Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 22-22)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" المصيبة في الأرض " : نحو الجدب ، وقلة النبات ، وآفات الزروع ونقص الثمار ، وتلف الحيوانات ، وموت الإنسان . " والمصيبة في الأنفس " نحو الأدواء والأمراض والأوجاع والثُّكْل بالأولاد والموت وغيرها من الشرور والآفات الخارجية والداخلية ، وربما كان بعض أنواع الوجودات والخيرات لطائفة من الناس ، - هي بعينها - ، مصائب وآفات لجماعة أخرى منهم بالاستجرار . إلاَّ في كتاب - يعني : إلاَّ وهو مُثْبَتٌ مذكور في لوح محفوظ من الألواح العالية المحفوظة عن التحريف والفساد والبطلان . من قَبْلِ أن نبْرَأَها - يعني : المصائب ، أو الأرض ، أو الأنفس . ان ذلك - أي : إثبات ذلك على كثرته وتفصيله هيّن على الله سهل يسير ، وان كان عسيراً على غيره . مكاشفة إعلم أن حقائق الأشياء مسطورة أولاً في العالم المسمّى باللوح المحفوظ ، بل في قلوب الملائكة المقرّبين المحفوظين بحفظ الله وتبقيته وحراسته إياهم عن الخلل والنقصان والنسيان ، وكما أن المهندس يُسَطّر صورة أبنية الدار في نسخة ، بل في خياله أولاً ، ثم يُخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة المسطورة أولاً في الخيال ، - سطراً لا يشاهد بهذه العين - ، فكذلك فاطر السموات والأرض ، كتب نسخة العالم من أوّله إلى آخره في العالم الأعلى العقلي ، ثم النفسي ، ثم الخيالي ، ثم أخرجه على وفق تلك النسخة إلى الوجود الحسي المدرك بإحدى الحواس . فعلمه تعالى بالأشياء الكائنة على هذا الترتيب بالوجه العقلي ، بخلاف علمنا الانفعالي بها ، الذي يحصل منها على عكس هذا الترتيب ، فإن العالم الموجود الذي خرج إلى الوجود بصورته ، تتادّى منه صورة أخرى إلى الحواس ، ثم إلى الخيال ، ثم إلى النفس ، ثم إلى العقل المنفعل المتحد بالعقل الفعّال . فترتيب الصعود العَوْدي ، على عكس ترتيب النزول البَدْوي ، فالحاصل في العقل الإنساني ، موافق للعالم الموجود قبله على التعاكس في أنحاء الحصول . وتوضيح ذلك : ان من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره ، يرى صورة السماء والأرض في خياله كأنه ينظر إليهما ، ولو انعدمت السماء والأرض في أنفسهما كأنه شاهدهما أو ينظر إليهما . ثم يتأدى من خياله أثر إلى العقل ، فتحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال ، فالعالم الموجود في اللوح العقلي ، وهو سابق على وجوده في القدر والصور المثالية ، وهو سابق على وجوده الجسماني ، ويتبعه وجوده الخارجي الكوني ، ويتبع وجوده الخارجي وجوده الخيالي ، ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي - أعني وجوده في القوة العاقلة الإنسانية المتحدة بالعقل الفعّال - ، وكما أن تلك الصور ومحالّها نازلة من الله تعالى في سلسلة البَدْو ، فكذلك صاعدة إلى الله تعالى في سلسلة العَوْد ، فالله تعالى منه البَدْوُ وإليه الرُّجعىٰ . ثم لمّا كانت بعض هذه الموجودات روحانية عقلية ، وبعضها مثالية ، وبعضها حسيّة ، فكان الموجود الصادر من الحق عقلاً ، ثم نفساً ، ثم حسّاً ، فدار على نفسه فصار حسّانياً ، ثم نفسانياً ، ثم عقلانياً . وان اشتهيت زيادة الاطلاع على حكمة الله تعالى في خلق