Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 29-29)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" لا " في " لئلاّ يعلم " زائدة . و " أن " في " أن لا يقدرون " مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف وهو الشأن ، أو ضمير راجع إلى أهل الكتاب أي : لأن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء مما ذكر من فضل الله من الكِفلين والنور والمغفرة ، ولا يتمكنون من نيل شيء منه ، لأن جميعه مشروط بالاعتقاد الصحيح في حق الله ورسوله ، وهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلا ينفعهم إيمانهم بغيره من الأنبياء بعدما فرقوا بين رسل الله ، وليعلموا أن الفضل بيد الله وقدرته ، ويؤتيه من يشاء بمشيّته السابقة ، وارادته الأزلية المنبعثة عن علمه باختلاف القوابل وتفنن الماهيات - والله ذو الفضل العظيم - ، بإفاضة نور الوجود على هياكل الممكنات . وقيل : إن المراد بفضل الله ها هنا النبوة ، أي : لا يقدرون على نبوة الأنبياء ، ولا على صرفها عمن يشاء الله أن يخصّه بها ، فيصرفوها عن محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى من يحبونه ، بل النبوة كسائر الفضائل الموهبية بيد الله ، لا مدخل لتعمّل الناس في استجلابها ، يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ومستحقها . وقيل : " لا " ها هنا في حكم الثبات ، والمعنى : لأن لا يعتقد أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين به لا يقدرون على شيء من فضل الله ولا ينالونه ، فعلى هذا يكون الضمير في " يقدرون " للنبي والمؤمنين ، ويكون " أن الفضل " عطفاً على " أن لا يعلم " . أو لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا ، ويكون المراد : لكي يعلموا أنهم يقدرون على الإيمان وطلب الفضل والثواب . وقرأ الحسن : " لَيْلا يعلم " - بفتح اللام وسكون الياء - ، وروي بكسر اللام أيضاً - وتوجيهه على ما قيل ، بأن حذفت الهمزة من " لان " لثقلها حتى صار " لن " ، ثم أدغمت " النون " في " اللام " للمجانسة بينهما ، فصار " لِّلا " - بالكسر - ثم أبدلت اللام الثانية المدغمة في الثالثة " ياء " ، كإبدالهم الواو المدغمة وغير المدغمة ياء في " ديوان " و " قيراط " ، فإن الانتقال من المضاعف إلى المعتلّ متعارف عند أهل اللسان . وأما الفتح - كما في قراءة الحسن : فعلى أن أصل لام الجر هو الفتح ، وقرئ : " لكي يعلم " ، و " لكيلا يعلم " ، و " ليعلم " ، و " لأن يّعلم " - بادغام النون في الياء ، " ولين يّعلم " بقلب الهمزة ياء ، وإدغام النون في الياء ، كما ذكر في الكشاف . مكاشفة إنما يستشعر من الآية الكريمة ، أن لأهل الإيمان اقتداراً على استجلاب فضل الله وتمكناً من استدرار رحمته ، ومفهوم الخلاف وان لم يكن معتبراً عند الأكثر ، سيما في مثل هذا المقام حيث عقّب بقوله : { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [ الحديد : 29 ] ، إلا أنه مما يمكن تصحيحه ها هنا بوجه عقلي ، فإن الفضل وان كان كله من عند الله بحسب مشيئته بلا تأثير لغيره في الإجارة ، وتوسيط لما سواه في الإفاضة ، لكن لا بد من تعلق المشيّة بواحد دون واحد من مخصص ، لامتناع الترجيح من غير مرجّح ، - كما هو المذهب المنصور - . فللعبد اختيار في اكتساب المرجّح بتحصيل المعارف الإيمانية والعقائد الحقة - أولاً - ، ثم العمل بمقتضاها - ثانياً - ، ثم الانتظار لهبوب رحمة الله وفضله - ثالثاً - . فإن من حصّل المعرفة بالله ورسوله واليوم الآخر ، والاعتقاد والثواب للمحسن ، والعقاب للمسيء - وان كان على وجه التقليد والظن - ، حَصَل لنفسه تشوّق إلى تكميل جوهره بتحصيل اليقين والوصول إلى ثواب الله والتقرب إليه ، فيبعثه ذلك على قمع الشهوات الظاهرة عن النفس - أولاً - ، ثم على قلع الصفات الذميمة الباطنة عن القلب - ثانياً - ، ثم يختار العزلة والخلوة عمّا يشوّش ذكره ويوسوس طبعه ، فيجلس للمراقبة والذكر والفكر ، ثم يؤدي به ذلك إلى أن يجعل همومه ومقاصده وأغراضه واحداً - هو التشوق إلى طلب الحق - . وإذا غلب ذلك على قلبه ، فهو بعدُ ناقص محروم ، ما لم يكن من المتفكرين وأهل العلم ، فإن كان له مجال في التفكر ، وحركة معنوية في الباطن ، شغله ذلك عند التجرد عن محاربة الشيطان ووساوس الوهم ، بإبداء الشبهات والشكوك في قلبه ، حتى يضلّه ذلك عن الطريق ، وان لم يكن له سير في الباطن ، وحركة معنوية في الملكوت ، فلا تنجيه الأوراد المتواصلة والصلوات المتعاقبة ، بل يحتاج معها إلى تكليف الحضور لقلبه بالأفكار المعنوية ، فإن التفكر في الباطن هو الذي يستغرق القلب ويسخّر النفس دون الأوراد الظاهرة . وربما لم يسلم مع ذلك من الآفات الشاغلة له في بعض الأوقات من الفكر والذكر ضرورية كانت أو غير ضرورية ، كمرض وخوف ، أو إيذاء من مخاصم ، أو طغيان من مخالط لضرورة المعيشة أو اشتغال بمطعم أو ملبس مما يُحْوِجُهُ إلى شغل تولاه بنفسه ، فإن تيسر له قطع هذه العلائق لتسلم له أكثر الأوقات ، فيصفو قلبه ، وينشر فكره في عالم الملكوت ، وينكشف له من أسرار الله ما لا يقدر على شيء قليل منه جملة الأذكياء المشتغلين بقلوبهم بالدنيا وعلائقها . وهذا أقصى المقامات التي لاختيار العبد مدخلية في أن تنالها بالاكتساب والجهد ، فأما مقادير ما ينكشف له من فضل الله ، ومبالغ ما يرد عليه من رحمته ، فهو خارج عن اختياره واقتداره ، فإنه يجري مجرى الصيد ، وهو بحسب الرزق والطالع الأسمائي ، الذي طالع طالعه السمائي ، فقد يقل الجهد ويحلّ الصيد ، وقد يطول الجهد ويقصر الحظ ، فالمُعَوّل بعد ذلك على جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين ، وليس ذلك باختيار العبد ، وان كان له اختيار في أن يتعرض لتلك اجذبة بالاكتساب من الرياضات الفكرية والعملية ( العلمية ) . وإليه الإشارة بقوله : إن لربكم في أيام دهركم نَفَحات ، أَلاَ فَتَعَرّضوا لها . وذلك بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا ، فإن المجذوب إلى أسفل السافلين كيف ينجذب إلى أعلى عليين ، وذلك لأن تلك النفحات والجذبات أرزاق معنوية بمنزلة الرزق الصوري ، فلها أسباب سماوية رحمانية ، كما أن للرزق الصوري أسباباً سماوية جسمانية ، إذ قال : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] . فإن هذه السماء الجسمانية مثال وظل لمبدء رحمانيته تعالى المنبعث عنها الأرزاق الصورية والمعنوية كلها ، ولهذا وقعت الإشارة بقوله : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . وهذا الذي كلامنا فيه ، من أجلّ مراتب الرزق المعنوي ، فهو أيضاً من أسباب سماوية قدسية ، والأمور السماوية غائبة عنّا فلا يُدرى متى يسّر الله أسباب الرزق ، فما علينا إلاَّ تفريغ محل القلب والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أَجَله ، - كالذي يصلح أرض الزراعة وينقّيها من الحشيش ويبث فيها البذر - ، بأن يصفي المريد القلب عن ذمائم الصفات ، ويبث فيه بذر المعارف الإلهية - وكل ذلك لا ينفعه إلاَّ بنزول المطر - ولا يدري متى يقدّر الله أسباب المطر ، إلاَّ أنه يثق بفضل الله وسنّته في أن لا يخلي الأرض سنة عن مطر ، فكذلك قل ما يخلو قلب المريد الصافي في شهر أو يوم عن جذبة من جَذبات الحق . وبالجملة - فقد عُلم أن تطهير القلب عن حشيش الشهوات ، والبَذْر فيه ببذر الإيمان بالله ورسله وملكوته ، وجعله لمهابّ فضل الله مما لاختيار العبد مدخل فيه ، إلاَّ أن يكون في غاية الجمود والقساوة لسبق الكفر المتمادي ، أو الفسوق المتراكم كالجاحدين من أهل الكتاب . وأما نزول أمطار الفضل ، وهبوب رياح الرحمة ، فلا اختيار للعبد فيه ، بل كله بيد الله يؤتيه من يشاء . فقوله : ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله ، نعي عليهم وإبعاد ووَيْل لهم ، حيث لا يمكنهم تطهير الباطن وتصفيته عن الرذائل لاستدرار رحمة الله وفضله ، وذلك لجمود قرائحهم الجاسية ، وفساد قلوبهم القاسية . كما قال : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 22 ] . خاتمة هذه السورة مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ، وقيل : ثمان وعشرون والاختلاف في قوله : { مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] و { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } [ الحديد : 27 ] . وعدد كلماتها خمسمأة وثلاث وسبعون . وحروفها ألفان وأربعمأة وتسعون . وانتظام ختم الواقعة بافتتاحها أنهما في التسبيح . وانتظام السورتين أن تلك السورة في ذكر السابقين وأصحاب اليمين والمكذبين الضالين ، وهذه السورة في كيفية الارتقاء إلى درجة السابقين وأصحاب اليمين بالمعارف الحقّة والأعمال الصالحة ، وفي حث الفائزين بالوصول إلى درجة المقربين والسعداء بسبب الإيمان ، على تقويته وتوسيع دائرته وتكثير فوائده ، ودفع المُطْفين لأنواره ، والجاهدين لآثاره ، من الكَفَرة الفَجَرة ، وترغيب المؤمنين في مجاهدة الكافرين والإنفاق على المجاهدين . فافتتحت السورة بتقديس الله عن النقائص وصفات الممكنات ، وسمات الحادثات ، بلسان كل من في سمٰوات عالم الملكوت ، وما في أرض عالم الملك ، وبذكر أن جميع ما وقع عليه اسم الوجود ملكه ، وتحت تسخيره ، جار عليه سلطانه ، نافذ فيه حكمه ، سار فيه أمره ، يصرفه كيف يشاء بالإحياء والإماتة . ثم ذكر أن منشئ مملكة السموات والأرض وبانيها - مع تمادي أزمنة بقائها ، واتساع أمكنة أرضها وسمائها - ، مما لا يغيب عنده زمان عن زمان ، ولا يفوت لديه مكان عن مكان ، بل جميع الأزمنة والزمانيات - لإحاطته القيومية - في حكم آن واحد في الحضور لديه ، وكافة الأمكنة والكائنات بتمامية الإلهية في حكم نقطة واحدة في المثول بين يديه ، من غير تطرّق تجدّد وتغيّر في ذاته ، أو احتمال تجزٍ وتكثّر ( تجبّر وتكسّر - ن ) في صفاته ، وذلك لأنه هو الأول في عين آخريّته ، وهو الظاهر في عين باطنيّته ، ولما كان هذا مستلزماً لشمول علمه بجميع الموجودات ، وإحاطة شهوده بجملة الكائنات ذكر عقيبه : { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3 ] و [ الأنعام : 101 ] . ثم أشير إلى أن عمله بكل شيء بنحو العلم بأسباب ذلك الشيء وعلله ، - الذي هو أجلّ مراتب العلم وأوثقها وأتقنها - ، ليعلم أن عالميّته بالأشياء بأي نحو من ضروب العالِميّة وليعلم أنه ليس باحساس ولا بانفعال ، وإلاَّ يلزم استكمال الكامل بالناقص ، وانفعال العالي عن السافل ، فذكر أنه مبدع الأشياء وخالق الأرض والسماء في أقل من عدد كامل - هو السبعة - أعني الستة . ثم لمّا كان أسباب وجود الكائنات وشرائط حفظها وبقائها : من الأرزاق والآجال ، ينزل من عنده بواسطة السمٰوات وقواها المحرّكة لها شوقاً إلى طاعة بارئها فنون الحركات ، وصنوف اختلاف الأوضاع والنسب التي تنشأ منها الكائنات ، وينبعث منها الحيوان والنبات على ما جرت عليه سنّة الله التي لا تبديل لها ، وجملة المتحركات السماوية والأكر الكوكبية في فلك واحد عظيم مشتمل على الجميع اشتمال الشخص الإنساني على أعضائه وجوارحه وأركانه ، هو المحدد بجسميّته للجهات والأبعاد ، وبمقدار حركته للأزمنة والحركات ، فهو بنفسه وعقله يدبّر الكل ، ويَسُوس الجميع بإذن مبدعه ومحرّكه ومدوره وموجد نفسها ومحركها ، تحريكاً شوقياً بالحركات النفسانية ، والأوراد والأذكار القدسية ، والانتقالات العلمية ، والطاعات الملكية ، كل ذلك تشوقاً إلى جنابه ، وتقرباً إلى طاعته ، وامتثالاً لأمره ، وتضرعاً وابتهالاً نحوه وتشفعاً لديه لإنجاح مقاصد الملهوفين ، واستغاثة عنده لإغاثة المحتاجين ، واصلاح أحوال الهابطين إلى معدن الظلمات ، وإعلاء مرتبة النازلين في مهوى عالم الجهالات من أهل الاستعداد ، وإصعادهم عن رتبة السافلين إلى أوْج العليّين بالهامهم معرفة المبدأ والمعاد ، وتوسطاً لجبر كسير وخلاص أسير ، فاريد التنبيه على أن هذه الوسائط ، مما لا مدخلية لها في الإيجاد والإعطاء ، بل هي مظهر الرحمة ومستوى الرحمن ، وهو الذي استوى على العرش لانتظام ما في الكون ، وتسبيب الأسباب ، وتهييج الأشواق ، وانشاء الدواعي ، وتوسيط القوى الفعّالة ، ووضع القوابل المنفعلة ، كل ذلك على سبيل العناية بالسافلات ، وترشيح الخير الدائم على المنفعلات الكائنات بوساطة عالم الحركات العاليات ، الصادرات بأمره تعالى عن الملائكة المدبّرات ، وعباده الساجدات الراكعات ، كما أشير إليهم بقوله تعالى : { غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . ثم عاد إلى بيان علمه بالجزئيات ، بزيادة استيضاح على هذا الوجه المذكور من سبيل أخرى ، فأشار إلى أن من هو شأنه هكذا ، لا بد وأن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، بل يعلم الوالج في الأرض من أسباب قابلية الوجود للكائنات - كالبذور والنُطَف وغيرها من المقادير والكيفيات الاستعدادية - ، والخارج منها - ، كاجساد المواليد الثلاثة وأبدانها ، من الجماد والنبات والحيوان - ، والنازل من السماء ، - كقواها وصُوَرها ونفوسها وما يتحصّل ويتقّوى به أعضاؤها وأحجامها كالأمطار والثلوج وغيرهما - ، والعارج فيها من العقول الصافية الإنسانية التي صارت طيوراً سماوية طائرة إليها من أقفاص الأبدان بجناحَي العلم والعمل ، بخلاف النفوس المتعلقة المقيدة بشهوات هذا العالم ، التي تكون أبدانهم بالقياس إلى نفوسهم البهيمية اسطبل الدواب لا أقفاص الطيور ، فليس لهم قوة الارتقاء إلى ملكوت السماء ، ولا لهم سبيل إلى عالم التقديس وعالم المعنى . ثم لمّا تقدم أنه سبحانه مما لا يتجدد عليه شيء بالغيبة والحضور ، والوجود والدثور ، ولا يفوته شيء من الأشياء ، بل الماضي والمستقبل بالنسبة إليه كالآن في الحضور لديه ، ومع ذلك هو القائم على كل نفس بما كسبت بيديه ، لاستوائه برحمانيته على عرش وجود الحوادث والكائنات ، واستقلاله بالإفاضة والإيجاد على الموجودات من غير تأثير لغيره إلاَّ في الإعداد . فظهر أن لا واسطة بينه وبين كل موجود ، ولا تفاوت فيها عنده ، ولا تعاقب لوجود على وجود لديه ، بل هو بوحدته