Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 21-21)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الإعداد : التهيئة . أي : وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه أو يناسبه . و " الفضل " و " الإفضال " و " التفضّل " واحد ، وهو : النفع . وهو إما المعنى الحدثي المصدري ، أو الأمر الحاصل به ، والثاني هو المراد ها هنا . ومعنى الآية : انه تعالى بعدما بيّن ان الحياة أمر لا حقيقة لها سوى كونها خيالاً موهوماً - بالوجه الذي مرّ بيانه - ، ومثّلها بمثال ينبّه العاقل على دثورها وزوالها ، وأشار إلى أن الحياة الآخرة أمر محقق ثابت في نفس الأمر ، لكنها إما عذاب شديد ، وإما غفران ورضوان ، أحدهما للسعداء والآخر للأشقياء ، ثم كرر الإشارة إلى أنها لمن لم يعمل لآخرته في متاع الغرور ، فرغّب سبحانه في المسابقة إلى طلب أحد الأمرين الأخرويين - المشار إليهما في الآية السابقة - ، وهو الذي يترتب على استعمال الحياة الدنيا في طلب التوصل إلى لقاء الله واليوم الآخر قائلاً : سابقوا - أي سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم ونظرائهم في المضمار ، واردعوا العوارض القاطعة عن السلوك إلى البغية بالأعمال الصالحة العلمية والعملية ، مقبلين إلى ما يوجب الفوز بمغفرة من ربكم . قال الكلبي : إلى التوبة . وقيل : إلى الصف الأول للصلاة ، وقيل : إلى النبي . وفي معناه : إلى كل هاد ودليل من الأئمة وبعدهم من المشايخ والمعلمين ، والى - جنّة عرضها كعرض السماء والأرض - ، أي : وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنّة هذه سعتها وعظمتها . وفي ارتكاب حذف المضاف ، أو ما في حكمه في الموضعين ، نظر كشفي لا يسع المقام . قال السدي : كعرض سبع سموات وسبع أرضين . وفي ذكر العرض دون الطول وجوه : أحدها : إن كل ما له امتدادان مختلفان فإن عرضه يكون أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة ، عرف أن طوله أبسط وأَمَدّ . وثانيها : ان الطول قد يكون بلا عرض ، بخلاف العكس . وثالثها : الإشعار بأن طولها لا يمكن أن يقاس إلى شيء من هذا العالم . ورابعها : ان المراد منه مطلق البسطة ، كقوله تعالى : { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصّلت : 51 ] . وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في غزوة أحد : " يا عثمان ذهبتُ عريضاً " . قال الحسن : إن الله يفني الجنّة ويعيدها على ما وصفه ، فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض . وقال بعضهم : إن الله قال : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } ، والجنة المخلوقة هي فوق السماء السابعة فلا تنافي . وقوله : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : ادُّخِرَت للمؤمنين بالله ورسله ، وفيه ما لا يخفى من التمحّل ، وذلك - أي الفوز بالمغفرة والجنة - من فضل الله - لكونه موجوداً كاملاً تاماً فوق التمام ، فيفضل منه الوجود ، وكمال الوجود على غيره ممن يشاء - والله ذو الفضل العظيم - لأن العالم وما فيه من فضل وجوده وفيضه ، فلا استبعاد في أن يجزي الدائم الباقي على العمل القليل الفاني ، ولو اقتصر على قدر ما يستحق بالأعمال كان عدلاً ، لكنه تفضّل بالزيادة . كما انه لو أمسك عن إفاضة الوجود على العالم كان تاماً في واجبيّته ومملكته وسلطانه ، لكنه ، تفضّل بوجود العالم نافلة من غير ضرورة زائدة على ذاته ، وداعية مستولية عليه ، وأن أحداً لا ينال خيراً في الدنيا والآخرة إلاَّ بفضل الله ، فإنه لو لم يَدْعُنا إلى الطاعة ، ولم يبيّن لنا الطريق ، ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه ، فذلك كله من فضل الله . وقال أبو القاسم البلخي : إن الله سبحانه لو اقتصر لعباده في طاعتهم على مجرد إحسانه السابق إليهم لكان عدلاً ، فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلاً . قيل : وفي هذه الآية أعظم رجاء لاهل الإيمان ، لأنه ذكر أن الجنة معدّة للمؤمنين ، ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر ، وانت علمت مما سبق ، ان الإيمان بالله والرسول وما جاء هو به أجلّ مراتب الكمالية للإنسان ، وبه يستحق السعادة العظمى ، والغرض من الأعمال الصالحة هو خلاص النفس عن العلائق الدنيّة ، المكدّرة لمرآة القلب ، المانعة عن إدراك الحقائق والمعارف الإيمانية ، فالعقيدة الحقة الإلهية لا تتيسر