العالم ، وعجائب صنعه في الموجودات ، حيث أبرز مكنونات المكوّنات بقدرته وارادته أولاً في قضائه وقدره ، ثم أظهر مستورات الحقائق وخفيّات المخلوقات ثانياً بتوسط القلم الأعلى واللوح الأعظم ، على منصّات الأكوان في عالم الزمان والمكان ، فاستمِع لشرحه اليسير الذي يتيسر سماعه للمحدق البصير : فنقول : إن الباري تعالى ، لمّا شرع في الإفاضة والجود ، فأول ما أفاد وجودَه هو العالم العقلي المشتمل على صور روحانية ، هي جواهر مجردة عن الأجسام والمواد ، منزهة عن العوائق الخارجية والفساد ، مدركة لذواتها ولما عداها بذواتها - على ما بيّن بالبرهان ، ونُص عليه في الحديث والقرآن ، وصرح به في كتب أهل العرفان - ، وهي من عالم الأمر كما قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إن الله كتب كتاباً قبل أن يَخْلق الخَلْق : إنَّ رحمتي سبقت غضبي . فهو مكتوب عنده فوق العرش " . وهذا العالم ، عالم الملائكة الموكلين بعالم السموات والأرضين على وجه الإفاضة والتأثير ، وأعلى منهم الكروبيّون ، وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم إلى الأجسام ، بل لا التفات لهم إلى غير الله ، لاستغراقهم بشهود جمال الحضرة الربوبية وجلالها ، ولا يستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الحق عن الإلتفات إلى غيره . وقد وقع في الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إن لله أرضاً بيضاء مشحونة خلقاً لا يعلمون أن الله يُعصى في الأرض ، ولا يعلمون أن الله خلق آدم وابليس " . وهذا الصنف من المفارقات التي ليست واقعة في سلسلة علل الأجسام ، وليست فيها جهة نقص يكون بإزائها قصور في معلولاتها القريبة الجسمانية ، فعبر عن تلك الجهة بعدم علمها بعصيان العصاة لأن علومها فعلية ، فَتَدَبّر . وبالجملة ، الجميع أنوار محضة عقلية ، إلاَّ أن بعضهم المهيّمون - وهم الأعلَون - وبعضهم الأدنون في الصنف الأخير ، وهم أنوار قاهرة فيما تحتها من النفوس والأجرام بتأثير الله تعالى ، وقاهريتها صورة صفة قاهرية الله تعالى وجبّاريته ، كما أن نوريتها من سَبَحات وجهه وجماله تعالى ، وبهذه الاعتبار تسمى " الملائكة المقرّبون " . وعالمها عالم القدرة ، وعالم الجبروت ، إذ يفيض فيها صور الأشياء وحقائقها بإفاضة الحق سبحانه ، وكذا يفيض عنها صفاتها وكمالاتها التي بها يجبر نقائصها ، فعلم أن جميع الحقائق بأعيانها وكمالاتها منتقشة فيها ، وبهذا الاعتبار تسمى : " عقولاً " . وذلك الانتقاش هو صورة القضاء الإلهي ، فالقضاء عبارة عن ثبوت صور جميع الأشياء في العالم العقلي على الوجه الكلي ، ومحله عالم الجبروت لتقدسه تعالى عن شوب الكثرة ، وهو المسمى " بأم الكتاب " ، الذي أشار إليه قوله تعالى : { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] . وكل ما يفيض علينا من العلوم الحقة الموسومة بالعلوم اللَّدُنية تفيض عنه كما قال تعالى : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [ العلق : 3 - 4 ] . وتلك الجواهر خزائن غيبه كما قال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] . وكما أن العالم الروحاني بجوهره المجرد محل القضاء ، فالعالم النفساني بجرمه السماوي محل القَدَر ، إذ الصور العقلية الكلية في عالم