مقَوّم ذات الجميع ، وبفردانيّته مقرّر ماهية الكل ، أثبت معيّته لنا أينما كنّا ومتى كنّا ، عالين أو سافلين ، سابقين أو لاحقين ، فإذا كان كذلك ، كان علمه حضورياً شهودياً ، إشراقياً نورياً ، فعبّر عن ذلك بأنه { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد : 4 ] . ولما علم مما ذكر سابقاً كونه مبدأً فاعلياً للجميع ، أراد التنبيه على أنه المبدأ الغائيّ أيضاً للكل ، وحيث كان الأول كاشفاً عن الثاني مستلزماً له ، ذكر رجوع الأمور إليه بعدما أعاد ذكر نسبة ملك السمٰوات والأرض إليه ، ليعلم أنه الغاية القصوى للكل ، كما أنه المبدأ الأعلى للجميع بتوسط ( بتوسيط - ن ) المنافع والغايات الجزئية ، وتسبيب ( تسبب - ن ) الأسباب المتوسطة لوجود الأشياء على الوجه الذي أراد وشاء . ثم لما مرت الإشارة إلى الأسباب القابليّة الأرضية والفاعلية السماوية لخلق المركبات العنصرية ، أراد أن يشير إلى أن تأثير الأسباب العالية في القوابل السافلة متوقف على الحركة المتجددة ، ليقرب المعلول إلى علّته - فإن الأمور مرهونة بأوقاتها الحاصلة من حركات أسبابها وتغيّراتها ، فاختلاف الحركات والأوقات سبب لاختلاف الحوادث والكائنات ، كما يشاهد تبدل الفصول الموجب لتخالف الليالي والأيام ، المستلزم لاختلاف أحوال الخلائق والأنام - ، عبّر عن تفاوت الليل والنهار على الوجه المشاهد المستلزم لاعتدال الكائنات بولوج كل منهما في صاحبه ، مومياً إلى المنافع والغايات المترتبة على تفاوتهما في المقدار واختلافهما في الآثار ، وبيّن أن الجاعل لهما على هذا الوجه المقرر ، والمولج لكل منهما في الآخر : - هو سبحانه - ، لتدبير الكائنات ومصلحة الموجودات . فإنه سبحانه لو لم يجعل الأنوار الكوكبية ذات حركة سريعة مشتركة ، واخرى بطيئة مختصة ، ولم يجعل دوائر الحركات البطيئة مائلة عن دائرة الحركة السريعة ، لَمَا مالت إلى النواحي شمالاً وجنوباً ، فلم تنتشر منافعها على بقاع الأرض . ولولا أن حركة الشمس - خصوصاً - على هذا المنوال ، من تخالف سَمْتها لسَمْت الحركة السريعة ، لَمَا حصلت الفصول الأربعة التي يتم بها الكون والفساد ، وتنصلح بها أمزجة البقاع والبلاد ، ولما كان القمر نائباً للشمس خليفة لها في النضج والتحليل ، والإصلاح والتعديل ، وإذا كان قوي النور جعل مجراه يخالف مجراها ، فالشمس تكون في الشتاء جنوبيّة والقمر شمالياً لئلا ينعقد السببان ، وفي الصيف بعكس ذلك لئلا يجتمع المسخّنان ، ولما كانت الشمس في أيام الصيف الطوال شمالية الحركة ، وفي أيام الشتاء القصار جنوبيّتها ، ولها أوْج وحضيض متقابلان بينهما نصف دور ، جعل الله تعالى بحكمته البالغة أوجها في الشمال وحضيضها في الجنوب ، لينجبر قُرْب المَيل عن سَمت الرأس ببُعْد المسافة لئلا يشتد التسخين بالتنوير ، وينكسر بعده بقربها لئلا تضعف القوة المسخنة عن التأثير ، كل ذلك لحكمة العليم القدير ، الحاصلة من تخالف الليل والنهار وتفاوتهما في المقدار . ولما كان بيده وجود الأسباب المؤديّة إلى خلقة الإنسان بدناً ونفساً ، صورة ومعنى ، كان عالماً بصفاته الظاهرة البدنية وملكاته الباطنة النفسانية ، فذكر أنه عليم بذات الصدور ، ليعلم أنه ناقد بصير لا يخفى عليه قليل ولا كثير ، فيجازي على كل عمل قلبي ، كما يجازي على كل حركة بدنية . ولما بيّن أنه سبحانه متصف بغاية العظمة والجلال ، منعوت بكونه مبدأً أعلى وغاية قصوى للكل ، يتضح لذوي البصيرة أن الكل محتاجون إليه في الوجود ، وخصوصاً المعلول الذي تضاعفت فيه وجوه الحاجة ، وكثرت عنده جهات الإمكانات الذاتيّة والاستعدادية ، ولا شبهة في أن مَن هو موصوف بغاية الفقر والفاقة ، من شأنه التشبث بمن هو منعوت بالكرم والإفضال ، ومَن دَأبه التضرع والابتهال وطلب التخلّص عن القصور والوبال ، ممن هو على غاية التمام والكمال ، واستدعاء الاستمداد والاستكمال ممن هو في نهاية العظمة والجلال ، متبرّئ الذات عن النقص والعدم والزوال ، كائناً بذاته الفردانية الأحدية ، منبع كل صورة وكمال ، ومنشأ كل خير وجمال . ثم لا يخفى إن كل ناقص يسوغ له الانتقال من حدود النقص إلى ذروة الكمال ، فله طريق خاص ومنهج معيّن في الترقي إلى أوج الترفع والإقبال ، فللأجسام - بما هي أجسام - الحصول في مطلق الحَيْز والفضاء وللعناصر في الحركة نحو المكان الأسفل والأعلى ، وللنبات في الاغتذاء والنماء ، وللعُجْم من الحيوان في حياته الدنيوية بأنفاسه وحركته بإرادته وإحساسه ، وما من دابة فما دونها إلاَّ ومن شأنه البلوغ إلى أقصى ما لها في ذاتها ما لم يعقها عائق ، ولنوع الإنسان كمال يخصه هو الإيمان بالله وأفعاله القريبة بحسب جزئه العلمي ، والتجرد عن الدنيا واللذات البهيمية بحسب جزئه العملي ، ولهذا وقع له الأمر بالإيمان بالله ورسوله والإنفاق مما زاد على ضرورات بقائه الكوني . ثم بيّن سبحانه عِظَمَ أجْر الإنسان الذي سلك مسلك المعرفة والتجرد بقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الحديد : 7 ] ، لأنه بهذين الأمرين يقرب من الملكوت ويتخلّص عن الناسوت . ثم أظهر سبحانه الاستنكار والتعجب ممن لم يتفطن بالمعرفة بالله عند تحقق الرسول - المعلّم للبشر الداعي إلى طريق الحق - ، مع قابلية الذوات ومناسبتها لمعرفة الحق بحسب الفطرة الأصلية المعبّر عنها " بأخذ الميثاق " . ثم بيّن عظم رتبة هذا المعلم البشري وكيفية ارتقائه إلى مرتبة الرسالة ودرجة التبليغ ، وهو إنما يكون بتنزيل الله سبحانه على عبده المستجمع للفضائل والملكات البشرية الآيات البيّنة والمعارف الحقّة ، لتتنور ذاته بالأنوار القيوميّة ، ويستشرق عقله المنفعل بالأضواء الأحَدية ، وتستضيء نفسه التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار بالإشراقات الصَمَدية ، ويصير عندما مسّته نار الأنوار والشعلات الجبروتيّة نوراً على نور ، ليتنور بنور ذاته المستضيئة بأنوار الله المنتكسينَ في دياجير الجهل والظلمات ، الهابطين إلى مهوى الغفلة والشهوات ، المتزحزحين لضعف الأحداق عن عالم الإشراق ، ويخرجهم من ظلمات الأجسام إلى نور عالم الأرواح ومرجع نفوس السعداء والكرام . ولما كان إرسال الرسول وانزال الوحي وتنزيل الآيات إلى قلبه منه تعالى على وجه لطيف ، حيث صار موجباً لنظم أمور الدنيا ، وتَعَيّش الإنسان على أبلغ نظام مع تحصيل الأهبَّة في سفر الآخرة له ، وأخذه الزاد وربح التجارة في المعاد ، والفوز بأرفع مقام ومراد - فقد كان فيه نفع العاجل مشفوعاً بسعادة الآجل - ، أشار إلى هذا التلطف في الهداية والتكميل والإخبار عن تعلّق صفتي الرأفة والرحمة بالعباد لترتبهم في الوجود والبقاء من جهتي المعاش والمعاد . ولما أمر أولاً بالإيمان والإنفاق اللذين هما خلاصتا الكمال العلمي والعملي . ثم أخذ يسأل شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإيمان في تركهم إياه مع دعوة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأخذ الميثاق - أي وجود المعلّم وقابلية المتعلّم - ، وتأييده سبحانه هذا المعلّم بصنوف أسباب الهداية والتعليم ، فعاد ثانياً شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإنفاق في تركهم إيّاه ، محتجاً عليهم في استقباح هذا البخل والإمساك منهم بأن ما في تملّكهم ليس باقياً لهم ، بل في معرض الزوال ، هو عنهم وهم عنه ، وأن الجميع بالحقيقة ملكه يعود إليه ، وله ميراث كل شيء ، سواء في ذلك المال وذو المال . ثم ذكر تفاضل المنفقين والمجاهدين قبلَ الفتح وبعدَه ، وتفاوتهم في درجة الجزاء والثواب ، فإن أفضل الأعمال أحْمَزُها ، مع أنه وعد الجميع بالحسنى لاشتراكهم في أصل الفعل الحَسَن ، وذكر أنه خبير بمراتب الإخلاص في العمل وحسن النيات ، كما أنه خبير بظواهر الأعمال وبواعث الأفعال . ثم وعد الأجر الكبير مع المضاعفة في مقدار الثواب لمن يقرض الله قرضاً حسناً . ثم بيّن الموضع الذي تتحقق فيه المجازاة على الأعمال ، وتتبيّن فيه الدرجات والأحوال ، ويتميّز فيه السعداء عن الأشقياء ، فذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ، وشيئاً من أحوال المنافقين في ذلك اليوم ، وذكر تخلّف المنافقين عن المؤمنين في سلوكهم طريق النجاة بنور المعرفة والسداد ، وتمنّيهم الاقتباس من نور معرفة المؤمنين مع استحالة ذلك ببطلان استعدادهم الفطري ، وزوال قابليّتهم الجِبِلّيّة . وذكر ردّ المؤمنين ملتمسهم ومقترحهم بالتنبيه على فقدان القبول لهذا الاقتباس ، والإشعار بما يوجب لهم الخذلان واليأس . ثم ذكر أنّه وقع عند ذلك حاجز ذو باب باطنه يلي عالم القدس والرحمة والنعمة ، وظاهره يلي عالم الظلمة والغضب والنقمة . ثم أشار إلى نداء أهل الجحيم لأهل النعيم ، وسؤالهم إياهم بسبب علوّ مرتبتهم وانحطاط مرتبة مرتبتهم مع الاتفاق بينهم في ظواهر الأعمال البدنية ، والتساوي في مزاولة العلوم الدينيّة ، وبطلان ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح ، فحكى الجواب لهذه الشبهة الواهية التي هي أوهن من بيت العنكبوت من قِبل البارعين في العلم من أفاضل المؤمنين : إن ملاك التقرب إلى الله تعالى ، والصعود إلى معارج القدس ، إنما هو بالإخلاص في النيّات ، والسير المعنوي في الملكوت ، والتفكر في بدائع الفطرة مع صدق الطويّات ، وأنتم سلكتم مسالك الأمانيّ والشهوات ، والاغترار بالدنيا واللذّات ، بتسلط الغارّ المغوي عليكم ، وإراءة