Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 17-17)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مَثَلُهُمْ } أى فى صفتهم فى النفاق ، والمثل فى الأصل بمعنى الشبيه ، ويقال أيضاً مثل ، بكسر فإسكان ، ومثيل ككريم ، ثم استعمل بمعنى الكلام الذى شبه مضربه بمورده ، وهو استعمال عربى ، وإنما سمى هذا الكلام المشبه مضربه بمورده مثلا لأنه أخذ من المعنى الأصلى المذكور وهو التشبيه ، إذ جعل مضربه وهو ما يضرب فيه شبيهاً بمورده ، وهو ما ورد فيه أولا قبل ضربه مثلا ، وضرب المثل نوع من الاستعارة التمثيلية فهى أعم منه ، وعمومها مطلق وهو أخص ، وخصوصه خصوص مطلق ، وبيان خصوصه أنه تعتبر فيه الشهرة ، فإنه لا يضرب إلا بما فيه غرابة من بعض الوجوه ، ولا يغير لأنه استعارة كما مر وهى تصر يحية ، ولفظها لفظ المشبه به كما هو شأن الاستعارة التصريحية ، فلو غير لم يكن لفظه لفظ المشبه به ، ولم يكن مثلا ، بل مأخوذ منه ومشير إليه ، فقولك الصيف ضيعت اللبن ، بكسر التاء ، مثل إذ لم يغير عن اللفظ المقول أولا ، وبفتحها أو ضمها مأخوذ من المثل ومشير إليه . وقال الزمخشرى والقاضى حوفظ عليه من التغير لما فيه من الغرابة ، وما ذكرته أولى وهو قول السكاكى . وقد كثر ضرب المثل فى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء والحكماء ، لأنه أوقع فى قلب المخاطب ويراه المتخيل تحققاً . والمعقول محسوساً ، والغائب مشاهداً وأقمع للمعاند الشديد الخصومة ، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال ، ثم استعير لفظ المثل لكل ذى شأن وغرابة من حال أو قصة أو صفة ، وهو استعمال ثالث متفرع على الثانى الذى هو الكلام المشبه ، مضروب بمفرده المتفرع على الأول الذى هو الشبيه ، وحمل القرآن إلى الثانى أولى ، لأن أكثر أحكام القرآن معقولة غير محسوسة ، من حيث الاعتقادات والوهم ، وإنما يدرك المحسوس فهو ينازع العقل فى إدراك المعقولة حتى يحجبها عنه ، وإذا ضرب المثل بالمحسوس أدركه الوهم فوافق العقل فزالت خصومة الخصم ، إلا أن يخاصم مكابرة لعقله ، ووجه الحمل على الأمثال فيما إذا صرح بأداة التشبيه أن يقال إن مدخول الأداة والمضروب له يشملهما كلام واحد مشار إليه غير مدرك مذكور فى القرآن نصاً بلفظه ، ففى الآية يقال إن هؤلاء المنافقين والذى استوقد ناراً على الكيفية المذكورة ، مثلهما الذى يضرب لهما واحد وهو الدخول فى أمر مرغوب فيه وقطعه ، بحيث يكون القطع أضر من ترك الدخول من أول مرة ، ألا ترى أن المنافق أسفل فى النار من المشرك المحض ؟ وأن الحاصل فى ظلمة أعقبت نوراً أهم من الحاصل فيها من أول ؟ فالمنافق دخل بلسانه وربما شابته موافقة من قلبه غير خالصة ، وقطع دخوله بنفاقه أعنى أبطله به ، وأما ما لم يصرح فيه بالأداة فكونه مثلا مضروباً ظاهراً ، ولو صرح فيه بلفظ الضرب كقوله عز وجل { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط … } إلخ السورة ، ويجوز حمل القرآن على الاستعمال الأول وهو معنى الشبيه ، لأن ما صدقه راجع إلى الثانى ، لأنه سيق للبيان والإيضاح ، ويجوز حمله على الثالث وهو ذو الشأن والغرابة من حال أو صفة أو قصة ، فكأنه قبل صفة هؤلاء المنافقين الغريبة العجيبة الشأن . { كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً } أى كصفته الغريبة العجيبة الشأن ، حيث استوقد ناراً فى ظلمة ثم زالت وبقى متحيراً كما قال مولانا جل وعلا { فَلَمَّآ آضَآءَتْ } أى النار { مَا حَوْلَهُ } ما يقرب منه ويدور به من المواضع ، فأبصر بعد أن كان لا يبصر شدة الظلمة ، واستدفأ بعد أن كان مقروراً