القضاء في غاية الصفاء والوحدة ، لا يتراءى ولا يتمثل لغيرها لشدة نوريتها ، كمرآة مضيئة تردّ البصر عن إدراك ما فيها من الصور بشعاعها ، فتنتسخ تلك الصور منه في النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم ، كما تنتسخ بالقلم في اللوح صور معلومة مضبوطة منوطة بعللها وأسبابها على وجه كلي ، كما يظهر في قلوبنا عند استحضارنا للمعلومات الكلية كالصور النوعية - مثلاً - وكبريات القياس عند الطلب للرأي الجزئي المنبعث عنه العزم على الفعل ، وهو " اللوح المحفوظ " ، ومحل القضاء ، لانضباط تلك الصور فيه وانحفاظها عن التغير والزوال . ثم ينتقش منه في النفوس الحيوانية الجزئية السماوية ، التي هي قوى نفوسها الناطقة ، منبعثة منها ، منطبعة في أجرامها نقوش جزئية مشخصة بأشكال وهيآت معينة ، مقارنة لأوقات معينة ، مقدرة لمقادير وأوضاع معينة من لواحق المادة - على ما يظهر في الخارج - ، كما تنتقش في قوتنا الخيالية المعلومات الجزئية كالصور الشخصية وصغريات القياس مثلاً ، ليحصل بانضمامها إلى تلك الكبريات رأي جزئي ينبعث عنه القصد الجازم إلى الفعل المعين ، فيجب عنه ذلك الفعل بعينه ، وذلك العالم هو : " لوح القدر " . " فالقَدَر " عبارة عن حصول جميع الموجودات في العالم النفسي على الوجه الجزئي ، مطابقة لما في المواد الخارجية ، مستندة إلى أسبابها ، واجبة بها ، لازمة لأوقاتها . وعالمه : " عالم المثال " ، لأنه خيال العالم وسماء الدنيا التي تنزل إليها الكائنات أولاً من غيب الغيوب ، ثم تظهر في عالم الشهادة - كما ورد في الحديث - . وتلك النفوس من قوى نفوسه الناطقة ، بمثابة قوانا الخيالية من نفوسنا ، وكل منها " كتاب مبين " ، كما أشير إليه بقوله تعالى : { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . وقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] . وحصول تلك الصور المعينة المقيدة بوقتها المعين هو " قَدَر الشيء " المعيّن الخارجي كما قال : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] . ومحل هذا القدر هو الهيولى الأولىٰ ، التي هي بعينها " لوح ذلك القدر " الذي محله الملكوت العمّالة بإذن الله ، كما أن محل القدر ولوح القضاء هو : " العالَم النفسي " ، ومحل القضاء هو : " عالم الجبروت " . وهذه التي ذكرناها جملة تحتاج إلى التفصيل والتدقيق في غير هذا الموقف ، وقد فصّلناها وبسطنا القول فيها وفي نظائرها من المقاصد الربوبيات في كتابنا الكبير المسمى بـ " الأسفار الأربعة " . ومن عجائب صنع الله سبحانه ، أنه أبدع نظائر جملة هذه الحقائق المتعلقة بذاته المقدسة من القلم ، واللوح ، والقضاء ، والقدر ، وعالمي الخلق والأمر ، والشهادة والغيب ، والدنيا والآخرة . وأودع من كل واحد من تلك المعاني أنموذجاً ومثالاً في فطرة الآدمي وروحه ، لتصير صورة الإنسان مثالاً له ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً ، وان لم يكن مِثْلاً له لتعإليه عن الشبه والمثل . فكما أن لأفعال الإنسان - عند إرادة صدورها منه وبروزها من مكامن غيبها إلى مظاهر شهادتها - أربعة مراتب : لكونها أولاً في مكمن روحه العقلي ، الذي هو غيب غيوبه في غاية الخفاء ، كأنها غير مشعور بها ثم تنزل إلى حيّز قلبه الحقيقي ونفسه الناطقة