Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 14-16)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تزكّى ، أي : تطّهر من الشرك والمعاصي ، والمراد تنقية القلب والباطن عن الرذائل ، استعداداً للصلاة العقليّة ، واستفاضة المعارف الحقيقيّة بالتكلّم الحقيقي مع الله ، فإن الصلاة معراج المؤمن ، والمصلّي مناج ربّه ، أو تطهّر للصلاة ، وهذا بحسب تنظيف الثوب وتهذيب البدن عن الأخباث والأحداث استعداداً للصلاة الجسمانيّة التي هي رياضة جسدية للمؤمن بحسب حياته الحيوانيّة . ونسبة الصلاة المعنويّة إلى هذه الصلاة الظاهريّة نسبة الروح إلى البدن ، حيث يحتاج كلّ منهما إلى الآخرة ما دامت الحياة الدنيا باقية ، وأمّا عند الآخرة ، فلا تنقطع عن المعارف تلك الصلاة الروحانيّة أبداً . وقيل : معنى : تَزكَّى - تكثّر في التقوى ، لأنّه من الزكاء وهو النماء ، أو " تفعّل " من الزكاة ، كتصدّق من الصدقة . فَصَلّى - أي : فصلّى الصلوات الخمس وغيرها ، كمثل قوله : { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } [ البقرة : 177 ] . وعن أمير المؤمنين ( ع ) : أي : أعطى زكاة الفطر فتوجّه إلى المصلّى فصلّى صلاة العيد . وذكر اسم ربّه فكبَّر تكبيرة الافتتاح . وبه يحتجّ على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنّها مغايرة للصلاة لأنّها معطوفة عليها ، وعلى أنّ الافتتاح جايز بكلّ اسم من أسماء الله تعالى . وعن ابن عباس : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربّه فصلّى له . والوجه العرفاني في هذه الآية : أنّ الصلاة الجسمانيّة وإن كانت عبدة بدنيّة ، لكن صحّتها موقوفة على معرفة المعبود ، وتذكّره بأسمائه وصفاته التي تليق به ، بل الأعمال كلّها لا تتمّ شرعيّتها وصحّتها إلاّ بنيّة التقرّب اليه ، والطاعة لأمره ونهيه ، وخصوصاً الصلاة من جملتها ، لأنّها عماد الدين ، وبها تمتاز هيئة الإنسانيّة في ظاهر الأمر عن هيئة الحيوانات التي لا خضوع لها ، فذكر " الذكْر " هنا من باب المقدّمة لما ذكرنا أنّ سَوْق الآية لبيان قسمة حال الإنسان إلى السعادة العمليّة والشقاوة التي بإزائها فيما تقدّم . والوجه في اختصاص الصلاة والزكاة من بين الأعمال الصالحة هو أنّ الغرض من الأعمال الرياضة البدنيّة لتحصل للروح هيئة التنزّه عن الأعراض الحسّية والتجرّد عن الأمور الكثيفة الماديّة الظلمانيّة ، وصفة الاستعلاء لها على القوى الإدراكيّة والتحريكيّة لتجرها بالتعويد من عالم الغرور إلى عالم السرور ، ومن معدن الجور والزور والثبور إلى منبع الحياة والرحمة والنور ، حيث لا تزاحمها في مطالبها بل تشايعها في مآربها وتهتدي بهداها وتطيعها وتسلم لها في أوامرها وزواجرها حتّى تنخرط معها في سلك طاعة الله وعبوديّته . ثمّ لا شبهة في أنّ بناء تمرّد القوى وعصيانها عن طاعة الله إنّما يكون بأحد أمرين : أولهما : ميلها إلى الشهوات والمرغوبات الحسيّة المضادّة للأمور الروحانيّة والأغراض العقليّة . وثانيهما : الكسل والتبطّي عن طاعة العقل وإزالة كلّ منهما لا يكون إلاّ بقطع سببه وحسم مادّته أو بورود ضدّه عليه ، وعمدة أسباب الوصول إلى الشهوات هو المال ، لأنّ بالمال يتمكّن