Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 7-7)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
خاطب سبحانه ذوي العقول كافة من الآدميين ، دون الملائكة لكونهم مفطورين على العلم بالله ورسوله ، مقدّسين عن مزاولة الخبائث ليحتاجوا إلى التزكية بالإنفاق ، دون سائر الحيوانات وما هو أدون منها من الجماد والنبات ، لانحطاط درجتها عن استماع هذا الخطاب ، فقال : معاشر العقلاء المكلّفين : - آمنوا بالله - أي : اعتقدوا بوجود الحق الأول ، وكونه آله الخلق ، وأقرّوا بوحدانيته وتنزيهه وتمجيده . - ورسوله - أي : بكونه مرسِلاً إياه ، أو صدّقوا رسوله واعترفوا برسالته ، لاتصافه بخصائص الأنبياء من خوارق العادات والعلم بالمغيّبات . - وانفقوا - تقرّباً إلى طاعته ، وتخلصاً عما يلهيكم عن معرفته ، ويبعدكم عن جواره ، - مما جعلكم مستَخْلفين فيه - أي : من مال الله وغيره الذي خلقه لمصالح عباده ، وإنما مولّيكم إياه لتكونوا خلفاء من قبل الله في صرفه لوجوه المنافع والمحاويج ، وخَوَّلكم الاستمتاع والانتفاع . فليست الأموال بالحقيقة إلاَّ لمن خلقها ، لا لمن كان متصرفاً فيها بنقلها من موضع إلى موضع ، أو مضافة هي إليه ، فإن مجرد الإضافة إلى شيء لا توجب التسلط لأنها نحو ضعيف من التعلّق ، وإنما يكون التعلق القويّ والتسلط التام على شيء بالقدرة على إيجاده واعدامه ، والقادر على ما يشاء إنما كان هو الله تعالى دون غيره ، فالأموال كلها عارية في يد المتولّين لها ، إلاّ أن الله جعلهم برهة من الزمان بمنزلة وكلاء مستخلفين فيها . وإنما أوضح الله سبحانه كون المال عارية بيد صاحبه ليهون على الناس الإنفاق منه ، كما يهون عليهم النفقة من مال غيرهم إذا كانوا مأذونين فيه مأمورين به . وعن الحسن : أنفِقوا من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم . وفي هذا تنبيه على أن المال حيث انتقل وصار اليكم ممن قبلكم ، وسيصير منكم إلى من خلفكم ، ينبغي أن تعتبروا بحال من سبقكم وعدم انتفاعه به نفسه ، وأن تنتفعوا أنفسكم بالإنفاق منه ، وأن تستوفوا حظوظكم البدنية والعقلية الدنيوية والدينية منه قبل أن يخرج الأمر من يدكم وينتقل المال إلى غيركم . مكاشفة واعلم أن هذا الحكم كما يشمل النعم الخارجية ، كذلك يشمل النعم الداخلية ؛ من الأعضاء والحواس والقوى التي أنعم الله بها علينا ، وخوّلنا الاستمتاع بها في الدنيا وللانتفاع بها لأجل الآخرة ، بأن نصرفها في عبادته ومعرفته ، وستزول وتتخلف عنّا عن قريب ، بل النعم الداخلية البدنية كالنعم المالية الخارجية في كونها مبائنة لأرواحنا ، خارجة عن ذواتنا ، عارية في تصرفنا ، إلاَّ أن بعضها نعمة طبيعية متصلة بالبدن موجودة له ، وبعضها نعمة خارجة عن البدن مبائنة له كما للروح ، وسيهلك البدن ويفنى كل ما عليه وفيه من القوى والآلات والمشاعر ، وتبقى الروح وحيدة منفردة عنه عائدة إلى ربها إمّا شاكرة وإمّا كافرة . قوله عز وجل : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } أي : جزاء عظيم وثواب جسيم ، لا تكدّره آفة ولا ينقصه زوال ، وإنما يكون كذلك ، لان كمال الإنسان منوط بالعلم والعمل ، لتتزيّن ذاته العقلية بالمعارف الحقة والإلهيات ، وتتخلص نفسه العملية عن التعلق بالشهوات المؤذيات ، باقتناء الفضائل ، والاجتناب عن الرذائل ، ولا شك أن أفضل المعارف : معرفةُ الحق الأول وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهي المعني بالإيمان ، وأفضل الأعمال المزكّية للقلب : الإنفاقُ للمال الذي هو الوسيلة إلى جميع اللذّات الحيوانية والشهوات البهيمية . ويمكن أن يكون الإيمان كناية عن العلوم الحقة الحقيقية مطلقاً ، والإنفاق كناية عن الزهد في الدنيا مطلقاً ، إذ بهذين الأمرين ، يطير القلب بجناحيه إلى حظائر القدس ، ولعل في قوله تعالى : لهم أجر كبير ، إيماءً إلى أنَّ أجر الآخرة جزاء لازم وثمرة ضرورية مترتبة على اقتناء المَلَكات العلمية والعملية ، بحيث لا يحتاج حصولها إلى جعل مستأنف وتأثير جديد ، كما أشير إليه بقوله : { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] ، يعني أن الجزاء لازم ، كما أن الآلام والعقوبات الأخروية لواحق ضرورية لفعل المعاصي والشهوات ، الموجبة لرداءة الأخلاق والمَلَكات ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 49 ] .