الشيطان لكم الباطل في صورة الحق ، حتى ترسخت فيكم ذمائم الصفات ، وتراكمت في قلوبكم ريون المعاصي والشهوات . فلن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم ، ولا يسمع منكم معذرة ، ولا يؤخذ منكم فدية ولا من الكفار ، النار مأواكم ، والجحيم مولاكم ، إذ كل شيء يصير إلى أصله ، وكل مريض يداوى بعقاقير بلده ، ومأواكم بئس المأوى ( وموليكم بئس المولى - ن ) ، ومصيركم بئس المصير . ثم لما ذكر حسن أحوال المخلَصين ، ووخامة عاقبة المنافقين لأجل اغترارهم بالدنيا ، عاتب المؤمنين المشتغلين باكتساب الدنيا وقلّة التشوق إلى دار الآخرة ، حيث تطرقت فيهم قساوة القلوب لتطاول الأمد ، كما في بني إسرائيل ، ونهاهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلب . ثم تداركهم باللطف بعد هذا التوبيخ بأن قلوبكم وان قست وقصرت عمّا كان في سابق الإسلام ، وماتت بنسيان المعرفة وقلّة تلاوة الآيات والذِكّر الحكيم ، لكن الله يحييها بنور المعرفة والتلاوة والذكر ، لبقاء قابليتها بثبوت أصل الإيمان فيها ، كما يحيى الأرض بعد يبسها ، لبقاء جوهرها ، وان عدمت عنها الطراوة التي هي بمنزلة تذكر الآيات في الإنسان . والقلوب التي لم يبق فيها أصل الاعتقاد ، بمنزلة الأرض التي فسدت ذاتها وأرضيّتها ، وانقلبت سبخة أو رماداً أو ملحاً ، لا يمكن إحياؤها بأنوار المعارف الحقّة ، ومياه الأعمال الصالحة ، كما لا تنصلح المملحة للعشب بأضواء الشمس ومياه المطر . ثم رجع إلى الترغيب والحث للإنسان على اكتساب العلم والعمل ، بحكاية حال العاملين والعالمين ، بذكر الوعد للذين تصدّقوا واقرضوا الله قرضاً حسناً ، - بتضعيف جزائهم وكرامة أجرهم - ، وبذكر الفضيلة للمؤمنين بالله ورسله إيماناً حقيقياً ، بأنهم هم الصدّيقون والشهداء عند ربهم ، والوعد لهم بأجر ونور مخصوصين بهم لمزيد شرفهم ومنزلتهم عند الله ، لمكان المعرفة اليقينية والعمل المنبعث عن محض المعرفة ، والإخلاص الذي لا يوجد مثله في غيرهم ، أما الأجر ففي مقابلة أعمالهم الخالصة ، وأما النور فمن لوازم معرفتهم المحضة بلا شوب غرض ورياء في الأول ، ولا تطرّق شبهة وريب في الثاني . ثم ذكر لتوضيح هذه المنزلة في الاعتقاد والعمل وشرافته ، بذكر ضدها فيهما ، وهو الكفر الذي هو أفسد مراتب الجهل - بازاء فضيلة المعرفة بالله - ، والتكذيب بآيات الله الذي هو أقبح القبائح العملية - بازاء فضيلة العمل الصالح - ، وذلك لأن الأشياء تُعرف بأضدادها . وأخبر بأنهم أصحاب الجحيم بحسب غريزتهم الأصلية ، كما أنهم من أهل هذه الدنيا بحسب طبيعتهم الفطرية ، إذ الجحيم من سنخ هذه الدار الفانية الهالكة الباطلة ، ولهذا وقع الاشتراك بينهما في الخصائص والأحوال . أما ترى أن شأن كل منهما الإحالة والتحليل ، ودأبهما الإماتة والتبديل ، أشخاصهما أبداً في الذوبان والانتقال ، وأجسامهما دائماً في الحركة والارتحال ، حال الساكنين في الدينا نظير ما حكى الله عن حال سكّان الجحيم بقوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] . فاشتركوا في الاستحالة والذوبان ، وكذا حال أهل الدنيا في تضاد عناصرهم في الكيفيات المحسوسة ، وتباغض نفوسهم في الأغراض الخسيسة النفسانية ، والدواعي القبيحة الدنيّة ، وتخالف مذاهبهم الناشئة عن المخاصمة والعناد ، والمناقشة في الحسد واللداد ، كحال أصحاب الجحيم فيما ذكره سبحانه بقوله : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] . وبقوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ ص : 64 ] . إلى غير ذلك من الخصائص الجامعة للدنيا والجحيم ، والصفات المشتركة بينهما ، التي تدل على أن الدنيا بعينها صورة الجحيم ، والجحيم بعينها حقيقة الدنيا . وعلى هذا الرأي شواهد عقليّة ، ومؤيدات نقليّة ، وإشارات قرآنيّة ، ورموزات نبويّة ، ونصوص الهاميّة ، وبراهين حدسيّة ، يستيقنها من يعرفها ، ويستنكرها من ينكرها . وإذ قد ثبتت جهة الاتحاد بين الجحيم والدنيا ، وان أصحاب الجحيم هم بأعيانهم من أصحاب الدنيا أشار سبحانه إلى بيان ماهية الدنيا ليعلم كيفية استتباعها للنار ، واستلزام التلذذ بشهواتها للتعذب بعقوبات الجحيم ، فأمر بمعرفة ماهيّتها وخصائصها ، وحقيقة زهراتها ولذاتها ، بكونها لعب ولهو ، وما ينبعث منها كالتفاخر في الأمور الخسيسة والتكاثر فيها ، وهي أمور باطلة وهمية لا حقيقة لها ، كما لا حقيقة للنار إلاَّ كونها قطّاعة نزّاعة مفرّقة للاتصال ، معدمة للكون والحياة ، وجميع ما ذكرناه أمور عَدَمية لا حقيقة لها . وهذأ الإشراق والنورية ، والتلوّن الذي يتراءى من هذه النار الدنيوية ليست داخلة في حقيقة ناريّتها ، لأنها ليست ناراً