Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 20-20)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
زهّد الله سبحانه الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا ، ورهّبهم عن التورط في مشتهياتها بأبلغ وجه وآكده ، حيث بيّن ان محقّرات مشتهياتها ومختصرات لذاتها ليست في الواقع وعند أولياء الله الذين نظرهم على حقائق الأمور وبواطنها ، إلاَّ أمورا وهمية باطلة زائلة ، وهي اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر ، إلاَّ أنها كذلك من باب التجوّز والتشبيه لعلاقة الاشتراك بينهما في عدم البقاء - كما وقع في بعض التفاسير - ، فإن ذلك بحسب النظر الجليل وإدراك أهل الحجاب . ولا انها كذلك بحسب المبالغة والتخييل كما هو عادة الشعراء وأهل القصص - أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين - ، بل هي بحسب التحقيق ليست إلاَّ هذه المذكورات وليست إلاَّ متاع الغرور ، كما مثّل الله تعالى : { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] . وكما أن أمور الدنيا ليست إلاَّ أوهام محضة وخيالات صرفة ، فأمور الآخرة بعكس ذلك ، إذ ليست إلاَّ أموراً عظيمة ثابتة إلهيّة . لأنها بواطن الأشياء وحقائقها التي لا تبيد ولا تنقص . وقيل : " اللعب " ما رغّب في الدنيا ، و " اللهو " ما الهى عن الآخرة ، و " الزينة " ما يتنزينون به في الدنيا ويتحلّون في أعين أهلها ثم يتلاشى . ومنشأ التفاخر بين الناس ، هو القوة الغضبيّة والهيئة السَّبُعِيَّة التي لا تزال توجب التفوق على الأقران ، والترفع على الأشباه ، ومنشأ التكاثر هو القوة الشهويّة والصفة البهيميّة التي لا تزال تطلب تزايد المشتهيات . ثم إنه تعالى مثّل حال الدنيا وسرعة انقضائها وفنائها مع قلّة جدواها بنبات أنبته المطر فاستوى واستكمل وأعجب الكفّار نباته - دون غيرهم - ، لأنهم هم المُغْتَرّون بالأمور الباطلة الواهية ، بسبب ما يخيل ويروق لهم من ظواهر زينتها بما ينكرون الآخرة ولا يعرفونها ، فهم بها أعلق ، وهي لهم أروق وألمع ، لا لأهل الله والمؤمنين حقاً . وليس المراد منه المبالغة في وصف النبات وبيان حسنه بأنه يعجب الكفّار ، مع جحودهم لنعمة الله فيما رزقهم - كما قيل - ، بل إعجاب الكافر بيان للواقع في الحكاية التي مثّل بها الحياة الدنيا . ويجوز أن يكون إشارة إلى القصة المذكورة في القرآن لصاحب الجنّة والجنتين . وقيل : الكفّار : الزرّاع ، ثم بعث عليه الآفة فهاج ، أي يبس واصفرّ وصار حطاماً ، أي : ما ينحطم وينكسر بعد يبسه عقوبة لهم على جحودهم وكفرانهم ، وفي الآخرة عذاب شديد ، أي : لمن رغب في الدنيا فيشغله ذلك عن الآخرة - ومغفرة من الله ورضوان ، أي : لمن تزوّد منها للآخرة . وما الحياة الدنيا ، لمن ركن إليها وتَطَمْئَن بها ، - إلاّ متاع الغرور - كلامع السراب للظمآن حيث يتخيّل له لغاية ظمئه ان له حقيقة . كذلك حكم الدنيا للناقصين وضعفاء العقل ، يتخيّل لهم ما فيها لذة وكمالاً فيغترّون بها . إعلم أن ما يوجب عقوبة أهل الجحيم في الآخرة ، وتعذيبهم بالعذاب الأليم ، هو بعينه موجود معهم في الدنيا ، يعذب باطنهم بنيرانه ، وذلك هو الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الرديّة التي كلها نيرانات ملتهبة وحرقات مشتعلة تؤذي صاحبها وتوجب العداوة والبغضاء له مع أبناء الدنيا ، الذين سيصيرون من أصحاب الجحيم ، والخصومة معهم في مقاصدهم ومآربهم الخسيسة الدنيوية ، وهذه الجهالات وذمائم الملكات ، كما توجب التعذب بها لصاحبها في الأولىٰ ، فهي بعينها التي توجب التعذب بها لهم في الآخرة على وجه أشد وأبقى ، لقوله تعالى : { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 127 ] . فإن أمور البدن وأشغال الدنيا ها هنا تلهي وتغفل الروح عن دركها كما هي ، بخلاف النشأة الثانية ، فإن البدن الأخروي لا يلهي الروح عن إدراك الآلام - ان كانت شقيّة - كما لا يلهيها عن إدراك اللذّات الأخروية ان كانت سعيدة . فأهل النار - إذا دخلوها - تسلط النار على ظواهرهم وبواطنهم ، لأن ظواهرهم عين بواطنهم - كما حققناه في بعض كتبنا عند إثباتنا المعاد الجسماني بالاستبصار العقلي أيضاً ، كما هو ثابت عند الجمهور من الملّيين والحكماء الإسلاميين بالنص النقلي - ، وليس لحقيقة العذاب تسلط ها هنا على ظواهر الأشقياء ، لكن ظواهرهم مبائنة لبواطنهم - إلاَّ نحواً ضعيفاً لم يتنبهوا عليه لخدر الطبيعة وسكر البدن وجهل المادة - . فإذا تسلط عذاب النار على ظاهرهم وباطنهم ، وأحاط بهم سرادقها ، ملكهم الجزع والاضطراب ، فيكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ، متخاصمين متقاولين ، كما نطق به كلام الله في مواضع متعددة ، مثل قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ ص : 64 ] . وكما ان هيآت أمراض الجهل وغيره من الصفات ، إذا كانت راسخة مقرونة مع العناد والاستكبار ، لا يمكن أن تزول أصلاً ، فكذلك الأشقياء المردودون من الكفرة والمتجبرين ، لا يُخَفّف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون ، فكلما طلبوا أن يُخفف عنهم العذاب وأن يقضى عليهم ، واستغاثوا أن يرجعوا إلى الدنيا لم يجابوا إلى طلباتهم ، كما حكى الله تعالى عن اقتراحهم واستغاثتهم بقوله تعالى : { يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] وعن عدم إجابتهم بل منعهم عن السؤال وطردهم عن الاقتراح بمثل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] . { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] . فلمَّا يئسوا وَطّنوا أنفسهم على العذاب والمكث على ممر السنين والأحقاب ، وتعللوا بالأعذار ، ومالوا إلى الاصطبار وقالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] . فإن قلت : كيف حكم الله على الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب - أي باطل موهوم لا حقيقة لها - مع أنها ثابتة في الواقع ، والثابت في الواقع لا يكون باطلاً موهوماً ؟ قلنا : يمكن الجواب عن هذا بحسب جليل النظر انه ليس المراد مما ذكره سبحانه ان الحياة الدنيا - التي هي القوة على الحس والحركة - أمر موهوم ، إذ لا شك في أنها أمر ثابت في بعض الأوقات - وإن لم يكن دائمياً - ، بل الغرض منه إن هذه الحياة ليست حقيقية يمكن ثبوتها في حق الإنسان بما هو إنسان - أي ذو جوهر روحاني هو محل معرفة الله - ، لأن حياته حياة علمية نطقية أخروية والحياة الحسية الدنيوية هي حياة تتصف بها الحيوانات بما هي كذلك - أي ذو جوهر حسّاس - ، وإذا اتّصف بها الإنسان في بعض الأوقات ، فإنما يكون بما هو به حيوان ، لا بما هو به إنسان . فاتصاف الإنسان بتلك الحياة الحسية باعتبار أن له قلباً حقيقياً هو محل معرفة