عند استحضارها وإخطارها بالبال كلّية . ثم تنزل إلى مخزن خياله ونفسه الحيوانية مشخصة جزئية . ثم تتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهاره فيظهر في الخارج . فكذلك الحال فيما يحدث في العالم بعناية الله تعالى وارادته من الحوادث ، إذ الأولى بمثابة القضاء ، ومحله بمثابة القلم . والثانية بمثابة نقش اللوح المحفوظ ، ومحله اللوح المحفوظ من الفساد ، لأنه جوهر روحاني ناطق لا يفسد بفساد البدن . والثالثة بمثابة الصورة في السماء الدنيا ، ونقش لوح القدر على ما نراه ، ومحله اللوح المقدر والجسم الصيقل البخاري الدخاني المشابه للسماء وهي دخان ، والرابعة بمثابة الصور الحادثة في المواد العنصرية . ولا شك أن النزول الأول لا يكون إلاَّ بارادة كلية ، والنزول الثاني بارادة جزئية خفيّة تنظم إلى الإرادة الأولى الكلية ، فتتخصص بها وتصير جزئية ، فينبعث بحسب ملائمتها ومنافرتها رأي جزئي يستلزم إرادة جازمة داعية إلى إظهاره ، فتتحرك الأعضاء والجوارح ويظهر الفعل ، فحركة الأعضاء ، بمثابة حركة السماء ، وظهور الفعل هو القَدَر على المذهب الثاني . وكما أن سلطان الروح - الذي هو التعقل والإدراك في البدن - لا يظهر إلاَّ في الدماغ - لمكان الروح الدماغي النفساني - ، فكذلك سلطان الروح الكلي - الذي هو روح العالم - ، لا يكون إلاَّ في العرش لمكان القوة المحركة السارية فيه ، فهو من العالم بمنزلة الدماغ من الإنسان . وكما أن مظهر الأول فينا هو " القلب " الذي هو منبع الحياة ، فكذلك مظهره الأول فيه هو " الفَلَك الرابع " الذي هو فلك الشمس ، ووسط العالم ، ومنبع حياة العالم ، ومنشأ تدبير الكائنات ومنوّرها بالنور الحسي المظهر لكل شيء من الأجرام ، والمعطي لها حقها من الحياة الحيوانية الحسية ، كما أن الباري تعالى منبع الحياة العقلية للذوات العقلية النورية ، والمنوّر لذواتها ، والمكمل لها بافاضة العشق والنور والوجود على ذواتها التي أبدعت على كمالها الأتَمّ وعشقها وتألهها منذ أول الفطرة ، من الله مبدؤها وإليه منتهاها . فالشمس : مثال الله الأعظم ، وخليفته في عالم الأجسام بروحها وقوتها الساريتين في كل جسم من العالم ، وكذلك القلب مثاله وخليفته في عالم البدن الإنساني بروحه الحيواني وقوتها الساريتين في كل عضو من الإنسان . فروح الفلك بمثابة الروح الحيواني الذي في القلب ، إذ به تحيى جميع الأعضاء . وهو " البيت المعمور " المشهور في الشريعة انه في السماء الرابعة ، المُقْسَم به في التنزيل حيث قال : { وَٱلطُّورِ * وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ * وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ * وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [ الطور : 1 - 6 ] . ولهذا جعلت مقام عيسى روح الله - على نبيّنا وآله وعليه السلام - ، و " الكتاب المسطور " هو نقش القضاء الأول الثابت في الروح الأول العقلي ، وذلك الروح هو " الرق المنشور " ، " والسقف المرفوع " هو السماء الدنيا المذكورة ، وقريب بالبيت المعمور ، لنزول الصورة منها ونفخ الروح منه ، فيتم بهما خلق الحيوان ، و " البحر المسجور " هو بحر الهيولى السيّالة المملوّة بالصور ، وهي الهاوية والجحيم عند ظهور القيامة - والله أعلم - .