وآمن ما يخافه . { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم } أى أذهبه . { وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون ، فكذلك هؤلاء المنافقون آمنوا ما يخافونه من القتل والأسر والغنيمة والسبى وغير ذلك ، وزوال نعم حين أظهروا كلمة الشهادة وإذا ما يزال عنهم ذلك الأمن كما قال ابن عباس فى القبر وما بعده ، وجاءهم الخوف والعذاب لأنهم أضمروا الشرك ، ومن كان منافقاً بالفسق من أهل التوحيد ، فكذلك لأنهم آمنوا فى الدنيا مما ذكر ، وتوصلوا إلى مناكحة المسلمين وموارثتهم وغير ذلك ، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب ، وزال ما معهم من النور الضعيف القليل الذى حصلوه من التوحيد ، لأنهم لم يحققوه بعمل ، فيجوز أن يكون ذلك مثلا مضروباً لهؤلاء المنافقين بطريقة آخر هو أنه شبه حالهم حين أتاهم الله ضرباً من الهدى وهو التوحيد اللسانى فأضاعوه ولم يدخلوه قلوبهم ، ففاتهم نعيم الأبد بمن أعطى فى ظلمة عظيمة مخوفة نورا ، فلم يتسمك به ولم يحافظ عليه حتى زال ، فكلاهما متحير مضر . وهذه الآية مقررة وموضحة لقوله تعالى { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } وبطريق آخر هو أنه شبه إيمانهم من حيث إنه سلمت به دماؤهم وأولادهم وأموالهم ، وشاركوا المسلمين فى المغانم والأحكام ، ثم فضحهم الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأظهر نفاقهم فكان لهم اسم المنافق لا اسم المؤمن بنار أوقدت فانتفع بها قليلا فى الظلمة ثم زالت ، وهكذا حال الموحد المنافق بالنظر إلى انكشافه فى الآخرة وقد ينكشف أيضاً فى الدنيا ، فتزول عنه الولاية وتوابعها ، وبطريق آخر وهو أن نرجع ضمير الهاء للكفار المحض والكفار المنافقين بأن يشبهوا فى إعراضهم عن فطرة الإسلام أى فطروا عليها ، ونمكن عقولهم من نور الهدى بمن لم يحافظ على النور الذى حصل فى ظلمة فضاع عنه ، وبطريق آخر هو أن نرجع الضمير للكفار المحض الباقين على الكفر ، والمرتدين إليه بعد الإسلام والكفار المنافقين ، فإن كلا قد زال عنه نور الإسلام كزوال نور النار فى ظلمة ، وفى معنى ذلك كل من زال عن درجة فى الإسلام إلى ما دونها ، ولو لم يكن يحكم بهلاكه ولا بإطلاق أصم وأبكم وأعمى عليه ، اللهم إلا بقيد النسبة إلى الدرجة التى نزل عنها ، وقال قوم منهم قتادة إن المعنى أن نطقهم بلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، والقرآن كإضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها ، والمراد بالذى الجنس ، ولذلك عاد عليه ضمير الجمع فى قوله بنورهم ، أو لكونه نعتاً لمحذوف مفرد فى اللفظ جمع فى المعنى ، كالفريق والفوج والقوم ونحو ذلك ، مما هو مفرد لفظاً جمع فى المعنى ، أو لأن المراد مثل كل واحد منهم ، كمثل الذى استوقد ناراً ، ووجه الشبه بين الإسلام والنور أن كلا يزيل الحيرة والهلاك ، وضرب المثل بالنار لأن المستضىء بها مستضىء بنور غيره ، وإذا ذهب بقى فى ظلمة فلما أقروا بدون اعتقاد كان إيمانهم كالمستعار ، ولأن النار تحتاج لمادة الحطب لتدوم ، والإيمان يحتاج لمادة الاعتقاد ليدوم ، واستعمل الذى بمعنى الذين تخفيفاً بإسقاط النون فهى فى الحقيقة لفظ الذين ، أو استعمالا كالموصولات المشتركة مثل من ، وعلى كل وجه روعى لفظه فى استوقد وحوله ومعناه فى نورهم وما بعده إلا على تأويل مثل كل واحد منهم كمثل الذى فإنه مفرد لفظ ومعنى ، وإن قلت جاز مراعاة لفظه فى وجه التخفيف من الذين قلت لأن حقيقة تخفيفه منه إسقاط نونه وجعلها نسياً منسياً ، كما حذفت لام يد وهن ونحوهما وأعر بن على العين ، وإنما جاز تخفيفه