Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 17-17)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قيل : يحييها بالنبات بعد يَبْسها وجدوبتها ، فكذلك يحيي قلب الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالضلال والكفر . وقيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وإنه يحييها كما يحيي الغيثُ الأرضَ . وقيل : معناه : إن الله يلين القلوب بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات . قد بينّا لكم الآيات - : من شواهد العقل والنقل ، كالحجج الواضحات ، والدلائل الباهرات - لعلكم تعقلون - : فتعلمون بمقتضاها وترجعون إلى العبودية التامة . مكاشفة إعلم أن مرجع هذه الأقوال الثلاثة إلى شيء واحد في المثال والممثل له جميعاً ، فإن الأرض مثال للنفس الناطقة الإنسانية ، المعبّر عنها بالقلب الحقيقي ، لتقلّبها بالأحوال ، لا الجسم الصَنَوبري الموجود في الحمير والبغال ، وموتها مثال لكونها هيولانية ليس فيها شيء من المعارف والعلوم الحقّة التي بها تستتم حقيقة الإنسان ، أو بتوسطها وإعدادها يستعد للحياة العقلية . والآيات المبينة له ، إشارة إلى المقدمات اليقينيّة التي يتوسل بها في تحصيل الكمال العقلي ، وهو صيرورته عقلاً وعاقلاً بالفعل ، بتأييد من الحق الأول بواسطة بعض الملائكة العلاّمة الفعّالة للحقائق بإذنه تعالى . وهذه الحياة العقلية هي التي وقعت الإشارة إليها بقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [ البقرة : 154 ] . { عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 169 - 170 ] . وظاهر أن المراد من الحياة التي تكون عند الله ، هي الحياة المعنوية دون الجسمية ( الحسية ) . والمراد من رزق الله : أن يكون عنده رزق المعارف والعلوم التي بها تتغذّى وتتقوّى الأرواح المقدسة ، لا الأغذية الجسمية التي تنمو بها الأجسام المحسوسة ، كما في قوله : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 131 ] . وإن أردت حقيقة المقال في بيان النفس الإنسانية ومراتبها في الاستكمال ، وبلوغها إلى حد الكمال ، فعليك بمطالعة ما بيّناه في معرفة النفس في كتاب " المبدأ والمعاد " ، فإنها من الغوامض التي قلّما يصل إليها - إلاّ من أيّده الله تعالى بنور الكشف والشهود - ، ولا يذكر من علم النفس في كتب الحكماء إلا قدر يسير ومرتبة نازلة منه ، مناسبة لمباحث الطبيعة وأحوال البدن ، وذلك القدر اليسير أيضاً قرّة عين السالكين ، وقد غفل عنه الجمهور كغفلتهم عن سائر المعارف الضرورية في سلوك سبيل الحق . ومما يجب لا أقلّ على كل عارف ( عاقل - ن ) ، أن يعرف من أحوال نفسه التي هي مرقاة إلى معرفة الله سبحانه ، إنها جوهر ملكوتي من شأنها أن تعرف ربها ، ويتقرّب إلى الله تعالى ، ويعلم أن من الله مبدأها ، والى الله منتهاها ، إذا سلكت طريق الحق ، واكتسبت المعارف الحقيقية والعلوم ، ويعلم أنها غير البدن الذي أوّله نطفة مَذِرة وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما حامل العذرة ، ويعلم أيضاً أن جهلها موتها وهلاكها في الآخرة ، - كما ذهب إليه كثير من الحكماء والعرفاء - ، وان حياتها الأخروية عبارة عن وجود نور مستفاد هو مبدأ للتعقلات ومنشأ لفعل الخيرات ، كا ان حياتها الدنيوية البدنية عبارة عن كونها منشأ الإحساس والتحريك ، وهو نور يقذف من الحق الأول فيها فينفعل منه كما ينفعل من نور الشمس وجهُ الأرض ، فأشرقت بها كما أشرقت الأرض بنور ربها ، فعند ذلك تظهر بها الحقائق والماهيات التي ليست معقولة بذاتها ، كما تظهر بضوء النهار الأجسامُ الأرضية المظلمة الذوات ، المستنيرة