Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 1-3)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ليس المراد من صيغة الأمر في مثل " سبِّح " و " أحمد " " واشكُر " و " اذكُر " بحسب الوضع العرفي ، مجرّد التلفّظ بما يدلّ على وقوع معناه الحِدثي ، بل المراد إيقاع معانيها وإدخالها في الوجود بوجه يتأتى من المخاطب المأمور ، وكذلك ليس المطلوب في لفظ " سبِّح " هنا مجرّد قولك " سبحان ربّي الأعلى " ، ولا في آخر الواقعة مجرّد قولك " سبحان ربّي العظيم " فقط ، نظراً إلى ظاهر ما روي في الحديث : انّه " لمّا نزلت : { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إجعلوها في ركوعكم ، فلمّا نزلت : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } - قال : اجعلوها في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع " اللهم لك ركعت " وفي السجود : " اللهمّ لك سجدت " . بل المقصود الأصلي منه تحصيل العلم والمعرفة بتنزيهه تعالى عمّا لا يصحّ فيه من النقائص الإمكانيّة ، وتقديسه عمّا لا يجوز له من المثالب الجسمانيّة ، وكل ما يوجب ثلما لوحدانيّته الحقّة ، ويلزم نقصاً على وجوب وجوده من التكثّر والتغيّر والتجسّم والتصرّم وساير مذاهب الجاهليّة في ذاته أو في صفاته ، والإلحاد في عظمة اسمائه وحيثيّاته ، كالجبر والتشبيه والسفه والتعطيل الناشية من قصور أو خلل أو فساد في البصيرة الباطنيّة كحَوَل الفلاسفة ، وَعَوَر المعتزلة ، وَعَمَه الأشاعرة ، وكَمهَ الحنابلة ، ونحو ذلك ، مثل أن يفسّر " الأعلى " في هذه الآية بمعنى الارتفاع عن درجة الإمكان ، والعلوّ عمّا تصل إليه العقول والأذهان بقوّة الدليل والبرهان ، لا بمعنى العلوّ في المكان ، والإستواء على العرش حقيقة . وهاهنا سرّ آخر ، وهو أنّ المراد بالتسبيح في عرف المتألّهين ، كون المسبّح ذاتاً مجرّدة عن الموادّ وعوارضها ، والأجسام وصورَها ، لأنّ مبدأ كلّ صفة على وجه الكمال ، يجب أن يكون في مرتبة ذاته متحقّقاً بها على وجه آكد وأقوى . فمعنى قوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ } أي : جرِّد ذاتك عن الدنيا وغواشيها ، حتّى تعرف تقدّس اسم الله عن النقائص الإمكانيّة ، واجلُ مرآة قلبك عن مطالعة الكائنات ، حتّى يمكنك ملاحظة ذاته وصفاته وأفعاله من غير شوب تشبيه في ذاته وتعطيل في صفاته ، وتغيير وتبديل في سنن أفعاله . ويحتمل أن يكون المراد من { ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } المعلول الأوّل ، وهو المَلَك المقدّس الروحاني ، فإنّ اسم الحقّ - جلّ شأنه - ليس من جنس الأصوات ، وعلامة ذاته لا تكون كعلامة سائر الذوات من الهيآت والتشكيلات العارضة للهواء ، الخارج من المخارج ، بل علامة ذاته واسمه المقدّس ما يناسب ويليق لحقيقته الحقّة الأحديّة . والعبارة أيضاً لا تساعد على غير هذا إذ الأمر بتسبيح الاسم - بمعنى الصوت - غير مناسب ، لأنّه يسبّح به ، لا يسبّح له . بل المأمور به هو الاعتقاد بأنّ الفعل الربّاني والاسم الإلهي موجود روحاني مقدّس عن الأجسام والجسمانيّات ، مجرّد عن الأحياز والمكانيّات . وذلك لأنّ الصادر الأوّل عن الحقّ سبحانه ، يجب أن يكون أمراً واحداً بالفعل ، مستقلاّ في الوجود والتأثير . وغير الجوهر العقلي لا يكون كذلك لانتفاء الوحدة من الجسم ، والفعليّة من الهيولى ، واستقلال الوجود عن الصورة والعرض والتأثير من النفس . ويؤيّده ما ذكرناه قوله سبحانه : { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 78 ] لأنّ وصف الشيء بذلك يدلّ على أنّه عاقل لذاته . واعلم أنّ " اليمين " و " اليَد " و " الأمْر " و " القلَم " في قوله تعالى : { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وقوله : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وقوله : { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } [ الذاريات : 47 ] وقوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] وقوله : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [ العلق : 3 - 4 ] كلّها عبارات عن هذا المَلَك المقدّس الروحاني ، الذي هو يمين الله ، وواسطة فيضه ، وقلم كتابته الحقائق على ألواح النفوس ، وحجاب ذاته وسرادق غيبه ، الذي ينتهي إليه سير السالكين إلى الله تعالى ، فلهذا أمر سيّدهم وقائدهم بتسبيحه وتمجيده الدالَّين علوّ الحقّ ومجده . فمن جملة الطرق الموصلة إلى معرفة علوّه ورفعته في كونه تعالى