Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 18-18)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد في اللفظين ، والباقون بتشديدهما . فمن خفف كان الكلام عنده بمنزلة قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ البقرة : 277 ] ، لأن المُصَدِقين - بالتخفيف - مأخوذ من " صَدّق " بمعنى " آمن " ، فهم الذين آمنوا واقرضوا - أي : عملوا الصالحات - إما لأن القرض الحسن من جملة الأعمال الصالحة ، لأن معه أن يتصدق من المال الطيّب عن طيبة النفس وصحة النيّة على من استحق للصدقة ، أو لأن المراد منه مطلق الفعل الحسن والعمل الصالح الذي له أجر كريم ، سواء كان بإيتاء أمر عيني أو غيره ، كما أن التصديق حينئذ يتضمن الصدقة . ومن شدّد ، كان الوجه عنده أن قوله : أقرَضوا الله قرضاً حسناً - اعتراض بين الخبر والمخبر عنه ، فهو للصدقة أشدّ ملائمة منه للتصديق ، ولأحد أن يمنع كونه اعتراضياً ألبتّة ، لاحتمال أن يكون معطوفاً على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام فيه بمعنى ( الذين ) ، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا أو صدقوا . وقرئ : " يضعّف " بالتشديد ، و " يضاعِف " بكسر العين ، أي : يضاعِف الله لهم من الجزاء أمثال ما أنفقوا في وجوه الخير - ولهم أجر كريم - ، لأنه يترتب لذاته على فعل الخير ، وكلما يترتب على فعل الخير يكون أجراً كريماً ، لأن أمور الآخرة تكون شديدة قوية في الإلذاذ - إن كانت لذيذة - ، وفي الإيلام ، إن كانت أليمة - ، لعدم الغشاوات والموانع عن الإدراك هناك ، وكون المدرك قوياً ، والمدرك مكشوفاً ، وليست اللذة إلاَّ إدراك الملائم ، ولا الألم إلاَّ إدراك المنافي . فالمدرك للملائم والمنافي إذا كان في غاية القوة والحدّة : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] ، والمدرك منهما إذا كان كنه حقيقة الشيء ولبّه وباطنه وسريرته : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [ الطارق : 9 ] والإدراك أيضاً في غاية التحقيق واليقين حيث ينتهي إلى مشاهدة العين : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } [ التكاثر : 5 - 8 ] . - يكون الإلذاذ والإيلام في غاية القوة والشدة ، وهذا هو البيان في كون أمور الآخرة في بابها عظيمة شددة . مكاشفة النكتة في ان فعل الحسنة يكون أجره مضاعفاً ، وفعلَ السيئة يكون أجره مثله ، - كما في قوله تعالى : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] - وجهان : أحدهما من جهة القابل ، والآخر من جهة الفاعل . أمّا الوجه الأول : فهو أن حقيقة النفس الإنسانية هي من عالم الأمر وعالم الآخرة وسنخ الروحانيات النوريّة ، فوقعت في هذا العالم الجسماني الظلماني لجناية صدرت من أبي البشر آدم الأول ، حيث أهبط من الجنة إلى الأرض غريباً وحيداً أسيراً في أيدي الظلمات ، ملسوعاً بلسع حيّات الشهوات وموذيات اللذّات ، مسحوراً بسحر الطبيعة ووساوس الشياطين ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ التين : 4 - 5 ] . ثم إن كل عمل وفعل صدر من الإنسان في هذا العالم ، يحصل منه أثر في قلبه ، لارتباط شديد بين النفس والبدن ، فيحصل من تكرر الأفاعيل في النفس ، أخلاق وملكات هي مواريث المعاملات ، فإذا تكررت الأفاعيل الحسنة - من الصيام ، والقيام ، والإطعام ، والصدقات بحسن النيّات وصِدق الطويّات - ، ظهرت من دوام تكررها هيآت حسنة راسخة في النفس ، فيتنوّر عندها بنور الصفات الملكية ، ويسهل معها صدور الفضائل والخيرات ، كما قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [ الليل : 5 - 7 ] . وكذلك إذا تكررت الأفعال الذميمة والسيئات - من البخل ، والاستكبار ، والكذب ، وغيرها - ، حصلت من دوام تكررها صفات ذميمة راسخة في النفس ، فتنكدر عندها بكدورة المعاصي ، فيسهل معها صدور القبائح منها مما لم يكن يصدر قبل ذلك بتلك السهولة ، كما قال سبحانه : { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } [ الليل : 8 - 10 ] ، ولو لم يكن تكرر الأفاعيل مورثاً لحصول الملكات في النفس ، لم يحصل للإنسان الصناعات العلمية والعملية . ثم لمّا كانت الأفعال الحسنة مناسبة لعالم القدس وموطن النفس ، مقرّبة لها من عالمها ، مذكّرة لها عهدها القديم مع أقاربها وأوالفها . والأفعال القبيحة ، مناسبة لعالم الجحيم ، مبعدة لها عن عالمها - والمناسب للشيء يكون أسرع تأثيراً من المخالف الغريب في إخراج ذلك الشيء عما يقتضي طبعه - ، فالأفعال الحسنة والخيرات أقوى تأثيراً في سعادة النفس وكمالها وتذكرها وقربها إليه تعالى من الأفعال القبيحة والشرور في شقاوتها ونقصها ونسيانها وبُعدها عنه تعالى . وثانيهما : إن رحمته تعالى فائقة على غضبه سابقة عليه ، كما قال : " سبقت رحمتي غضبي " حتى أن عين الغضب وماهيته إنما وجدت منه تعالى برحمته التي وسعت كل شيء . كيف والوجود الفائض منه على كل شيء ، هو عين الرحمة عليه ، فوجود الغضب إنما هو من رحمة الله على عين الغضب ، فسبقت نسبة الرحمة إليه تعالى على نسبة الغضب ، وذلك لأن الرحمة ذاتية للحق ، وعين الغضب ناشئة من عدم قابلية بعض الأشياء للكمال المطلق والرحمة التامة ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] أي من سوء استعدادك ، وإن كان الكل من عند الله ، إذ لا استقلال لغيره في الإيجاد . وفي الحديث النبوي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " ان الخير كلّه بيديك ، والشر ليس إليك " . ومن أمعن النظر في لوازم الغضب - من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك - ، يجدها كلها أموراً عدميّة ، فالرحمة ذاتيّة للحق ، والغضب حالة عرضية ناشئة من أسباب عرضية . فإذا كان كذلك ، كان باعث الرحمة أسهل وجوداً وأقلّ أسباباً وأيسر تحققاً ، إذ يكفيه إمكان القبول لها ، وباعث الغضب بخلافه ، إذ لا يكفي مجرد إمكان المحلّ ، بل لا يتحصل إلاَّ من وجود المنافي للرحمة ، المانع إيَّاها ، فقابل الرحمة وداعيها لا يحتاج إلى تعمّل كثير ، غير صفاء الذات ، وخلوص الفطرة ، وصقالة وجه القلب عن الكدورات ، بخلاف داعية الغضب ، فإنها لوجود المعاصي والقبائح الغريبة من الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها ، ولهذه الدقيقة عَبّر عن باعث الرحمة : " بالكَسْب " ، وعن باعث الغضب : " بالاكتساب " لما في مفهومه من التعمّل الزائد على ما في الطبع في قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] . فإن قلت : ما الوجه لخصوصية ذكر العشرة في التضعيف لا غيرها من الأعداد ؟ قلنا : وجه ذلك ، كون الإنسان معوقاً في الدنيا عن فعله الخاص به - الذي هو ذكر الله ومعرفة ملائكته ورسله والدار الآخرة - ، لانغمار نفسه في الحسيات ، واشتغاله بالجسمانيات ، وهذا بخلاف فعل المعاصي والشهوات ، فإنها مما يلائم البدن وقواه ، فلا يزاحمها بل تعين عليها القوى البدنية . ولما كان المبدأ الإدراكي للأفاعيل العقلية والطاعات قوة واحدة - هي الناطقة - ، والمبدأ الإدراكي للأفاعيل الحسيّة والمعاصي قوى عشرة - أي الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة - فكل حسنة تصدر عن القوة العاقلة لا بد فيها - لكونها على خلاف طبائع القوى - من مجاهدة وقعت من العاقلة مع كل واحدة من تلك العشرة ، وكل مجاهدة لها أجر واحد ، فكل حسنة تستلزم عشر حسنات ، مستدعية لعشرة أمثال أجر إحداها ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] .