الله أمر وهمي ، إذ لا وجود لها للإنسان إلاَّ مجازاً لعلاقة الارتباط بين حقيقة الإنسان - الذي هو روحه المشار إليها بـ " أنا " - والجسد الحيواني الواقع تحت جنس الحيوان عند أخذه لا بشرط شيء ، أي بالاعتبار الذي به حيوان - لا بما هو به بُنْيَة ومادة - ، وقد تبيّن الفرق بينهما في علم الميزان . ويمكن أن يقال بحسب دقيق النظر : إن المراد من الحياة الدنيا نفس الإدراك الحسي للأمور الدنيوية - تسمية للشيء باسم ما ينبعث عنه ويتم به - ، فإن الحياة الحيوانية إنما تتم بالحس والحركة . وغاية الحركة أيضاً هي الحس في غير الإنسان . والإحساس بالشيء لا يتم إلاَّ بالتوهم والتخيل ، والموهوم أو المتخيل - بما هو موهوم أو متخيل - لا وجود له في الخارج - بل في الذهن - ، وكل ما لا وجود له في الخارج فهو لهو ولعب ، أي باطل . ولو تفطن متفطّن ، لَعَلم أن كل من يلتذ بأمر من الأمور الدنيوية أو يتألم به ، فإنما يلتذّ ويتألم بما هو حاضر في ذهنه - مع قطع النظر عن الخارج - حتى لو جزم إنسان بوجود أمر ملائم له لكانت لذته بذلك الملائم متحققة وإن عُدِم في الواقع . وذلك كمن عشق واحداً واعتقده في غاية الحسن والجمال ، إذ ربما كان التذاذه بوجوده وتشوقه لِجماله ثابت مدة مديدة يظن أنه موجود في موضع كذا من داره - وهو قد مات منذ أول تلك المدة - ، فعلم أن وجوده الخارجي ليس موضوع هذه المحبوبية لفقده ، فقِس عليه حال جميع المحبوبات والمعشوقات الدنيوية في أنها أوهام محضة لا وجود لها في الخارج ، والحياة الدنيا ليست إلاَّ حالتك قبل الموت بالقياس إلى هذه المحسوسات . ومما ينبغي لك أن تعلم ، انه ليس حصول التعقلات الكلية ، وادراك المعارف الإلهية ، ونيل الحقائق الكونية على النحو التي هي عليه للإنسان من جملة الحياة الدنيا الحسيّة أصلاً ، بل إنما هي له لأجل ما به من النشأة الأخروية والحياة الإدراكية العقلية . وقد علم مما ذكر أن ها هنا حكمين : إحدهما : كون الأمور الدنيوية من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، في أنفسها وبحسب جواهرها وذواتها أموراً وهمية . وثانيهما : ان وجود الأشياء للإنسان وهمي . وكلا الحكمين حق وصواب . أما الثاني : فلِما أشرنا إليه ، من أن وجود الذهب في نفسه ليس ملذاً للإنسان ، بل الاعتقاد بوجوده له مما يتلذ به . وأما الأول : فلما حققناه في موضعه ، موافقاً لما عليه المحقّقون من العلماء فضلاً عن الأولياء والعرفاء ، من أن المركّبات المحسوسة الجزئية لا وجود لها منفرداً عن الحقائق البسيطة المعقولة التي تتقوم بها تلك الجزئيات ، وقد صرحوا بأن مناط وجود الجزئيات المادية محسوسيتها ، ومناط المحسوسية وجود الشيء للجوهر الحاس ، وقد علمت أن الإحساس لا يتم إلاَّ بالتوهم ، أي الوجود للقوة الوهمية التي هي من جنود الشيطان . واعلم أن لذّات الحياة الدنيا إنما هي لعب ولَهْوٌ لأنها من فعل الشيطان ، وإلاَّ فليست أمور الدنيا بما هي هي - أي بالحيثية التي هي بها ثابتة وحق - لذيذة ، لأن لكل شيء حقيّة ، وحقية أمور الدنيا ، تجددها وزوالها وانصرامها وفناؤها ، لأنها أكوان ناقصة واقعة في جهة السلوك إلى الله تعالى والارتقاء إليه . والسالك بما هو سالك ليس له في حدود سلوكه كمال ، فإن الحركة هي نفس الخروج من القوة إلى الفعل ، فهي ما بين صرافة القوة والفاقة ومُحُوضة الفعل ، والوجود