Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-76)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" لا " زائدة من قبيل قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] وقيل : " لا " يزاد في القسم ، فيقال : " لا والله " و " لا وعمرِك " وكقول امرئ القيس : @ لا وأبيكِ ابنةَ العامري لايدّعي القومُ انّي أفِرّ @@ وقيل : " لا " ردٌّ لما يقوله الكفّار في القرآن إنّه سحر مفترى أو كهانة ، ثمّ استأنف الكلامَ وأقسم . وقيل : " لا " مثبتة ، والمعنى : لا أقسم على هذه الأشياء فإنّ الأمر أظهر من أن يحتاج فيه إلى اليمين . ومَواقِع الْنُجُوم ، قيل : هي مساقطها أو مغاربها ، وجّهه في الكشّاف بأنّه لعلّ لله في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى الغروب أفعالاً مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصولة ، أو لأنّه وقت قيام المتهجّدين والمبتهلين إليه . وفيه ما لا يخفى من الخدش : فإنّ سقوط النجم وغروبه لا يختصّ بآخر الليل ، بل ما من وقت إلاّ ويكون فيه أفول نجم وغروب نوره في الأفق . وقيل : أراد بمواقعها منازلها ومساراتها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظمة القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف ، ولا يبعد أن يكون المراد بها النجوم أنفسها لأنّها مواقع قدرة الله ومنازل جوده وحكمته بأن تكون الإضافة بيانيّة . أو يراد بالنجوم نفوسها المنورة . وبالمواقع أجرامها التي هي مواقع تلك الأنوار - فتكون الإضافة لاميّة - . وفي الشواذّ قرأ الحسن والثقفي " فَلا أقسم " بمعنى : " فَلاَنَاً أقسِم " بلام ابتدائيّة دخلت على جملة مِن مُبتدأ وخبر ، ثمّ حذف المبتدأ وهو " أنَا " وليس لامُه للقسم لعدم اقترانها بالنون المؤكّدة - كما هو دأبهم - ولأنّ فعل القسم يجب أن يكون للحال وجوابه للاستقبال . وقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } جملة وقعت اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه وهو قوله { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] . " ولو تَعلَمونَ " اعتراض بين موصوف وصفة ، فهو اعتراض في اعتراض . وإنّما وصف هذا القسم بالعظمة المقسَم به ، فإنّ الله سبحانه قد عظَّم أمر السماء وما فيها من الكواكب ، فكم من سورةٍ يشتمل على تفخيمها في مواضع ، وكم من قسم أقسَم به القرآن كقوله : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [ البروج : 1 ] { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [ الطارق : 1 ] { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 1 - 2 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [ النجم : 1 ] . وذلك لشرفها ونوريّتها وملكوتها ودوام دورتها وطاعتها لله تعالى ، وسرعة حركاتها الدوريّة والإراديّة في طلب الحقّ الأوّل وتلألؤ جماله وورود إشراقاته عليها لا لداعٍ حيواني من شهوة أو غضب أو التفات لها إلى ما دونها . فلها في كلّ إشراق أشواق ، وفي كلّ شوق وجْد ورقص وخضوع ، ولكلّ حركة وسجود وركوع لمعة أخرى وشروق نور آخر ، فهكذا تدوم الإشراقات العقليّة بدوام الحركات الدوريّة ، وتدوم الحركات الشوقيّة بدوام اللمعات الإلهيّة ، وما من موضع في السماء إلاّ وفيه مَلَك ساجد وراكع من نفس أو عقل . ولعلوّ منزلتها وقربها من أفق الإلهيّة أقسم الله تعالى بها وأحال الأرزاق إليها ، فقال : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ومدح الناظرين في أمرها ، وأثنى على المتفكّرين في خلقها القائلين : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [ آل عمران : 191 ] . " وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا نظر إلى السماء والكواكب وقرأ قوله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 164 ] . - الآية - : " ويل لمن قرأ هذه الآية ثمّ مسح بها سِبْلته " أي : قرأها وتجاوزها من غير أن يتأمّل فيها ويتدبّر في ملكوتها . وليس معنى المتفكّر أن يعرف أحد رزقة السماء وضوء الكواكب كالعوام والأنعام ، أولاَ ترى أنّ الله تعالى قد ذمَّ المعرِضين عن التدبّر في آياتها فقال : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] . فعُلم أنّ معنى النظر إلى ملكوت السموات ليس بأن يمتدّ البصر إلى شكلها أو زرقتها وضوء الكواكب وحركتها من غير أن يتفطّن بمحرِكها ومحرِّك محرّكها - وهكذا - إلى أن ينتهي النظر إلى لمعات أنوار الربوبيّة ، ومعاني الأسماء الإلهيّة ، فيرتقي إلى عالَم الأسماء من عالَم السماء ، بأن يعلم أنّ كلّ جرمٍ سماويّ له طبع ونفس وعقل وسام آلهي متّصل به الكلّ . فإن كان مجرّد ذلك هو المراد ، فلِمَ مدح الله خليله إبراهيم ( ع ) خاصّة بقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] ، بل كلّما يدركه بحاسّة البصر وساير الحواسّ فهو من الدنيا - وتشترك فيه البهائم مع الإنسان - والقرآن يعبّر عنه بالمُلك والشهادة ، وما غاب عن ادراك الحواسّ فهو من الآخرة ويعبّر عنه بالغيب والملكوت . والله تعالى عالِم الغيب والشهادة فلا يُظْهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى من رسول ، وهو جبّار المُلك والملكوت فلا يستطيع أحد أن ينفذ فيهما إلاّ مَن اصطفى مِن نبي : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] . أي : بنورٍ قاهر . قال المسيح الممسوح بنور الله : لَن يلج ملكوت السماوات مَن لم يولد مرّتين - مرّة من رحم الموادّ ومرّة من مشيمة الحواسّ . واعلم أنّ ارتباط هذه الآية بما سبق ، أنّه سبحانه لمّا ذكر موادّ خِلْقة الإنسان وأسباب غذائه الجسمانيّ الذي به قوام بنيته ونشأته الدنيويّة من العناصر الأربعة ، وذكرها على الترتيب من الأسفل الأخسّ إلى الأعلى الأشرف حتّى بلغ إلى ذكر ما هو أشرفها وأقصاها - وهي النار - ، فذكر حكمتها ومنفعتها وحاجة الخلْق إليها ، فأراد ان يهدي الناس إلى معرفة السماء ومواقع النجوم ، لأنّها منشأ أرواح بني آدم ومادّة ميلاد نفوسهم في نشأة المعاد وعند قيامهم عند الله لأنّ روح الإنسان إنّما تتغذّى بمعارف القرآن وتحيى بحياة العلم والعرفان . والقرآن بما فيه من العلوم الحقّة والمعارف الإلهيّة إنّما ثبت أوّلاً من القلم الأعلى في اللوح المحفوظ ، وهما من السماوات العُلى ، ثمّ نزل إلى هذه السماء الدنيا مُنَجمّاً ، ولهذا فسَّر بعضهم مواقِع النجوم بأوقات نجوم القرآن - أي : أوقات نزولها - وانّما لم يقسم بتلك الأجسام العنصريّة مع ما فيها من عجايب القدرة ، وأقسم بهذه المواضع لِعظم أمرها وشرف ملكوتها ، فأيّ نسبة لجميع العنصريّات إلى السماء وما فيها من الكواكب وملكوتها ومن أدرك الكلّ وفاتَه عجايب ملكوت الله واعداد حكمة الله فيها فقد فاتَه الكلّ تحقيقاً ، إذ هو الأمر كلّه ، فالأرض والبحار والهواء وكلّ جسم سوى السماويّات بالإضافة إليها كقطرة في بحر عظيم .