المذكور واستعماله مشتركاً كمن ، ولم يحز وضع القائم موضع القائمين إلا بإرادة الجنس ، لأنه غير مقصود بالوصف به ذاتاً ، بل المقصود الوصف بصلته ، وإنما هو وصله إلى نعت المعرفة بها ، ولأنه ليس اسماً تاماً بل كجزء فحقه أن يستعمل مشتركاً كمن ، ولا تلحقه الزوائد ، وليس الذين جمعاً له بل اسم جمع ، زيدت فيه زيادة لزيادة المعنى ، ولذلك يقول الذين بالياء جراً ونصباً ورفعاً على اللغة الفصحى ، فليس جمع مذكر سالما ، ولغة من يقول رفعاً الذون ليست نعتاً فى إعرابه ، وكونه جمع سلامة له الاحتمال بقائه على البناء والواو أمارة على محله ، كما يقال منان ومنون فى الاستفهام ولكونه مستطالا بصلة استحق التخفيف ، فقيل الذى بإسقاط النون وتناسيها وإذا أسقطت بلا تناس وجب مراعاة المعنى بخلاف القائم فإن القصد الوصف به وهو اسم تام ، والقائمون جمعه وكذا ما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول سواء ، قلنا أل فى ذلك اموصولة أو حرف تعريف ، وإن قلت فلعل أل بقية الذى والذين . قلت هو بعيد لاختصاصها فى الأشهر بالاسم ولتخطئ العامل لها ، ولكونها لا محل لها من الإعراب ، والإعراب فى آخر الوصف اللهم إلا أن يقال أشبهت أل الحرفية التى للتعريف قد خلت على الاسم وتخطاها العامل ، فلم يكن لها إعراب محلا . وإخبار الفخر أن المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم تشبيه الجماعة بالواحد ، بل شبه قصتهم بقصة المستوقد ، كما شبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها بالحمار يحمل أسفاراً ، فالذى مفرد لفظاً ومعنى ولا يحتاج لتأويل ، فالضمير على هذا فى نورهم وما بعده للمنافقين لا للذى ، ومعنى استوقد طلب الوقود وسعى فى تحصيله ، واختار هذه الصيغة الدالة على الطلب والعلاج ليكون التمثيل بمن احتاج إلى النور غاية الاحتياج فى لجة الظلمة ، فهو يجتهد فى تحصيله ثم زال عنه فبقى فى ظلمة أشد ، هكذا أقول والممثل لهم ولو لم يكونوا مريدين لنور الدين ولا طالبين له ، لكنهم فى غاية الاحتياج إليه ولم يعلموا ، وقال الأكثر استوقد بمعنى أوقد ، ووقود النار حصول لهبها وارتفاعه من ذلك وقد فى الجبل إذا صعد وعلا فيه ، والنار جسم لطيف مضىء حار محرق ، وأما الجسم الذى يمتد منه فجمر ، وإطلاق النار على حرارتها مجاز ، والنور ضوؤها وضوء كل نير كالشمس والقمر والنجوم واللؤلؤ وهو نقيض الظلمة ، ونكر النار للتعظيم ، ولفظ النار مأخوذ من نارينور إذا نفر بالنون والفاء ، لأن فيها حركة واضطراباً ، أو نار ينور هو الذى أخذ من لفظ النار ، وأما النور فقيل مأخوذ من لفظ النار ، والتحقيق أنه من النور ، بفتح النون ، الذى هو مصدر ، وإنما ساغ ذلك الاختلاف لأن باب الأخذ والاشتقاق الذى بمعناه واسع يكفى فيه وجود المادة ، وأصل المعنى وهما موجودان فى كل لفظين متوافقين ، ومعنى أضاءت أنارت إنارة عظيمة ، فإن الضوء أعظم من النور لقوله تعالى { جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } ولو ترادفا لغة ، لأن الترادف بحسب الوضع كالاستعمال بلغية بحسب الاستعمال ، ويستعمل أضاء متعدياً بمعنى جعل الشىء للبصر زائلة ظلمته ، ويستعمل لازماً بمعنى الظهور للبصر ، وزوال ظلمته فيحتمل الذى فى الآية أن يكون متعدياً ، وفيه ضمير مستتر فاعل عائد إلى النار ، وما مفعول به وهو الواضح المتبادر ، ويحتمل أن يكون لازماً وما فاعله ، لوقوعه على الأمكنة ، لأن ما حول المستوقد هو أماكن وأشياء كائنة فلما ظهرت للببصر الأمكنة والأشياء التى حول المستوقد ، وأن يكون لازماً وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما