Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 17-17)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فهذه الآية إشارة إلى مطلبين : المطلب الأول أنّ سبب إعراض أكثر الخلق عن اكتساب المعارف الإلهيّة ، واقتناص الحقائق العقليّة ، إيثارها الحياة الدنيويّة وشهواتها على الآخرة وخيراتها ، وذلك لاستيلاء الدواعي الجسمانية - من القوى الوهميّة والشهويّة والغضبيّة - على القوّة العاقلة ، فبحسب تسلّط القوّة الجسمانيّة على القوّة العقليّة ، تكون قوّة الرغبة إلى الدنيا وشدّة النفرة من الآخرة . ولا يخفى عليك ، أنّ دنياك ليست إلاّ حالتك قبل الموت ، من جهة استعمال آلة الحسّ والحركة في جلب المنافع البدنيّة ، ودفع المضارّ الجسمانيّة بقوّتي الشهوة والغضب ، وآخرتك ليست إلاّ حالتك بعد الموت ، وقطع علاقتك عن هذا البدن المظلم ، من جهة استعمال المشاعر الأخرويّة - من السمع والبصر وغيرهما - حسبما يناسب أعمالك وأفعالك - وشرح ذلك ممّا يطول - . - وبالجملة - كلّ من غلب عليه الميل إلى المزخرفات الدنيويّة ، لا بدّ وأن يكون أعمى القلب عن إدراك الأمور الأخرويّة ، بعيداً عن تذكّر الآيات الإلهيّة ، ولذا لا ينفع التذكير والنصح لهم - كما أشير اليه سابقا - . المطلب الثاني في أنّ نيل السعادة الأخرويّة ، ودرك اللذات الآجلة التي تنال بمشاعر ذلك العالم ، أجلُّ وأدْوَم والدليل على هذا المطلب أمور : أوّلها : أنّ كلّ واحد من اللذّات العاجلة - كالفوز بالشهوات البهيميّة ، والرياسات الحيوانيّة - لا تخلو من نقائص جمّة ، كشوب مكروه ، ووصمة انقطاع ، وتقضّي وتعقّب إملال إمّا في ذواتها ، أو في الخصائص الحاصلة منها . الأوّل : كما في تقضي الشهوة وداعية الغضب فإنّهما سيزولان سريعا . والثاني : كالملك ، فإنّ الملك وإن لم يمل بذاته ، لكن لا ينفكّ عن الإملال في المقاصد التي يطلب لأجلها الملك - وذلك ظاهر - . واللذّة الأخرويّة بالخلاف في جميع ما ذكر لبراءتها وخلوصها عن شوب مكروه أو وصمة نفاد ، أو تعقّب إملال ، لا في ذاتها ولا فيما يصحبها . وثانيها : أنّ كلّ مرتبة نيلت من لذات الدنيا لن يقنع المطمئن إلى زخارفها دون البدار إلى الإحاطة بما فوقها ، والتشوّق إلى الوصول إلى ما وراءها ، مع استحالة الوصول إلى لذّة لا تكون وراءَها لذّة فوقها ، وهذه بخلاف لذّة الآخرة ، إذ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، ولكلّ واحد من أهل الآخرة ما تبلغ إليه همّته ويصل اليه قصده وشهوته . وثالثها : أنّ اللذّة الدنيويّة مشتركة فيما بين الناس والبهائم والديدان والخنافس ، واللذات الأخرويّة مشتركة فيما بين أفاضل من الناس من الأنبياء والأولياء والسعداء وأفاضل الملائكة . ورابعها : أنّ هذه اللذات الدنيويّة ، لو كانت خيرات حقيقيّة وسعادات ، لكانت كلّما كانت أكثر ، كان الفائز بها أكمل وسعادته أكثر ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، لأنا لو فرضنا رجلا من العقلاء لا همّ له إلاّ الأكل والشرب والوقاع ، وكان مدّة عمره مقصوراً على تحصيل هذه المهمّات ، لكان عند العقلاء منسوباً إلى الخسّة والدناءة ، والى أنّه كالبهيمة . وأمّا من كان إعراضه عن هذه الأحوال أشدّ وبُعده عنها أكثر ، كان إلى الكمال والشرف أقرب ، والى الروحانيّات وأهل الله أنسَب وبهم أشبَه . فعُلم من ذلك ، أنّ اللذات الأخرويّة