إلاَّ بقطع الأغراض الدنيوية بالأعمال الصالحة المقرّبة للقدس ، ولا يتيسر الإخلاص في العمل إلاَّ بالعقيدة الإيمانية ، فالإيمان هو المبدأ والغاية في كل خير وكمال ، على وجه لا يدور على نفسه دوراً مستحيلاً ، ويحتاج بيانه إلى كلام مشبع لا يناسب المقام . مكاشفة في أن الجنة والنار حق إعلم أن قوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الحديد : 21 ] ، وكذا قوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، دليل واضح على أن الجنة مخلوقة الآن ، موجودة للمؤمنين والمتقين ، لأنها نتيجة أعمالهم ( وان فيها جزاء لهم ونتائج لأعمالهم - ن ) وأفعالهم . ومن جملة الآراء السخيفة ، رأي من زعم أن الجنة والنار لم توجدا بعد ، ولا توجدان إلاَّ بعد بوار العالم وتهافت السمٰوات والأرضين ، واشير إلى فساد هذا الرأي في قوله : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] . وفي قوله { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصّلت : 44 ] . ومن الآراء السخيفة أيضاً ؛ اعتقاد أكثر الناس أن أجسام أهل الجنة أجساد لحمية كثيفة ، مركّبة من أخلاط أربعة قابلة للاستحالات معرّضة للآفات . وإذا تأمل أحد فيما وصف الله تعالى من صفات أهل الجنة ، ظهر له فساد هذا الرأي ، وذلك قوله سبحانه : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } [ الحجر : 48 ] ، و : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ } [ الدخان : 56 ] . وأنهم { فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25 ] . و : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] . ومن علامات حقية الاعتقادات ؛ أن لا يقع فيها تناقض وتخالف ، وهرج ومرج ، وأكثر آراء المجادلين والمتشبهين بالعلماء - كأكثر الكلاميين - ، يكون بحيث إذا عرضه صاحبه على عقله أنكره ضميراً - وان أقرّ به لساناً - ، ويجده مناقضاً لسائر اعتقاداته وأصوله ، فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن بربه ، كما قال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } [ فصّلت : 23 ] . ولا بد لكل أحد أن يعلم أن الجنة والنار الجسمانيتين غير معلومتي الكُنْه إلاَّ للمكاشفين ، الذين اكتحلت عيونهم بنور الله ، وغلب عليهم ظهور سلطان الآخرة ، فصاروا بحيث تكون أبدانهم في الدنيا ساكنة ، وأرواحهم في الآخرة سائرة ، فهم من أهل الاطلاع على حقائق الأمور الأخروية ، ولا بد للمحجوبين ومن لم يقف على أسرارهم ولم يصل بعد إلى مقامهم ، أن يعتقدوا - إيماناً بالغيب - أن الجنة التي عَرْضُها السموات والأرض موجودة في عالم الغيب ، بحيث لا يمكن مشاهدتها بهذه العين ، وليست أجسام الآخرة من هذه الأجسام حتى يقع بينها تزاحم وتضائق ، بل التزاحم والتضائق من خواصّ هذه الأجساد التي تشاهد بهذه الحواس الداثرة المستحيلة ، وتلك الأجساد لا تشاهد إلاَّ بالبصيرة الباطنية . ولا بد أيضاً أن يعلم كل من آمن باليوم الآخر ، أن للأعمال والأفعال الدنيوية - باعتبار تأثيرها في عادات النفس ومَلَكاتها - علاقة طبيعية مع أعيان الأمور الأخروية . فكما أن الأمر المسمّى " بالمعصية " في الدينا ، يؤدي بصاحبها في الآخرة إلى الاحتراق بالنار ، والتعذيب بالحميم والزقوم ، والتصلية للجحيم ، فكذا المسمى " بالطاعة " يظهر في الآخرة بصورة الجنة والرضوان ، والتنعم بالفواكه والحُور والغلمان ، والولدان ، فهذه الأفعال المحمودة التي هي الطاعات ، إنما تراد لأجل اكتساب الأخلاق الحسنة ، وكذا الأفعال المذمومة إنما تترك لأجل أنها ستنجر إلى الأخلاق السيئة . فالغرض من الأوامر الشرعية - أفعالاً كانت أو تروكاً - إنما هو تحسين العادات ، وتقويم المَلَكات ، وتبديل السيئات منها إلى الحسنات ، بتوفيق من الله وتأييد منه ، كما قال سبحانه في حق المخلَصين من عباده : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] . وكما ان كل صفة في الدنيا تغلب على باطن الإنسان وتستولي على نفسه ، بحيث تصير ملكة له توجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة ، ويصعب عليه صدور أضدادها غاية الصعوبة ، وربما يبلغ ضرب من الأولى حد اللزوم ، وضرب من الثانية حد الامتناع . فهكذا حال الملكات والأخلاق في الآخرة ، إذ كل صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى تلك الدار ، صارت كأنها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشية منها بصور تناسبها ، وليست الأفعال والآثار الدنيوية في لزومها لمصادرها التي هي الملكات بتلك المثابة ، إذ الدنيا دار اكتساب ، وللعلل الاتفاقية فيها تداول وجَوَلان ، وللدواعي والصوارف الخارجية تسلّط ودَوَرَان ، فالشقيّ ربما يصير بالاكتساب سعيداً ، وبالعكس ، - بخلاف الدار الآخرة - ، فإن باب الاكتساب والتحصيل فيها مسدود ، ولكل نفس فيها حد محدود ، كما اشير إليه في قوله تعالى : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً } [ الأنعام : 158 ] . ولأن الدنيا دار تعارض الأضداد وتفاسد المتمانعات بخلاف الآخرة ، لكونها دار الجمع والاتفاق من غير تزاحم ولا تضادّ ، فالأسباب هناك لا تكون إلاَّ عللاً ذاتية كالفواعل الحقيقية والغايات الذاتية دون العَرَضية ، فكل ما يصلح أثراً لصفة نفسانية لا يتخلّف عنها هناك - كما يتخلف عنها ها هنا - فلا سلطنة هناك للعلل العَرَضية والأسباب الاتفاقية ، بل المُلك لله الواحد القهّار كما في قوله : { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] . أي لا تأثير هناك للعلل الاتفاقية ، بل للذاتية . وكذا في قوله : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . وقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] . أي العلل الاتفاقية دون المأذونين في الشفاعة كالرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، لأجل حصول الاستعداد والمناسبة الحاصلة من دعوته لأمته ، التي كانت خيرَ أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وهذا القدر من المعرفة ، أقل ما يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعده الله ورسوله أو توعد عليه بلسان الشرع من الصور الأخروية المترتبة على الاعتقادات والأخلاق المستتبعة للّذات والآلام ، إن لم يكن من أهل المكاشفة الباطنية والمشاهدة الأخروية . وأما معرفة التفاصيل في نتيجة كل صفة وعمل وَعَدَ به أو تَوَعّد عليه الشرع الأنور بحكومة أخروية ، فيتوقف على كشف تام ومعرفة كاملة ، واتصال قوي بعالم الغيب ، وتجرّد بالغ من علائق هذا العالم ، فكل من له تحدّث في العلوم ، يجب عليه أن يتأمل في الصفات النفسانية والأخلاق الباطنية ، وكيفية منشأيتها للآثار والأفعال الظاهرة منها ، ليجعل ذلك ذريعة لأن يفهم كيفية استتباع الأخلاق المكتسبة في الدنيا من تكرر الأفاعيل للآثار المخصوصة في الآخرة ، تحقيقاً لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " الدنيا مزرعة الآخرة " . فكما ان شدة الغضب والغيظ في رجل غضبان يوجب ثوران دمه ، واحمرار وجهه ، وحرارة جسده ، واحتراق مواده الرطبة - التي أرطب من الحطب اليابس - على ان الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته ، والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام ، وقد صارت هذه الصفة الواحدة النفسانية مصورة بهذه الهيآت والعوارض الجسمانية في هذا العالم ، فلا عجب من أن يكون رسوخ هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الآخرة نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فيحرق صاحبها . وكما يعرض أيضاً له بسببها ها هنا أمور مستنكرة وأفعاله مستكرهة - إذا لم يكن له صارف عقلي - من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر ، وربما يؤدي بصاحبها إلى الضرب الشديد والقتل لغيره - بل لنفسه - ، وربما يموت غيظاً ، فكذا القياس فيما يعرض هناك على وجه أشد وأبقى . وبهذه الموازنة بين النشأتين يُشعر قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] ، فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة الواحدة لتلك الآثار واللوازم الذميمة ، فيمكن له أن يقيس عليها باقي الصفات المؤذيات ، والاعتقادات المهلكات ، وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها منها يوم الآخرة من النيران وغيرها ، كما في قوله تعالى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] . وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق وحقائق الاعتقادات ، وكيفية استتباعها للنتائج والثمرات - من الجنان والرضوان ، والوجوه الحسان - فعلى هذا يثبت القول بوجود الجنة والنار بالحقيقة ، ولا يحتاج إلى تجوز في قوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] . وقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 49 ] .