زائدة ، وحوله ظرف متعلق بأضاءت بخلافه على الوجهين الأولين ، فإنه صلة . والمعنى على هذا الوجه فلما ظهرت النار وزالت بها الظلمة أو ظلمته أشرقت ، وأن يكون لازماً وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما اسم موصول كالوجهين الأولين ، لكنها واقعة على الأمكنة ، فهى منتصبة المحل على الظرفية ، وهذا أثبته الزمخشرى والقاضى ، وعندى أن هذا بعيد ولو جاز وقوع الذى ونحوه ظرفاً ، نحو جلست الذى جلست فيه ، أى فى الموضع الذى جلست ، لأن الذى ونحوه يصح النعت به ، وما لا ينعت بها ولا يبعد وقوع ما الشرطية ظرفاً زمانياً ، وهو متبادر فى قوله تعالى { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ومادة الحوق تدل على الدوران والتغير والانقلاب والظهور ، سواء كانت على هذا الترتيب - ح و ل أم لا ، فسمى ما يقرب من المستوقد حولا لاستدارته به ، وسمى العام حولا لأنه يدور ، وحال الشىء واستحال تغير ، وحال عن العهد انقلب وتحول إلى مكان ، ولاحه السفر غيره ، ولاح النجم ظهر ، ووحل بالكسر وقع فى الوحل وهو الطين ، كما أن مادة كمل للقوة ككمل وكلم وملك ومكل ولكم ، وجواب لما هو قوله عز وجل { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } ، ولم يقل بنارهم مع أنه مقتضى الظاهر ، لأن النور هو المراد من إيقادها ، ولأن الممثل لهم وهم المنافقون إنما يذهب عنهم نور الإيمان ، ويجوز أن يكون جواب لما محذوفاً للإيجاز وأمن اللبس ، لدلالة المقام عليه ، وفى حذفه بلاغه كأنه قيل فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين فى ظلام ، متحيرين على خمودها بعد طلب إيقادها وعلاجه ، وإذا قلنا بحذف جوابها كانت الهاء فى قوله { بِنُورِهِمْ } عائدة إلى المنافقين ، وكانت جملة { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } إما بدلا من قوله { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } مع الجواب المحذوف ، وهو بدل نحوى لأن التحقيق ألا يشترط فى إبدال الجملة من جملة وجود محل الإعراب للجملة الأولى المبدل منها ، ولو قال كثير باشتراطه ، وفائدة ذلك البدل البيان ، وقد أجاز الزمخشرى والقاضى الإبدال هنا ، وهو طبق ما ذكرت من عدم الاشتراط ، اللهم إلا أن يراد البدل اللغوى وهو أعم لا البدل الصناعى ، وأن معنى البدلية قيام الجملة مقام الجملة التى وقع بها التمثيل فى المعنى مع إفادة إيضاح ، وإما استئنافاً بيانيا كأنه قيل ما بالهم شبهت حالهم بحال الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله خمدت ، فقيل ذهب الله بنورهم ، وليس هذا الوجه ضعيفاً لأن هذا السؤال لا يغنى عنه ، فلما أضاءت ما حوله لحذف جواب لما وهو الخمود ، وإن قلت إن زوال نور الإيمان بفعلهم واختيارهم إذا اعتبرناه الفطرة التى فطروا عليها أو تمكنهم منه ، فكيف شبه بمن زال نور ناره بلا فعل منه واختيار ، بل بإذهاب الله ؟ قلت ساغ ذلك لأن المستوقد للنار هو أيضاً فاعل فى زوال نورها بتضييع أو تعمد يعقبه الندم ، لكن فعله مخلوق لله عز وجل ، فقال { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أو لأن الإزالة بسبب خفى فنسب لله ، سواء كان للمستوقد فيه فعل أو لم يكن ، أو لأنها حصلت بأمر سماوى كريح أو مطر ، أو نسبت الإزالة إلى الله تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل ، من حيث إنه فاعل لا إلى الخالق من حيث إنه خالق ، وذلك مجاز ومبالغة كما تقول ذبحه الله مجازاً أو مبالغة ، ولك أن تقول إن المستوقد استوقد نار فتنة وعداوة للإسلام ، فأضاءت ترشيح أو نار حقيقة فى معصية فأطفأها