل بانضمامها إلى كبرياتها نتيجة جزئيّة ينبعث منه رأي جزئيّ يحصل عنه قصد جازم إلى فعل معيّن فيجب عنه حصوله في الخارج . وذلك العالم هو لوح القدر ، وخيال العالم ، وكتاب المحو والإثبات ، لأن جزئيّات العلوم متبدّلة فيه وكلّياتها مضبوطة فيما فوقه ، لقوله تعالى : { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] . وهذا الكتاب أيضاً يسمّى بالدفتين الزمردتين ، وبالسماء الدنيا التي نزل إليها القرآن الكريم أوّلاً من اللوح المحفوظ وغيب الغيوب ، ثمّ ظهر في عالَم الشهادة ، فقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } إشارة إلى المرتبة الجمعيّة الإلهية الموسومة بـ " القلم الأعلى " و " العقل الأوّل " أعني العقل الإجمالي الذي هو فعّال صور المعقولات في العقول والنفوس . وقوله : فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ - هو اللوح العقلي المحفوظ عن التجدّد والتغيّر وفيه علم الفرقان . وإنّما وصف القرآن بالكريم - دون الفرقان - لأنّه العقل البسيط الذي تنشأ منه الصُور العقليّة التفصيليّة ، وتتأخّر منه العلوم الاستحضاريّة تأخُّر المعلوم عن العلة والمركّب عن البسيط ، وإنّما هو العقل الفعّال ومجده بالعقل القرآني لا بالعقول الفرقانيّة .