Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 4-5)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" الغُثاء " - بالضمّ - الدَرْن اليبس الذي يحمله السيل . و " الأحوى " : الأسود . فأحوى صفة لغُثاء ، أي : أخرج المرعى وأنبت العشب فجعله بعد طراوته وخُضرته هشيماً درينا أسود ، ويحتمل أن يكون " أحوى " حالاً من " المرعى " ، أي : أنبته أسود ، لشدّة الخضرة والرعي فجعله غثاء بعد حوية . ووجه الاستدلال به نوعان : الأوّل : هو أنّ النبات جسم مؤلّف من عناصر متضادّة متداعية إلى الإنفكاك والإفتراق إلى أمكنتها الطبيعيّة ، فلا بدّ في اجتماعها في مكان واحد من قاهر مختار يجبرها على الإلتيام وحفظها عن الافتراق ، وليس هو نفسها النباتيّة ، لأنّ حدوثها مسبوق بحدوث المزاج المسبوق بحدوث الاستحالات النباتيّة في كيفيّاتها المتضادّة ، والحركات لا تقع إلاّ في زمن مسبوق بحالة اجتماعها ، فلو كان الجابر لها على الالتيام ، والحافظ لها عن الافتراق هو النفس النباتي ، لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب ، ولا نفس حيوانيّة لتقدّم النبات على الحيوان طبعا ، فلو كان نفسه سبباً لاجتماعها لزم الدور - وهو محال - . فثبت أنّ الموجد لأجزاء النبات ، والمتصرّف فيها بالجمع والحفظ عن الافتراق والإنبتات ، موجود مقدّس عن التركيب والامتزاج ، مرتفع عن عالَم الأجسام والأحياز وعن التخصّص بالأمكنة والجهات . النوع الثاني : في الاستدلال باختلاف أحوال النبات من ريعانه وطراوته أوّلاً ، ويبسه وفنائه أخيراً ، فإنّ المحيل له من حال إلى حال ، والمتصرّف فيه من جهة الحدوث والزوال ، موجود باق متعال عن التجدّد والانتقال ، إذ لو جاز فيه التحوّل والتغّير - وكلّ متحوّل لا بدّ فيه من محوّل يحوّله وهكذا ، ننقل الكلام من حاله إلى حال ، فلو لم تنته السلسلة إلى محوّل غير متحوّل ، وإلى مغيّر غير متغيّر يلزم الدور أو التسلسل - وكلاهما مستحيلان . فثبت وجود موجود مقدّس عن التغّير والزمان ، ومتعال عن التجسّم والمكان ، إذ الزمان والمكان متلازمان . فإن قال قائل : لِم لا يجوز أن يكون المؤثّر في خلْق الحيوان وتوليد النبات شيء من طبائع الأفلاك والكواكب بحسب الأوضاع والأنوار ، لا الفاعل المختار ؟ قلنا : هذا مستحيل عند العقل ، لأنّ المني الذي يتولّد من الحيوان ، والبذر الذي يتكوّن منه النبات ، جسم متشابه في نفسه ، وبحسب وضعه عند الفلك ، وقبوله لنور الكواكب ، لكونه مع سائر أجزاء الأرض والمركّبات التي فيها وعليها ، كنقطة واحدة بالقياس إلى الجرم الأثيري البسيط المتشابه طبعاً وتأثيراً ، فالجسم البسيط المتشابه إذا أثر في جسم متشابه الذات متشابه النسبة الوضعيّة والاستعداديّة تأثيراً متشابهاً ، فيستحيل أن تتولّد وتتكوّن منه أحوال مختلفة وأعضاء متباينة في الصورة والكيفيّة . ألا ترى إذا وضع أحد شمعاً مضيئاً ، وكان ما يستضاء منه خمسة أذرع من جانب ، وجب أن يضيء بهذا المقدار من سائر الجوانب ؟ وأمّا أن يضيء من أحد الجوانب خمسة أذرع ولا يضيء من الجانب الآخر إلاّ نصف ذراع - من غير حاجز ولا مانع ولا اختلاف في الجسم الذي حوله بالشفيف وعدمه ، واللطافة والكثافة - فهو غير معقول . فثبت أنّ مؤثّرات الطبائع الجسمانيّة يجب أن يكون تأثيراتها متشابهة ، فلمّا رأينا كيف تولّدت من بعض أجزاء النطفة العظام ، ومن بعض أجزائها أعصاب وعضلات وعروق ورباطات ، ورأينا كيف تكوّنت من بعض أجزاء البذر والأوراق ، ومن بعضها الأغصان والعيدان والقشور والثمار ، علمنا وتيقّنّا أن التأثير فيها ليس تأثير مؤثّر يفعل بالطبع والإيجاب والإجبار ، بل تأثير مؤثّر قادر يفعل بالعلم والاختيار ، وحكيم يؤثّر بالجهات والحيثيّات حسبما اقتضاه علمه بوجوه المنافع والخيرات ، وأفادت حكمته الداعية إلى إخراج ما في عنايته وقضائه من المكونات إلى القدر بحسب مصالح الممكنات في المواد والأوقات ، فسبحان العليم القدير ، الذي حكمته أفادت هذه المكوّنات ، وقدرته أوجدت هذه المركّبات ، ليعلم المتوقّد الذكي أنّه مقدّس عن عالَم الأجسام والجسمانيّات ، متعالي المنزلة عن الأمكنة والمكانيّات .