بنور الشمس ، وحينئذ يستعد للاتصال بالملأ الأعلى وعالم القُدس . ولما كان كل ما يخرج من القوة إلى الفعل ، ومن الموت إلى الحياة ، ومن الظلمات إلى النور ، يخرج بسبب متوسط بينه وبين الله ، لكونه تعالى في غاية الوحدة والإشراق والعظمة ، لا يحتمل شدة نوريّته النافذة في العالم ، ضعفاءُ البصائر والأبصار إلا بمتوسط عقلاني وعالم رباني ، ورسول من الحق إلى الخلق - كالملائكة للأنبياء ، والأنبياء للخلائق - فيجب أن يخرج هذه القوة الميّتة الهيولانية بشيء يكون كاملاً بالذات ، فعّالاً للمعقولات ، والأنوار العقلية كالشمس الفعّالة للأنوار المحسوسة ، وليست فيه شائبة نقص وآفة وقوة إلاَّ الإمكان الذاتي الذي هو اعتبار ما في الذهن وقد صار مخفياً تحتي سطوع النور الأول الحق ، بحيث يمتنع ظهوره من كتم الخفاء ، لتحقق هذا الجوهر العقلي بالوجود الحقاني ، واتصافه بالوجودِ الإرتباطي ، ولكونه تعالى قهّاراً للعدم بالوجود والتحصيل ، جبّاراً لما بالقوة بالفعل والتكميل ، فما يفيض منه سبحانه على سنّة الإبداع ، هي أوائل الموجودات والماهيات في ملاحظة جماله وجلاله ، لا التفات لهم إلى ذواتهم النورية المنورة بنور الأول تعالى ، فضلاً عن غيرهم من عالم الأجسام والظلمات . فتلك الطبقة العليا من الجواهر المفارقة ، أنوار عقلية لا ظلام في عالمها ، وصباحات ضوائية لا ليالي لها ، وإنما توجد من الطبقة التالية العرضية التي هي في صف آخر من صفوف العقول والملائكة القادسة ، وهم الأدنون في أسافل العالم الجسماني ليال عشر ، من غير التفات منها إلى ما دونها ، بل عند التفاتهم إلى ذواتهم المستنيرة بنور الحق الأول ، المشاهدة له سبحانه ، وقعت منهم ظلال الأجسام الكلية وليالي الهيوليات العشر - تسع للأفلاك ، وواحدة للعناصر وما يتركب منها - ، وكما يفيض مما يلينا منهم والأقرب بالقياس الينا هيولى هذا العالم السفلي ، فكذلك يفيض منه على القوابل والأراضي العقلية والحسية بما فيه من آثار رحمة الله الصور والنفوس والهيآت والنقوش من كمالاتها الثانوية كما في قوله : { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] . { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الروم : 19 ] . فمن هناك تفيض على أرواحنا العلوم الحقة والمعارف اليقينيّة الحاصلة فيها من ذلك العالم ، إذ من المتحقق أن صور جميع ما أوجده الله تعالى حاصلة في عالم الجبروت على وجه مقدس ، لا يشاهد بهذه العين الداثرة ، فذلك الفيّاض للعلوم والمعارف ، المكمل للأرواح والنفوس ، وهو المسمى بـ " روح القدس " ، وهو المعلم الشديد القوي ، والمؤيد بإلقاء الوحي والإلهام للأنبياء والأولياء الذي كتب في قلوبنا الإيمان والمعارف ، إذا توجهنا شطر كعبة الحق والجَنَبة العالية ، وإذا أعرضنا عنه بالتوجه إلى مشاغل الجَنَبة السافلة ، انمحت تلك النقوش عن النفوس ، كمرآة صقيلة إذا أقبلت إلى النيّر تشعشعت ، وإذا أعرضت عنه تخلّت - من غير تغيّر في النيّر الأعظم بل في أحوال المرآة - . فإذا تحقق هذا المجمل الذي قد فصّل في مقامه ، عُلم علماً يقينيّاً : ان الله تعالى يحيى أراضي النفوس القابلة والعقول الهيولانية بعد موتها - أي تعلقها بالبدن وغمودها في النشأة الحسية التي هي منبع الجهل والغفلة والموت - بتبيين الآيات العقلية ، وإفاضة المعارف اليقينية التي بها تتنوّر نفس الإنسان وتحيى بروح المعارف ، وتتخلص من موت الجهالة ، وتستيقظ من نوم الغفلة ، وتتنبّه من رقدة الطبيعة ، وتصير معقولاً وعاقلاً بذاتها ، فاعلة للصور المعقولة ، وإليه أشار بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الحديد : 17 ] .