وما عند الله خير عند أولي الألباب وذوي الآراء الصحيحة من اللذات الدنيويّة ، ولهذا السبب كان الإنسان لا يقدم على الجماع عند حضور الناس ، فلو كانت تلك اللذات من باب الكمال ، لكان إظهاره أوْلى من إخفائه لا محالة ، وكذا لا يفتخر العاقل بكثرة الأكل والشرب ، ويفتخر بالعلم - ولو في شيء خسيس - ويفرح به ، ويغتمّ بالجهل - ولو في شيء حقير - ، وحتّى أنّ الإنسان لا يكاد يتجاوز عن التحدّي بالعلم والافتخار به في الأشياء الحقيرة ، والعالم بالشطرنج - على خسّته - لا يطيق السكوت عن التعليم وإظهار المعرفة فيه ، كلّ ذلك لفرط لذّة العلم وما يستشعر من كونه كمالاً حقيقيّا ، فإنّ العلم من أخصّ صفات الربوبيّة - وهو منتهى الكمال - ، أما ترى أنّ الإنسان كيف يرتاح إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم ، لأنه يستشعر عند ذلك جمال ذاته وحسن نفسه حسناً لازماً أبديّا ، فيعجَبُ بنفسه ويلتذّ بها . ثمّ ليست لذّة العلم بالمتغيّرات والعلوم الجزئيّة والصنايع كالنحو والصرف والعروض ، وصنعة الحراثة والخياطة ، كلذّة العلم بالله وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض ، لأنّ لذّة العلم بقدر شرفه ، وشرفه بقدر شرف المعلوم ، وليت شعري هل في الوجود شيء أجلّ وأشرف وأعظم من الحقّ المعبود وصفاته وملائكته وملكوت سماواته وأرضه وكتبه ورسله . وبهذا يتبيّن أنّ العلم لذيذ ، وأنّ العلوم العلم بالله وصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته ، ولهذا اعتنى بتحصيله الأنبياء والحكماء والعُرفاء ، وهو الذي به يتحقّق شرفهم وكمالهم وفضيلتهم على سائر الخلق ، لا بنفس الأعمال الجزئيّة والأفعال البدنيّة ، والعلوم التي تتعلّق باصلاح تلك الأعمال والأفعال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا . - وبالجملة - ، العلم مال الروح ، والعمل كمال البدن ، وكما أنّ جوهر الروح أشرف من جوهر البدن ، كانت لذّتها وكمالها أشرف وألذّ من كمال البدن ، فالابتهاج بمعرفة الله - وهي أصل المعارف - أشرف من الابتهاج بالمطعَم الهنّي ، والمنكح الشهيّ ، والملبس البهيّ ، والظفر بالاستيلاء على العدو الدنيّ الحيوانيّ ، والمعرفة من الأمور الأخرويّة التي تظهر للنفس بقدر ظهور سلطان الآخرة عليها . وكما أنّ الدار الآخرة موجودة الآن - كما عليه المحقّقون - ، وظهورها يتوقّف على رفع الحجاب بالموت ، فكذلك المعرفة وإن كانت حاصلة للعرفاء ، ولكن قدر اللذة بها فانية في الدنيا لأجل الحجاب ، والحجاب بينك وبين الله هو الدنيا ، ودنياك اشتغالك وتعلّقك بعلايقك الداثرة الفانية - مَن ماتَ فقد قامت قيامته - ، أي القيامة الصغرى . فعُلم ممّا ذكَرنا أنّ حصول أصل المعرفة بالله تعالى في الدنيا يوجب اللذة العظيمة الوافرة الدائمة عن رفع الحجاب - أي في الآخرة - . بل التحقيق أنّ نفس المعرفة الحاصلة ها هنا بالبرهان اليقيني ، هي التي تستكمل بعينها في الوضوح والجلاء عند زوال الغشاء وكشف الغطاء ، وتنقلب بمشاهدة ، ولا يكون بين المعلوم في الدنيا بالعلم البرهاني والمشاهد في الآخرة ، إلاّ من حيث شدّة الوضوح وضعفه ، ولهذا قيل : " المعرفة بَذْر المشاهدة " . وكما أنّ اختلاف البذر يوجب اختلاف الزروع والثمرات ، حيث يحصل من البُرّ البُرّ ، ومن الشعير الشعير ، فكذلك الدنيا مزرعة الآخرة ، ومعارف الناس في الدنيا مختلفة ، فتكون مشاهداتهم في الآخرة مختلفة نوعاً وعدداً وقوّة وضعفاً ، فمن لم يعرف الله في الدنيا ، فكيف يراه في الآخرة بالشهود القلبي والبصيرة العقليّة ؟ ! وكما أنّك ترى في الدنيا من يُؤثرُ لذّة الرياسة على المنكوح والمطعوم ، وترى من يُؤثِرُ لذّة العلم لانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهيّة على الرياسة وعلى المنكوح والمأكول - جميعا - ، فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذّة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنّة ، إذ يرجع نعيمها إلى المنكوح والمطعوم ، وهؤلاء بأعيانهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفناه ، من إيثار لذّة العلم والمعرفة ، والاطّلاع على أسرار الربوبيّة ، وقالوا : " الجار ثمّ الدار " . فلا التفات لهم إلى الجنّة بل إلى ربّ الجنّة ، فكلّ من لم يعرف الله في الدنيا فلا ينظر إليه في الآخرة ، ولا يتجلّى الله له أصلاً ، إذ ليس يستأنف لأحد شيء في الآخرة ما لم يستصحبه في الدنيا ، فلا يحصد إلاّ ما زرع { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] . @ هركه امروز نبيند أثر قدرت دوست غالب آنست كه فرداش نبيند ديدار @@ فقد عُلم من جميع ما ذكرناه وفصّلناه في مواضع من كتبنا ورسائلنا ، أنّ العيش عيش الآخرة ، وأنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، لأنّها دار العلم ودار الحياة العقليّة ، وأنّ منشأ إيثار الحياة الدنيا على الآخرة إنّما يكون الجهل بلذّة المعارف ، والعمى ، والحرمان ، وكثافة الطبع ، وغلظة القلب ، وتجسّم النفس ، حتّى أنّ نفس بعض الآدمييّن بمنزلة بدن مقطوع الأعضاء الذي لا ثمرة له في الحياة ولا حصل له في الكون ، وكلّ من انتهى حاله إلى إدراك المعرفة الإلهيّة ، فلا بدّ أن يلتذّ بالمعرفة ، ويحبّ لقاء الله ومشاهدة ذاته بالبصيرة العقليّة ، فيحبّ الموت ولا يكرهه البتّة ، إلاّ من حيث ينتظر زيادة استكمال فيها ، لأنّ بحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلال الله وعظمته ممّا لا مطمع فيها . وعلامةُ عدم العرفان عدمُ حبّ اللقاء ، وعلامةُ عدم الحبّ كراهةُ الموت وإيثار الحياة الدنيا ، مع كون الآخرة خير وأبقى في نفس الأمر وعند أولي الألباب . قال الله تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الجمعة : 6 ] فجعل سبحانه تمنّي الموت علامة صدق الولاية والمعرفة . وقال سيّد الموحّدين وإمام العارفين عليّ بن أبي طالب ( ع ) : والله لابنُ أبي طالب انَس بالموت من الطفل بثدي أمّه . وقال ( ع ) عند وقوع الضربة عن ابن ملجم - لعنه الله - على رأسه الشريف : فزتُ وربِّ الكعبة . لعلمه اليقيني بأنّ الآخرة خير له ، إذ بها يظفر بالمقصود ويشاهد جمال المعبود . فسبحان من تجلّى لقلوب أوليائه بنور الجمال ، وكشف عن بصائر أحبّائه حجب الجلال ، فتاهت أرواحهم من الملكوت ، وبقوا حيارى في كشف الجبروت ، فخاضوا في بحر اليقين ، وأصبحوا في جمال الذات هائمين ، وبحقّ العبادة الذاتيّة قائمين ، قائلين : اللهمّ الطِفْ أسرارنا بإشراق المحبّة في أرجائها ، وشوِّق أرواحنا إلى شهود جمالك بفنائها حتّى تحيّرت في سبحات وجهك الكريم ، وطاشت ودهشت عند تجلّيات حسنك وتلاشت ، فحكم الشهود عليها بنفي الوجود وألزمها الاعتراف بـ " لا إله إلاّ الله الواحِد الأحد المعبود المشهود " .