Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 3-3)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الواوات الثلاثة للجمعية ، لكن الأولىٰ للدلالة على أنه تعالى مجمع صفتي التقدم والتأخر ، والثالثة للدلالة على أنه مجمع الظهور والبطون ، والوسطى للدلالة على أنه الجامع بين ذينك المجموعين - مجموع الأوليّة والآخرية ، ومجموع الجلاء والخفاء - . وعن عبد العزيز : إن الواوات مقحمة ، والمعنى : هو الأوّل الآخر الظاهر الباطن . لأن من كان منّا أولاً لا يكون آخراً ، ومن كان ظاهراً لا يكون باطناً ، وهذا يلائم القول بأن أوّليته عينُ آخريّته ، وظاهريّته عينُ باطنيّته . وعن ابن عباس : الأول قبل كل شيء بلا ابتداء ، والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء ، فهو الكائن لم يزل ، والباقي لا يزال ، والظاهر : الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه . والباطن : العالم بكل شيء ، فلا أحد أعلم منه . وتوجيه هذا المنقول - وإن كان فيه عدول عن الظاهر المفهوم - أنه مأخوذ من بَطَنَ الشيء بمعنى علم باطنه ، ولهذا أردف بقوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، لأن العالم بوجوه الشيء عالم بما سواه . وعن الضحّاك : هو الذي أوّل الأوائل وأخّر الأواخر ، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن . وقال البلخي : هو كقول القائل " فلان أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه " أي : عليه يدور الأمر وبه يتم . وقيل : هو المستمر الوجود في جميع الأزمنة الماضية والآتية ، الظاهر في جميعها بالأدلة والشواهد ، الباطن عن إدراك الحواسّ والمشاعر الجليّة ، فيكون حجة على من جوّز رؤيته تعالى في الآخرة بهذه الحاسة . وقيل : إن الأول والآخر صفة الزمان بالذات ، والظاهر والباطن صفة المكان كذلك ، والحق تعالى وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وهو منزّه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان . مكاشفة الأوّلية : قد تكون بمعنى كون الشيء فاعلاً ، والآخرية بمعنى كونه غاية مترتبة على وجود الفعل في العين - وإن كانت الغاية بحسب وجوده في العلم متقدمة أيضاً - ، فالله سبحانه أول كل شيء ، بمعنى أن وجوده حصل منه ، وبمعنى أن الغرض في حصول ذلك الشيء منه هو علمه بالمصلحة ، وكونه تماماً في الجود والرحمة فيّاضاً على الأشياء بلا عِوَض ، وآخر كل شيء ، بمعنى أن الغاية التي تطلبه الأشياء وتقصده طبعاً وارادة . والعُرَفاء المتألّهون ، حكموا بسريان نور المحبة له والشوق إليه في جميع المخلوقات - على تفاوت طبقاتهم - ، فالكائنات السفلية كالمبدعات العلوية على اقتراف شوق من هذا البحر الخضيم ، واعتراف شاهد مقر بوحدانية الحق العليم : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ، فهو الحق الأول الذي منه ابتدأ أمر العالم ، وهو الآخر الذي إليه ينساق وجود الأشياء سيّما بني آدم ، إذ منه صدر الوجود ، ولأجله وقع الكون . وهو الآخر أيضاً بالإضافة إلى سير المسافرين إليه ، فإنهم لا يزالون مترقّين من رتبة إلى رتبة حتى يقع الرجوع إلى تلك الحضرة بفنائهم عن ذاتهم وهويّتهم ، واندكاك جَبَل وجودهم وآنيّتهم ، فهو أول في الوجود وآخر في المشاهدة ، والله - عزّ اسمه - حيث أنبأ عن غاية وجود العالم قال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أي : ليعرفون : وقوله : كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقْتُ الخَلْقَ لأِعْرَف . فدلّنا على أنه الغاية القصوى لوجود العالم معروفاً ، كما أنه الفاعل له موجوداً ، ودلّنا أيضاً على بعض الغايات المتوسطة الضرورية بقوله : لولاك لما خلقت الأفلاك . فالمبدأ والغاية لوجود العالم ولقاء الآخرة هو الله سبحانه ، ولذلك بنى العالم ، ولأجله نظّم النظام . قال بعض الحكماء : ولو أن أحداً من الخلق عَرَف الكمال