الله كما عاقبهم بعد اختيارهم ونسبتهم بالخذلان وعدم إلقاء حلاوة الإيمان فى قلوبهم ، فأطفئ عنهم نور الإيمان ، ففى هذين الوجهين اعتبر أن المطفئ هو الله فى جانب المشبه والمشبه به ، وإما إن قلنا زوال نورهم بالموت أو بالافتضاح فالإطفاء فى الجانبين من الله عز وجل ، والباء للتعدية كالهمزة ، إلا أن معها استصحابا وليس مع الهمزة ، يقال ذهب زيد بعمر وأى أذهبه ومضى معه ، ويقال أذهبه أى جعله ذاهباً سواء ذهب معه أم لا ، فإذا ذهب معه فليس لفظ أذهب هو الدال على المصاحبة ، فعبر بالباء فى الآية للمبالغة لدلالتها على المصاحبة وذلك مجاز لأن الوصف بالذهاب وصف بالمكان والتحيز والانتقال ، تعالى الله عنه . ووجه المبالغة إنما ذهبت به قد أزالته عن موضعه ، وحافظت عليه وأمسكته وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وقرأ اليمانى أذهب الله نورهم بهمزة التعدية لا ببائها ، فليس فيه مجازية الصحبة ، والفرق بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بما ذكر من المصاحبة مع الباء قول المبرد والسهيلى ، ورده ابن هشام بالآية ، يعنى لأن الله لا يذهب مع شىء ، بل يذهب الشىء ويزيله ، ويرده ما ذكرت من المبالغة والمجاز ، وإنما قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع أن مقتضى اللفظ أن يقال بضوئهم من حيث إنه المذكور فى قوله { فَلَمَّآ أَضَآءَتْ } للمبالغة فيفند إزالة النور عنهم أصلا ، ولو قيل بضوئهم احتمل ذهاب ما فى الضوء من الزيادة ، وبقاء ما يسمى نوراً لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة ، ويدل لذلك قوله { وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ } وإنه مقرر مؤكد فى المعنى ، لقوله { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } حيث ذكر الظلمة التى هى عدم النور وانطماسه بالكلية ونقيضه ، وقيل الظلمة عرض ينافى النور وترك فى الأصل بمعنى طرح وخل متعد لمفعول واحد ، فضمن معنى صير فتعدى لاثنين كقوله @ فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم @@ فجزر ، بفتح الراء ، مفعول ثان لا حال لإضافته للمعرفة والمضاف للمعرفة معرفة ، والحال لا يكون معرفة ، بخلاف قوله جل وعلا { فِى ظُلُمَاتٍ } فيحتمل التعليق بمحذوف مفعول ثان ، أو بمحذوف حال والتعليق بترك وجزر السباع شاة لسباع ، والجزر الشاة المعدة للذبح ، وجمع الظلمة ونكرها ووصفها بأنها ظلمة لا يمكن فيها الإبصار إبصار شىء ما للتعظيم والمبالغة ، فذلك أيضاً من مؤكدات قوله { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم } وقرأ الحسن بإسكان لام ظلمات ، وقرأ اليمانى فى ظلمة بالإفراد ، والظلمات ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله تعالى ، وظلمة العقاب الدائم ، أو كل ذلك ، والجمع للتنصيص على الأنواع مجملة ، وإلا فالظلمة مصدر يصلح لذلك ولو مفرداً ولذا قرأ اليمانى بالإفراد ، واشتقاق الظلمة من معنى قولك ما ظلمك أن تفعل كذا ، أى ما منعك ، لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية . قاله الزمخشرى والقاضى . والمشهور أن أصل الظلم معنى النقص كقوله تعالى { ولم تظلم منه شيئاً } أو معنى وضع الشىء فى غير موضعه ، كما قال الجوهرى ، وقد يجتمع بين ذلك بأن مرادهم المنع عن عدم النقص والمنع عن وضع الشىء فى موضعه ، وينصر فى الأصل متعد ونزل هنا منزلة اللام لعدم تعلق الغرض بمفعوله المطروح ، فليس مفعوله مقدرا مبينا الكلام على تقديره ونيته ، وجملة لا يبصرون مفعول ثان بعد مفعول ، أو لمحذوف حال ، أو حال من الهاء كما فى ظلمات حال منها .