رفيعاً في وجوده عن درجة الأجسام ، الاستدلال عليه بخلق الحيوان الذي هو أشرف ما في العناصر والأركان ، بنوعين من البيان ، حسب تركّب حقيقته من النفس والبدن . أمّا الاستدلال على علوِّ ذاته وسموِّ صفاته عن درجة الأجرام بخلقة الحيوان ، فهو الذي أشار تعالى إليه بقوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } . وذلك : أنّ بدن كلّ مقدّر بمقدار معيّن وكميّة خاصّة تتعيّن له وتختصّ به ، لأجل صدور أفعاله المختصّة ، وحركاته وانفعالاته الناشية عن قوّته التحريكية والإحساسيّة ، فلا جَرَمَ قدّر الباري بعنايته المحكمة لكلّ حيوان مقداراً من التجسّم الصالح لصدور أفعاله وآثاره الحيوانيّة ، وهذا التقدير هو الخلق ، لأنّ الخلق في اللغة هو التقدير . وأيضاً كلّ بدن حيوانيّ مركّب من عناصر وأجزاء بعضها حارّ خفيف ، وبعضها بارد ثقيل ، وبعضها رطب لقبول الهيئة والتشكّل ، وبعضها يابس لحفظ ما أفيد من التقويم والتعديل ، ويجب أن يكون لكلّ منها قدر معيّن ، ليقع بينها التصالح والتقاوم حتّى يتولّد عن كيفيّاتها المتعادلة المتفاوتة ، المزاج المخصوص ، ولو زادت تلك الأجزاء أو نقصت ، كان الحادث غير مزاجه الخاصّ به ، وهذا هو التسوية . فعلم من إيجاده قدراً معيّنا من أقدار الجسم لائقاً بخلقة نوع من الحيوان ، وقدراً معيّنا آخر منها لائقاً بخلْقة نوع آخر منه ، تساوي نسبته إلى جميع الأجسام ، وكلّ ما يكون كذلك لا يكون جسماً ولا جسمانيّا . أمّا الأوّل : فلظهور أنّه لو كان جسماً لكان فرداً خاصّا منه ، له مقدار معيّن - إذ العام لا وجود له في الخارج - ، وقد ثبت تساوي نسبته إلى سائر الأجسام ، فيلزم الترجيح من غير مرجّح . ولأنّه لو كان جسماً ، لامتنع كونه موجداً لجسم ، لامتناع تقدّم بعض أفراد طبيعة واحدة على بعض ، وأولويّته منه - حسبما تقرّر في مقامه - . وأمّا الثاني : فلأنه لو كان أحدهما لزم إمّا اختصاصه بفرد من الجسم ، أو افتقاره إليه ، وقد نفيناه عنه . وقد عُلم أيضاً من التسوية ، تصرّفه في الأجسام كيف يشاء في التركيب والتفصيل ، والنضج والتحليل ، فلا يكون جسماً ولا جمسانيّا . وأمّا الاستدلال على ذلك بنفس الحيوان ، فهو قوله : { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } - ، لأنّ معناه : أنّه سبحانه قدَّر لكلّ واحد من أعضاء الحيوان وأجزائه المخصوصة قوّة مختصّة بذلك العضو ، مصدراً لأفاعيله ، ومبدأً لآثاره ومنافعه ومصالحه ، مثل القوّة الباصرة للعين ، والسامعة للأذن ، والهاضمة للمعدة ، والنفسانيّة للدماغ ، والحيوانيّة للقلب ، والطبيعية للكبد ، فقدَّر لكلّ مزاج حيواني نوعاً من القُوى ، وجعل كلّ مركّب مزاجي آلة لقوة نفسانيّة أو طبيعيّة ، وهداها إلى خصائص أفاعيلها وخصوصيّات ما ينفعل منها ، وألهمها إلى ما يُنتفع منها . فانظر إلى النحل كيف أوحى الله تعالى إليه في وضع بيوتها على هيئة المسدّسات وإلى العنكبوت كيف هداها إلى وضع المشبّكات لاقتناص ما يتقوّت به من الذباب والبعوض ، وممّا يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عُميت وقد ألهمها الله إن مسَح العين بورق الرازيانج الغضّ يُرد إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيّام ، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج - لا تخطئها - فتحكّ بها عينيها وترجع باصرتها بإذن الله تعالى . وهدايات الحقّ وإلهاماته للحيوانات - نواطقها وعجمها وطيورها وبهائمها ، وهوامها - إلى ما لا يحد من مصالحها ، ولا يعدّ من حوايجها في أغذيتها وأدويتها ، وفي باب أولاها وأخراها ودنياها باب واسع من معرفة الله تعالى ، لا تحيط به العقول والأوهام ، بل إنّ لكلّ جسم طبيعيّ أو فلكيّ مبدأً فاعليّا وجوهراً نفسانيّاً وصورة محرّكة طالبة لفعل خاصّ يكون بصدوره منها على كمالها الخاصّ بها محصّلة به ، وكونها على أشرف حالها مبتدية به إلى ما يقربها إلى باريها وجاعلها ، ومتشبّهة في إفاضة الخير والمنفعة على الغير بغايتها وفاعلها ، - جلّت عظمته وعظمت إلهيّته - ، فإيجاده بعلمه وحكمته لكلّ جسم من الأجسام أمراً ملكوتيّا وقوة باطنيّة تكون مقوّم نوعه وحافظ كماله ، خدمة لبارئها وطاعة لربّها ، وعبادة لمعبودها ، دليل واضح على علوّ ذاته عن المُلك والملكوت ، وسموّ درجته عن الخلق والأمر ، وبُعد سمكه عن عالَم السموات والأرضين وارتفاع حضرته عن جملة الأجسام والجسمانيّين . فسبحان ربّي الأعلى من العلّيّين ، وأعظم من عوالي القدّيسين والكرّوبين .