الذي هو الخير الأقصى ، ثم كان ينظّم الأمور التي صدرت منه على الوجه الذي صدرت هي عليه وعلى مثاله ، حتى كانت الأمور على غاية من النظام والتمام ، لكان غرضه بالحقيقة هو ذات الباري ، فهو الأول والآخر بهذا المعنى أيضاً . تتميم قد انكشف أن الموجودات العالية كلها بحسب فطرتها التي فطرها الله عليها متوجهة نحو غايات حقة ، وأغراض صحيحة ، بل الغاية في الجميع أمر واحد ، هو الخير الأقصى ، إلاَّ أن هاهنا غايات وهميّة زيّنت لطوائف من المكلّفين ، فهم سالكون إليها في لبس وعماية من غير بصيرة ودراية ، فهذه الطوائف مع وليّ الوجود ومنبع الرحمة والجود في شقاق ، واتباعها ليسوا عباد الله في الحقيقة ، ولا الله مولاهم الحق ، وحيث ما يتولّونه فلهم لا محالة وليّ ، وهو شيطان من الطواغيت ، ولما كان فعل الشيطان الوسوسة والإضلال ، ولا يطيعه الإنسان إلاّ بقوته الوهمية التي هي من جنود الشيطان ، فإن شئتَ سَمّهم عَبَدَةَ الهوى ، وإن شئتَ سَمّهم عَبَدَةَ الطاغوت ، فقد نزل لكل ذلك القرآن . فمن تولي الله وأحب لقاءَه ، وجرى على ما أجري عليه النظام فقد تولاّهم و { مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 62 ] { وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ } [ الأعراف : 196 ] . من كان لله كان الله له ، و { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } [ العنكبوت : 5 ] . ومن تعدّى ذلك وطغى ، وتولى الطواغيت ، واتّبع الهوى ، فلكل نوع من الهوى طاغوت ، فَشَخَصَ كلٌ إلى معبوده ووجه إليه كما في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] . وإنك لتعلم أن النظامات الوهمية والغايات الجزئية تضمحل وتبقى ، فكل من كان إلهه هواه ، ووليّه الطاغوت - والطاغوت من جوهرة هذه النشأة الدنيوية التي هي دار الغرور وموطن الزوّر - ، كلما أمعنت هذه النشأة في العدم ، ازداد الطاغوت اضمحلالاً فيذهب به ممعناً في وروده العدم ، منقلباً به في الدركات حتى يحلّه دار البوار . عصمنا الله وإخواننا في اليقين من متابعة الهوى ، والركون إلى زخارف الدنيا ، وجعلنا من عباده الصالحين الذين يتولاّهم برحمته يوم الدين . وأما كونه ظاهراً : فلكونه نور السموات والأرض ، والنور حقيقته الظهور ، لأن ما ليست حقيقته النور فإنما يظهر بالنور ، والنور بنفسه ظاهر وبذاته متَجَلّ . وأما كونه باطناً - أي مختفياً - : فلشدة ظهوره وغاية وضوحه ، ولأجل ذلك يختفي على الضمائر والأنظار ، ويحتجب عن العقول والأبصار ، فذاته بذاته متجل للاشياء ولأجل قصور بعض الذات عن قبول تجلّيه يحتجب ، فبالحقيقة لا حجاب إلاَّ في المحجوبين . والحجاب هو القصور والضعف والنقص ، وليس تَجَلّيه إلاَّ حقيقة ذاته ، إذ لا معنى له بذاته ، إلاَّ صريح ذاته ، لان صفاته ليست زائدة على ذاته كما أوضحه الربّانيون . أَوَ لاَ ترى الشمس التي هي أشد الأنوار الحسية ، وأقوى الأضواء البَصَرية ، كيف احتجبت لفرط ظهورها على الحاسة البصرية ، حتى لا يمكن للبصر لأجل ضعف قوته ملاحظتها إلاّ من وراء الحجاب ، كالمرآة أو الماء أو السحاب الرقيق ، كما قال الشاعر : @ كالشمس يمنعك اجتلاؤك وجهها فإذا اكتست برقيق غَيْم أمكنا @@ فكذلك الحق سبحانه ، فإنه وإن لم تُحط بحقيقته العقول والأفكار ، ولم تدرك ذاته البصائر والأبصار ، إلاَّ أنه ليس لوجهه نقاب إلاَّ النور ، ولا لذاته حجاب إلاَّ الظهور ، ولم يمنع القلوب من الاستنارة والاستجلاء بعد تزكيها عن كدورات الشهوات إلاَّ شدة الإشراق وضعف الأحداق . فسبحان من اختفى عن بصائر الخلق نوره ، واحتجب عن عقولهم لفرط الوضوح ظهوره ، وهو بكل شيء عليم ، لأنه بنور ذاته يظهر جميع الأشياء على ذاته ، إذ العلم بالشيء ليس إلاَّ ظهوره عند شيء آخر ، ومثوله بين يديه ، والله خالق كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، إذ بيده ملكوت الأشياء ، ومنه تنشأ حقائق الأنباء .