الإنسان من تناول كلّ لذيذ ، ومباشرة كلّ شهيّ فبترك المال يقطع جميع أسباب الشهوات الدنيوية ، وهو المراد بقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } . ومنشأ الكسالة في الطبع ، هو إنّما يكون لأجل استيلاء السكون والضعف ، وعدم النشاط والانبعاث في القوى المحرّكة ، فيعالج هذا المرض والآفة فيما بفعل ضدّه ، وهو التحريكات البدنيّة كالصلاة والصوم والحجّ ، فالصلاة عمدة الجميع ، فاكتفى بذكرها ، إذ مع كونها متضمنّة للأذكار والأوراد ، مشتملة على الحركات البدنيّة من القيام والقراءة والركوع والسجود ، حتّى قيل إنّ بدن الإنسان - لأجل قواه النفسانيّة - بمنزلة خشبة جامدة يراد انعطافها ولينها ، فعرضت على النار فلانت ، فلذلك يجعل البدن منحنياً بالركوع ، ثمّ يترك ليستقيم مرّة أخرى ، ثمّ يجعل أشدّ انحناء بالسجود مرّتين ، فإنّ هذا الدين متين فأوغِل فيه بالرفق لا تبغِّض طاعة الله على نفسك . وقيل أيضاً : إذا وقعت السجدة الثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة : ركوع واحد وسجدتان . فالبركوع ينجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأوّل من عقبة الغضب - الذي هو رئيس بالموذيات - ، وبالسجود الثاني من عقبة الهوى الداعي إلى كلّ المضلاّت ، فاذا تجاوزت نفس الإنسان عن هذه الدركات ، وتخلّصت عن هذه المهلكات ، وصلت إلى الدرجات العاليات ، وملكت الباقيات الصالحات . وأمّا الحجّ ؛ فلاشتماله على الحركات الشديدة في البراري ، والرياضات البدنيّة وغيرها لا يحتاج إلى البيان لظهوره . وأمّا الصوم ؛ - فإنه وإن كان في ظاهر الأمر من باب السكون - إلاّ أنّه يحرّك الباطن تحريكاً شديداً ، ويشوقه إلى طلب المعارف والسلوك إلى الجنبة العالية كما يحكم به الوجدان . فالحاصل ، أنّ فعل الصلاة وإيتاء الزكاة عمدتا الأعمال الصالحة البدنيّة ، وهما مستلزمان لسائر الخيرات والطاعات العمليّة التي بها تحصل للانسان السعادة الأخرويّة . وأمّا الشقاوة التي تكون بإزائها فهي إنّما تحصل للإنسان لأجل فعل المعاصي وترك الطاعات ، ومنشأ ذلك انقياد القوّة العقليّة وطاعتها للنفس الأمّارة وهواها الشيطاني وقواها الشهويّة والغضبيّة . والعقل الإنساني في طاعته وخدمته لهذه القوى الثلاثة - أي الهوى والشهوة والغضب - بعينه بمنزلة إنسان يخدم شيطاناً مَريداً وكلباً عقوراً وخنزيراً نجساً ويتردد في تحصيل مطالبها ، ويصرف عمره في تيسير ملاذّها ومرغوباتها . ومثل هذا الإنسان ، لو بقي هكذا مدّة عمره ، ولم يرجع إلى طاعة الله بالتوبة والإنابة والتدارك فيما فرّط في جنب الله تعالى ، ولم يسع في تلافي ما وقع منه ، فمنزلته أخسّ من منزلة الحيوانات الهالكة لقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] . لأنّ خادم الشيء ووسيلته أدون منزلة من المخدوم والغاية . فسبحان من أفاد الخير والسعادة برضائه ومنّته ، وأحدث الشرّ والشقاوة بقضائه وحكمته ، جلَّ جنابه عن النقص والقصور في الصفات والأفعال ، وتقدست ذاته عن تخيّل الأشباه والأمثال ، وتمجّد جنابه عن تصوير الأضداد والأنداد - وغير ذلك ممّا يتوّهمه الفكر والخيال من المحال ، تعالى عمّا يصفه العقلاء فضلا عن الجهّال .