واللذة الحقة من توابع الوجود الحق الذي تتوجه إليه الموجودات ، والتوجه إلى الحق إنما هو بقطع الحجب الظلمانية الساترة للحق لأجل الوجود الموهوم ، ينسب إليها بحسب القوة الوهمية ، فعالم الكون كله خيال في خيال كما يقال : @ كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في المرايا أو ظلال @@ فحقيّة العكس أو الخيال أو الظل إذا أخذ من حيث كونه عكساً أو خيالاً أو ظلاً ، وأما إذا أُخذ العكس أصلاً ، والخيال عَيناً ، والظل شخصاً ، فيكون كل منها باطلاً ، كما في قول لبيد : @ ألاَ كُلُّ شيء ما خلا الله باطلُ وكلُ نعيم لاَ مَحَالَةَ زائُلُ @@ لان ما خلا الحق تعالى معلول ممكن ، والمعلول إذا أُخذ منسوباً إلى الحق كان حقاً بحقيّة الحق وواجباً بوجوبه ، وإذا أُخذ غير منسوب إليه - بل منفرداً عنه - كان باطلاً ، فالعالم بما هو عالم وسوى الحق باطل ، لكنه موهوم الوجود ، كما ان الظل موهوم الوجود ، والوهم من فعل الشيطان ، والواهمة من جنوده ، وكذا كل متوهم من حيث هو مُتَوَهّم - أي مذعن لأحكام الوهم - من جنود الشيطان . كما ان العقل من جنود الحق ، وكذا كل عاقل - أي مذعن لأحكام العقل - . وقد علمت أن التطارد بينهما في معركة القلب الإنساني قائم كما مرّ ، والمعقولات جنّة العقل وجنوده ، يلتذّ بها وَيَتَبَوءُ فيها حيث يشاء ، كما ان الموهومات جنّة الوهم وجنوده ، يستلذّ بها وينسرح فيها حيث يشاء . قال بعض العلماء : إن إبليس لمّا تمّت حيلته على آدم ، ووصل بالأذية إليه ، ونال بغيته وبلغ أمنيته ، وسأل ربه الإنظار إلى يوم يبعثون ، فاجيب إلى يوم الوقت المعلوم ، اتخذ لنفسه جنّة غرس فيها أشجاراً وأجرى فيها أنهاراً ليشاكل بها الجنة التي أسكنها آدم ، وقاس عليها وهندس على مثالها هندسة فانية مضمحلة لا بقاء لها ، وجعلها مسكن أهله وولده وذريته وهي كمثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، وذلك انه من الجن ، وقد قيل : إن للجن التخيّل والتمثل لما لا حقيقة له ، كذلك فعل إبليس وجنوده ، إنما هو تمويه وتزويق ومخاريق لا حقيقة لها ولا حق عندها ، ليصدّ بها الناس عن الطريق القويم والصراط المستقيم ، وبذلك وعد ذريّة آدم إذ قال : { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] . والجنة التي غرسها إبليس لذريّته ليصدوا بها ذريّة آدم عن الجنة التي كان فيها ، هي الأمور الدنيوية والشهوات الدنيّة الوهمية وفعل الخطايا والمآثم ، وارتكاب المحارم ، وحب القِنية الفانية ، والخروج عن طاعة الله ، ومتابعة الذين أخلدوا إلى الأرض ورغبوا في الدنيا وعاجلها ، ودَعَوا الآخرة وآجلها ، التي هي دار القرار ومحل الأخيار ومقام الأبرار ، وجميع هذه الأمور لعب ولهو كما وصفها الله تعالى به ، فالعاقل هو الذي وفّق للخروج من جنّة إبليس فيرجع إلى جنّة أبيه وذريّته الطاهرين ، ويتخلص من أدناس ذرية إبليس أجمعين وأتباعهم ، وهم المعتكفون على الأمور الدنيوية ، المكبّون على اللذات والشهوات الدنيّة التي ستنقلب بعينها في الدار الآخرة إلى ألوان العقوبات وأنواع الآلام والمحن الشديدة ، كما أشار سبحانه بقوله في هذه الآية : { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الحديد : 20 ] ، فهم في العذاب مشتركون ، وبذلك وعد ربهم إذ قال لإبليس : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .