Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 18-18)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ صُمُّ } عن الهدى فلا يسمعونه سماع قبول ، فإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه ، فإذا لم يسمعوه فكأنهم لا يسمعون شيئاً أصلا ، إذ لا عبرة بسماع الأشياء مع عدم سماع الهدى ، ولك أن تقول الآية إخبار عن كونهم صما عن كل شىء الهدى وسائر المباحات ، كما يدل عليه الإطلاق ، إذ كان سمعهم لا ينفعهم لعدم الاهتداء وهو جميع أصم ، والأصم من لا يسمع ، وسببه أن يكون باطن خرق الأذن مجتمعاً لا تجويف فيه يشمل على هواء يسمع الصوت بتموجه فيه ، وأصله الصم الذى هو صلابة من اجتماع الأجزاء وتصامها وكثافتها ، ومنه حجر أصم وصخرة صماء وصمام القارورة وهو سدادها . { بُكْمٌ } عن الهدى لا ينطقون به ، وإذا نطقوا به فنطق لا يطابقه اعتقادهم ، فإذا كانت هذه حالهم فكأنهم بكم فى كل شىء لا يطيقون النطق بشىء ما ، إذ لا عبرة بنطق بالأشياء مع عدم النطق بالهدى ، النطق بالمطابقة للاعتقاد ، والمراد أنهم بكم عن كل كلام إذ كان نطقهم لا يكون نطقاً موافقاً له الاعتقاد ، فهو لا ينفعهم فكأنهم لا ينطقون أصلا وهو جمع أبكم وهو من لا ينطق ، ويقال له أيضاً أخرس ، وقيل من لا ينطق ولا يفهم أبكم وهو الذى ولد أخرس ، ومن لا ينطق ولكنه يفهم أخرس ، وهو الذى يسمع فكان يفهم ثم كان لا يسمع . { عُمْىٌ } عن طريق الهدى فلا يبصرونه ، وإذا ادعوا إبصاره ودخوله والعمل به فخداع لا تحقيق ، فإذا لم يبصروه تحقيقاً فكأنهم لم يبصروه ، فكأنهم لا يبصرون بعيون وجوههم ، إذ لا عبرة بالنظر بالعين مع عدم الاستدلال بها ، أو المراد أنهم عمى عن نظر الأشياء رأساً من حيث الإطلاق ، ومن حيث الاستدلال ، إذا النظر بلا استدلال لا عبرة به ، فكأنه لم يكن وهو جمع أعمى ، والعمى عدم البصر كما من شأنه أن يبصر فلا يقال لغير الحيوانات أعمى ، ولما لما لا عين له منها ، فمن خلق بلا عينين لا يقال له أعمى لأنه ليس من شأنه أن ينظر بلا عين ، وكذا من خلق بعين واحدة لا يقال لموضع عينه الأخرى أعمى ، ويطلق العمى أيضاً على عدم نور القلب ، فمن لا نور فى قلبه يميز به الحق فلا فائدة فى نظر عينيه ، لما لم يستعملوا آذانهم وألسنتهم وعيونهم فيما خلقت له من الهدى ، سموا بأسماء من لا سمع ولا نطق ولا بصر لهم إذ لم ينتفعوا بها ، فكانت كالعدم فهم كمن إيفت حاسته ، بكسر الهمزة وإسكان الياء ، كبيعت أى أصيبت بآفة . قال الشاعر @ ما بال قوم صديق ثم ليس لهم عهد وليس لهم دين إذا أتمنوا صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا @@ أى إذا مسعوا خيراً ذكرت به صاروا كمن لا يسمع فلا ينطقون به ولا ينشرونه ، وإن ذكرت بسوء كانت لهم آذان السمع فيعونه وينشرونه أو من أذنت للشىء إذا أصغيت إليه . وقال آخر @ أصم عما ساءه سميع @@ وقال آخر @ أصم عن الشىء الذى لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد @@ وعدى أصم بعن لتضمين معنى التغافل . وقال آخر @ وأضممت عمراً وأعميته عن الجود والفخر يوم الفخار @@ وكل من لفظ أصم وأبكم وأعمى صفة مشبهة لا اسم تفضيل ، والآية من باب الاستعارة التصريحية باعتبار كل واحد من لفظ صم ولفظ بكم ولفظ عمى ، فتلك ثلاث استعارات أو ذلك كله استعارة تمثيلية ، وإنما قلت بأن ذلك من الاستعارة مع كون المشبه والمشبه به كليهما مجتمعين فى الكلام ، من حيث إن المشبه به خبر للمشبه المحذوف المقدر المجعول من أجزاء الكلام ، فكأنه مذكور ، أى هم صم بكم عمى ، أو هؤلاء صم بكم عمى ، لأنه لا فرق عندى فى الاستعارة بين عدم كون المشبه من أجزاء الكلام ، وكونه من أجزائه مذكوراً أو مقدراً ، إذا لم يقصد المتكلم التشبيه ، بل قصد أن المشبه هو نفس المشبه به مبالغة ، فقولك فى زيد المقدام زيد أسد استعارة وهو مختار السعد ، وكذا قال السبكى مؤلف " جمع الجوامع الأصولى فى شرح تلخيص القزوينى " بجواز ذلك ، إذ قال ما حاصله إنه تارة يقصد فى نحو زيد أسد التشبيه بأداة مقدرة فلا استعارة ، وتارة لا يقصد فيكون لفظ أسد مستعملا فى حقيقته ، وذكر زيد والإخبار عنه به قرينه صارفة إلى الاستعارة ، فيكون لفظ أسد استعارة ، ولا تنافى الاستعارة كونه مستعملا فى حقيقته ، لأن معنى كونه فى حقيقته أنه ليس على طريق التشبيه والاستعارة ، إنما هى فيه من حيث إنه على حقيقته وادعى أن زيداً أسد حقيقته هكذا ظهر فى توجيه كلامه ، وقال قوم منهم الزمخشرى والقاضى إن الآية والمثال ونحوهما ليست على الاستعارة ، بل تشبيه بليغ ، لأن المشبه مذكور أو مقدر الذكر بناء على الاشتراط فى الاستعارة ألا يذكر المشبه ، ولا يكون محذوفاً مقدراً من أجزاء الكلام ، بل يطوى عنه بحديث يمكن حمل الكلام على المشبه به لولا القرينة ، وبحيث يقبل ظاهر الكلام الحمل على الحقيقة ، وإذا قلت فى الضال السامع بالإذن مجرد السمع إنه أصم لم يكن لعارفه أنه سامع أن يحمل ظاهر الكلام على الصمم الحقيق ، وإذا قلت فى زيد المقدام زيد أسد لم يقبل ظاهر الكلام أنه أسد حقيقى . وكذا قول عمران بن حطان رحمه الله فى الحجاج @ أسد على وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر @@ وفتخاء مسترخية الجناح ، والنعامة مثل فى الجبن بخلاف قول زهير @ لدى أسد شاكى السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم @@ فإنه لم يذكر لفظ المشبه ولا نوى ذكره فحذفه ، فاحتمل ظاهر الكلام لولا القرينة الحمل على الحقيقة ، والقرينة هى لدى ، وشاكى السلاح أى تامه تجريد عن بعض المبالغة فى جعل الشجاع من جنس السبع ، لأن تمام السلاح مما يلائم المشبه ، وأصل شاكى شائك أخرت الياء عن الكاف فلم تقلب بعدها همزة كما قلبت إذا كانت قبلها ، وقد تحذف الياء المنقلبة همزة قبل الكاف فيعرب على الكاف ، كما إذا ثبتت ، ويحتمل حذفها بعد تأخيرها عنها ، وفيه ضعف لان فيه خروجاً عن الأصل مرتين التأخير والحذف ، غير أن الحذف من الآخر أنسب ولو كان الآخر فى نية التقديم ، ومقذف مرمى باللجم أى مكثر فيه أو مرمى به فى الحروب ، وله لبد ترشيح وتقوية للمبالغة ، لأنه ملائم المشبه به ، فإن اللبد الشعر المتلبد على رقبة الأسد ، ومعنى أظفاره لم تقلم لم يعتره ضعف ، لأنه يقال فلان مقلوم الأظفار أى ضعيف ، ويحتمل أن يكون المراد ظاهره من عدم تقليم الأظفار ، فإن السبع لا تقلم أظفاره بخلاف الإنسان فيكون ترشيحاً آخر ، وقد تكلمت فى شرحى على شرح عصام الدين على البيت ، وترى الآيتين بالأمر الفلق ، بكسر اللام ، أعنى العجيب يعرضون عما يوهم التشبيه إعراضاً إذا أراد إكثار المبالغة ، وتأتون بما ينافيها كقول أبى تمام @ ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة فى السماء @@ فإن ظن الجهول أن له حاجة فى السماء ينافى أن يكون صعوده على التشبيه ، مع أن المراد فى نفس الأمر التشبيه ، وما ذكر من الاستعارة أو التشبيه مبنى على المبتدأ المحذوف ضمير عائد إلى المنافقين ، أو اسم إشارة عائد إليهم كما مر التقدير على أن الآية فذلكة التمثيل ، والفذلكة ذكر الشىء مجملا بعد ذكره مفصلا أخذاً من قولك بعد التمام ، فذلك كذا ، وإن قلنا بعوده إلى الذى استوقد نارا على أحد الأوجه فى رد ضمير الجماعة إليه ، فالكلام حقيقة مجرد عن التشبيه بالصم والبكم والعمى ، بل هو من تمام المستوقد الممثل به ، كأنه قيل ترك المستوقدين فى ظلمة عظيمة لا يمكن فيها إبصار ما ، بحيث اختلت آذانهم عن السمع وألسنتهم عن النطق ، وعيونهم عن الإبصار لقوة الدهش ، وجملة المبتدأ والخبر حال من الضمير فى لا يبصرون ، أو من هاء تركهم على كل وجه ويدل له قراءة بعضهم صما بكماً عمياً بالنصب على الحالية ، أو الجملة مستأنفة وهذا الوجه مختص برد ذلك إلى المنافقين . { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الضلالة التى اشتروها إلى الهدى الذى باعوه ، فإن كانت الآيات فى منافقين معينين عند الله سبحانه وتعالى ، أو عنده وعند النبى صلى الله عليه وسلم ، فذلك واضح ، إن كانت مسوقة على الإجمال ، فالمعنى أنهم لا يرجعون ما داموا على الحال التى وصفهم بها ، وهذا الوجه أصح ويجوز جعل هذا المعنى فى وجه تعينهم بحسب ما يظهر للخلق من إمكان زوالهم على الحال المذكور ، ولو كانوا عند الله لا يزولون عنها ، ويجوز أن يكون لا يرجعون بمعنى أنهم محيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، ولا يدرون كيف ترجعون إلى الوضع الذى ابتدءوا منه ، وهذا الوجه يحتمل عود الجملة إلى المستوقد وهو أنسب ، وإلى المنافقين . وما قيل هذا الوجه يختص بهم ، وقالوا من كتب سبع شينات فى خرقة حرير صفراء وثلاث واوات ثم كتب بعدها { صُمُ بكْمٌ عمىٌ فُهُمْ لاَ يَرْجِعُون } وقابلها للنجوم ثلاثة ليال ، وحرز عليها وحملها على تاجه دخل بها على من أراد انعقد لسانه بإذن الله تعالى .