صرفة ، بل نار مخلوطة بنور ، ولها مرتبة في الكون والتحصّل ، وأما النار الصرفة الأخروية فهي ليست إلاَّ إهلاكاً وإيلاماً ، ولذلك قيل : " هذه النار الدنيوية غسلت بسبعين ماء عند مراتب تنزّلها إلى هذه الدنيا " ، ليمكن الانتفاع بها رحمة من الله تعالى ، والنار الأخروية مخلوقة من عين غضبه تعالى على من يستحقه . ثم ذكر مثالاً مناسباً لدثورها وزوالها ، ثم أشار إلى أن المتوغلين فيها ، المطمئنين إليها مآلهم إلى الجحيم ، حيث عقّب ذكر التمثيل في فنائها وفسادها واعجاب الكفار بزينتها بقوله : { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الحديد : 20 ] ، ولما كان من عادة القرآن أن لا يتجرد ذكر الغضب والعذاب فيه عن ذكر الرحمة والمغفرة ، عطف عليه قوله : { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ } [ الحديد : 20 ] . ثم رجع إلى تأكيد ذم الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور . ثم أكّد في بيان الاجتناب عن الدنيا بأن أمر بالمسارعة في التباعد عنها للوصول إلى المغفرة والجنّة ، كمسارعة السابقين في المضمار ، وذكر تشويقاً للعباد في هذه المسارعة بوصف عظمة الجنّة وسعة ملكها بما يتصور من البسطة والسعة ، وأنها معدّة للعارفين بالله ورسله ، وأنها من مراتب فضل الله ودرجات تجلّيه على الأفعال والآثار وتطوره بالأطوار ، وذكر أنه ذو الفضل العظيم ، فإن جميع العوالم والنشآت من فضائل ذاته المتعالية عن الشَبَه والنظير ، ومن رشحات فيضه المتعالي عن القصور والتقتير ، وهذه الفضائل الأفعالية زائدة على شؤونات ذاته وتجلّيات وجهه في غيب غيوبه التي لا يحيط بها العدّ والإحصاء ، ولا يمكن لها النعت والثناء . ولهذا ذكر عقيبه بأن كل ما يوجد في هذا العالم ، سواء كانت أموراً خارجية أو ذهنية ، آفاقية أو أنفسية ، فهي مما كانت قبل خلقها في كتاب من علمه تعالى الذي هو من مراتب شؤونه الصفاتية تفصيلاً ، أو الذاتية إجمالاً . وذكر أن من نتائج هذ المعرفة عدم الأسىٰ على الفائت ونفي الفرح عن الآتي . ومن نتائج الجهل بها الخيلاء والفخر المبغوضان له تعالى المنهيّات بنهيه . وينبعث عنهما كثير من الصفات الذميمة والأخلاق الردية ، كالبخل وحمل الناس عليه ، وجميع ذلك مما يورث البعد عن الحق ، والتولي عنه إلى الأمور الباطلة ، ويضر في معاد الشخص من غير نقصان في سلطانه تعالى وملكه ، ولذلك عقّب ذلك بقوله : ومن يتولّ فإن الله غني - في ذاته - حميد - في صفاته . وحيث يمكن أن يختلج لأحد في قلبه أن صفة الغناء المطلق تنافي طلب الصدقات والطاعات وسائر حقوق الله على العباد بألسنة الرسل والكتب ، أشار إلى دفع هذا التوهم ، بأن الغاية في ارسال الرسل بالمعجزات وإنزال الكتب ، وقانون العدالة في الأفعال والصفات ، ليس إلاَّ استقامة الناس واصلاح نفوسهم بمَلَكة العدالة ، وحصول المعاملة بينهم بالقسط والإنصاف ، من غير تعد وجَوْر ، وتفريط ونقص لتدوم معيشتهم الدنيوية وصولاً إلى سعادتهم الأخروية . وكما انه ليس المقصود في خلق أسباب الهداية من الرسل والكتب والقوانين إلاَّ تبقية الناس بحسب الدارين ، لا منفعة تعود إلى ذاته - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - كذلك في خلق الأسباب الجسمانيّة من أدوات الحروب وغيرها ليس المقصود منه إلاَّ منفعة العباد لا غيرها ، ولذلك عقّب ذكر المقصود من الأولى بذكر المقصود من إنزال ما هو من قبيل الثانية ، وذكر أن في إنزال الحديد وخلق آلات الحروب وآلات الصنائع ، ليس الداعي فيه إلاَّ ما يرجع إلى الخلائق ، إذ الفائدة فيه بأس شديد ومنافع للناس ، ولأن في استعمال الأسلحة المتخذة منه تبيّن رتبة حال المجاهدين في سبيل الله ، والناصرين له ولرسله حين الغيبة عنهم ، لا لحاجته - تعالى عن ذلك - إلى الناصر له في إهلاك أعدائه ، لأن الله إذا أراد إهلاكهم ، قوي على ذلك ، عزيز لا نقص في قدرته ولا قصور في عزته . وللإشعار بأن المقصود من إيجاد الممكنات وهدايتهم طريق الحق بارسال الرسل ونصب الأدلة والآيات ، ليس غرضاً يعود إلى ذاته ، بل إنما هو مجرد عناية بالقياس إليهم ، وفيض رحمة عليهم على سبيل الرشح ، ونظم للأمور وترتيب للأسباب وصولاً إلى المسببات ، مترتبة عليها الغايات الجزئية ، ومصالح للعباد ، من غير التفات من جنابه العالي إلى السافل ، أخبر سبحانه أنه قد خلق الأنبياء وأرسلهم وذريّتهم إلى الخلق ، مع تأييده إياهم بجنود لم تروها من الملائكة ، وتنويره قلوبهم بالوحي والكتاب ، والحال أنهم مع ذلك لم يقع الاهتداء بهم إلاَّ من بعض الناس دون بعض ، وكثير منهم فاسقون . ولو كان له تعالى ارادة جزافيّة ، وأغراض جزئيّة ، ومقاصد سفليّة - كما يتصوره العامة - ، لم يتصور ذلك ، ولما كان أولياء الله وأحباؤه ممتحنين بيد الأعادي ، مقهورين بقهر الكَفَرة الفَجَرة ، ممنوعين عن ارشاد الخلق معوقين عن هدايتهم مدة مديدة بسبب كيد المنافقين وافساد الظلمة . ثم أكّد هذا المعنى بالإخبار عن اتّصال سلسلة الرسل والمصطفَين الأخيار على ما هو مقتضى حكمته البالغة ، من عدم تخلية العالم عمن يوحّده ، ويمجّده ويعظّمه ، ويعرّفه ، ويصفه بصفات العظمة والجمال ، ويثني عليه بنعوت الكبرياء والجلال من الأنبياء والأولياء والعرفاء ، ثم الأمثل فالأمثل ، إلى أن بلغت نوبة الإجادة والإفضال إلى الأداني والأرذال ، من غير تعلّق قصد بوجود هذا القسم إلاَّ على سبيل الاستجرار والاستتباع ، كما ان الصانع الحاذق والنجّار المحدق إذا تمت صنعته في موضوع معيّن لها كالخشب مثلاً للسرير أو الباب ، وبقي من الموضوع شيء ، لا يضيع حق قابليّة هذه الفضالة ، بل يصنع منه ما هو أدون منزلة من الأول ، وهكذا ، كالوتد والخلال ، إلى أن يبقى شيء من الموضوع الجسماني ، فهكذا الباري تعالى - وهو أشرف الصانعين - ، يقع من صنعة وجوده الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخسّ ، حتى ينتهي إلى وجود الأشرار والفَسَقة والكَفَرة ، فكان الغرض المقدم في إيجاد المكونات ( الممكنات - ن ) خلقه أشراف نوع الإنسان ، فخلق من فضالته سائر الأكوان ، لئلا يفوت كل ذي حق حقّه ، ولا يضيع عن القابل مستحقّه ، كل ذلك على سبيل الحكمة والعناية الخاليتين عن النقص والشَّين . وذكر أنه عقّب الرسل بالرسل ، وقفّى بعضهم على أثر بعض ، مؤيداً بالآيات من لدن نوح وابراهيم إلى عيسى بن مريم ( عليه السلام ) ، وكان في كل أمّة الغلبة للفساق والنجاة للمهتدين - وهم الأقلّون عدداً من المتوسطين والهالكين - ، وكذا في أمّة عيسى ( عليه السلام ) كان بعضهم ممن آمنوا به واتبعوه ، وكان في قلوبهم رأفة ورحمة فأُتوا أجرهم ، وكثير منهم فاسقون . ولما أخبر تعالى عن ارسال الأنبياء متّصلين إلى عيسى ، وذكر حال قومهم وقومه الغابرين ، شرع في ذكر نبينا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وحال قوّته الظاهر الحاضر ، مخاطباً إياهم ، آمراً لهم بالتقوى والإيمان ، واعداً لهم كِفْلين من رحمته ونصيبَيْن من فضله وجوده ، لشرافتهم وفضيلتهم على سائر الأمم ، لقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . جاعلاً لهم نوراً يمشون به يوم القيامة - وهو نور المعرفة - جزاء إيمانهم بالرسول ، وجزاء تقواهم المغفرة لذنوبهم السابقة ، لأن العلم شرف وتحلية ، والعمل نجاة وتخلية . وهذه المراتب السنيّة لهم فوق سائر الأمم ، لأجل استحقاقهم الذاتي ، وصفاء قرائحهم الفطرية ، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، بعضهم أصفى وبعضهم أكدر ، ولهذا أشار سبحانه تنبيهاً على تفاوت طبقات الخلق في الكمال بحسب الجواهر والاستعدادات بقوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ } ، لخسّة جوهرهم ونقصان قابليّتهم ، والفاعل الفيّاض وان كان متشابهاً في فيضه وجوده ، كما أشار بقوله : { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } ، لكن تختلف آثاره باختلاف القابليات : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] . أما ترى أن الماء حقيقة واحدة متشابهة لكن تختلف آثاره حسب اختلاف الأراضي كما في قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 10 - 11 ] . والشمس ذات واحدة وفعلها الخاص بها الإضاءَة والإشراق ، ومع ذلك يكون لفعلها الوحداني أثران متضادان كتبييض ثوب القصّار وتسويد وجهه . فهذا ما خطر ببالي المنكسر ، وحضر في ذهني الفاتر والقاصر ، من النكات المتعلقة بهذه الكريمة ، مع تضيّق المجال وتعسر الحال وفشوّ داء الجهل والوبال في الأطراف والأكناف ، وترفّع حال الجهلة والأرذال ، وتصدّرهم على الأخيار والأشراف ، وخلو البقاع والبلاد عمن يعرف قدر المعارف والأسرار ، الفائضة على قلوب العباد من خبايا علوم المبدأ والمعاد ، والى الله المشتكى من زمان شاع فيه الجهل والعناد ( والفساد ) ، وكثر فيه الحسد واللّداد ، وانسد طريق المعرفة والسداد ، واستكبر الناس عن تعلم الحق بحسب ما حصّلوه بالوسواس ، وسمّوه علم المذهب لتوصلهم به إلى مراجعة الخلائق إليهم والاستيناس . وله الشكر فيما أخرجنا الله به عن مضائق ظلمات الأبحاث الجدلية والكلامية ، إلى أفضية الأنوار الإلهية القرآنية ، ولرسوله الهادي إلى طريق التوحيد بأسرار كلماته ورموز آياته - محمد وآله - الصلاة والدعاء ، كفى ارشادهم للخلق وافضالهم ، وجزاء هدايتهم للناس وإكمالهم أولاً وآخراً .