Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 84-84)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } نداءه . { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ } أزلناه ، قال أسامة بن زيد " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله تعالى ملَكا موكلا بمن يقول يا أرحم الراحمين ، فمن قالها ثلاثا قال له الملَك إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فاسأل . ومر صلى الله عليه وسلم برجل يقول يا أرحم الراحمين . فقال له صلى الله عليه وسلم سل فقد نظر الله إليك ، أى رحمك " . { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أولاده الذكور ، وهم سبعة . وقيل ثلاثة ، وأولاده الإناث ، وهم سبعة ، أو ثلاثة . القولان أحياهم بعد موتهم . { وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } من زوجته . رد شبابها ، وزيد فيه . وذلك قول ابن مسعود وابن عباس والجمهور . وفى رواية عن ابن عباس رد الله عز وجل على المرأة شبابها ، فولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا . فإما أن يكونوا قبل ذلك ذكورا ، كلهم ، على نصف هذا العدد ، أو يكونوا ذكورا وإناثًا ، أو أقل من النصف . فالمثلية فى الوجهين الأخيرين فى العدد والجُمّل ونحوهما . وعن عكرمة قال الله له إن أولادك فى الآخرة ، فإن شئت رددناهم إلى الدنيا ، وإن شئت كانوا لك فى الآخرة ، وآتيناك مثلهم فى الدنيا . فقال يكونون لى فى الآخرة ، ويكون لى مثلهم فى الدنيا . { رَحْمَةً } مفعول لأجله . { مِنْ عِنْدِنَا } نعت رحمة . قال الثعلبى فى عرائس القرآن كان أيوب رجلا من الروم طويلا ، عظيم الرأس ، حسن الشعر ، حسن العينين ، قصير العنق ، غليظ الساقين والعضدين ، مكتوبًا على جهته المبتلَى الصابر . وهو أيوب بن أبرص بن زارح بن عونان بن روم بن عيص بن إسحاق ابن إبراهيم . وكانت أمه من ولد لوط بن هارون وكان الله قد اصطفاه ونبَّاه وكان له الثلث من أرض الشام كلها سهلِها وجبلِها وكلُّ ما فيها . وكان له من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والحمير وغير ذلك ما لا يكون لغيره . وكان له خمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد مال وامرأته وولد . ويحمل آلات كل فدات أتان ، ولكل أتان ولد أو ولدان إلى خمسة وأعطاه الله أهلا وولداً رجالا ونساء . وكان تقيًّا رحيما بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، شاكراً لأنْعُم الله ، ممتنعًا عن عدو الله إبليس أن ينال منه ما ينال من أهل الغنى ، من الغِرة والغفلة عن الله . وكان معه ثلاثة نفر ، قد آمنوا به وصدقوه ، وعرفوا فضله رجل من اليمن ، اسمه الفيزور . واثنان من بلدة تلمك وظفر ، وكانوا كهولا . قال وهب إن لجبريل موقفًا بين يَدَىِ الله ليس لغيره وهو الذى يتلقى الكلام ، فإذا ذَكر اللهُ عبداً بخير تلقّاه ثم ميكائيل ، وحوله الملائكة المقربون والحامُّون من حول العرش ، فإذا شاع ذلك فى الملائكة ، صارت الصلاة عليه منهم ثم تهبط الصلاة إلى ملائكة الأرض . وكان إبليس لا يُحجب عن شئ من السماوات حتى رفع الله عيسى - عليه السلام - فحُجِب من أربع ، فكان مصعد فى ثلاث فلما بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حُجب من الثلاثة أيضًا . وهو وجنوده محجوبون من جميع السماوات إلا من استرق السمع فلما سمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب والثناء عليه ، أدركه البغى والحسد ، وصعد سريعًا حتى وقف موقفًا كان يقفه . فقال يا إلهى نظرت إلى عبدك أيوب ، فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك ، وعافيْتَه فحمدك ، لم تبله بشدة ولين ، ضربته ببلاء ليكفرن بك وينساك . فقال له انطلق إليه ، فقد سلطتك على ماله . فانطلق وجمع العفاريت فقال ما عندكم من القوة فإنى قد سُلِّطتُ على مال أيوب ، وزوال المال هو المصيبة والفتنة التى لا يصبر عليها الرجال ؟ قال عفريت أُعطيتُ من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار ، وأحرقتُ كل شئ آتى عليه . قال إبليس فائْتِ الإبل ورعاتَها . فانطلق إلى ذلك ، ووجدها وضعت رءوسها فى مراعيها ، ولم يشعر الناس حتى ثارت من الأرض إعصاراً من نار . فنفخ فيها ريح السموم فأحرقها ورعاتها . ولما فرغ إبليس على قعود منها ، وانطلق إلى أيوب فوجده يصلى . فقال يا أيوب . قال لبيك . قال هل تدرى ما الذى صنع ربك الذى اخترتَه وعبدتَه بإبلك ورعاتها ؟ قال أيوب إنها مالُه أعارنيه ، وهو أولى به . فقال إبليس أرسلَ إليها ناراً من السماء فأحرقت . فمن الناس من يقول ما كان أيوب يعبد شيئًا وما كان إلا فى غرور . ومَن يقول لو كان إلهُ أيوب يقدر على أن يمنع شيئًا لمنع عن وليّه . ومَن يقول أفعلَ به ربه ذلك ليشمت به عدوه ، ويفجع به صديقه ؟ ! فقال أيوب الحمدلله حين أعطانى ، وحين نزع منى . عريانًا خرجت من بطن أمى ، وأعود إلى القبر بلا مال ، وعريانًا أحشر إلى الله . ليس لك أن تفرح حين أعارك ، ولا أن تجزع حين رد العاريّة . ولو علم فيك خيراً لنقلك مع تلك الأرواح ، كذا قال . والخطاب للرجل الذى تمثل به إبليس . وهو مشكل ، فإنه إنما يقول لو علم فيك خيراً لنقلك مع تلك الأرواح ، لو كان مؤمنًا ، ولعل الخطاب لنفسه فرجع إبليس - أبعده الله - خائبًا ذليلا . فقال لأصحابه ما عندكم ؟ فقال عفريت عندى ما إذا شئت صحتُ بصوت لا يسمعه ذو روح إلا مات . فقال له إيتِ الغنم ورعاتَها . فانطلق وتوسطها وصاح ، وماتت ورعاتها ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب ، وهو قائم يصلى فقال له مثل قوله الأول ، ورد عليه أيوب كرده الأول . فرجع إلى أصحابه . فقال لهم ما عندكم فإنى لم أكلم قلب أيوب ؟ فقال عفريت عندى ما إذا شئت تحولت ريحًا عاصفًا تنسف كل ما مرت عليه . فقال له إيتِ الفدادين ، فأتاها ريحًا نسفت كل ما فيها من بَذر وتراب . فخرج إبليس - أبعده الله - متمثلا بقهرمان الحرث ، فجاء أيوبَ ، وهو يصلى ، فقال له كما مر ، وأجابه بما مر ، وجعل يصيب أمواله مالا مالا ، كلما أتاه هلاك مال حَمِد الله ، وأثنى عليه ، ولم يبق له مال . فلما رأى إبليس - لعنه الله - قد أغنى ماله ، ولم يقل شيئًا شق ذلك عليه ، وصعد سريعًا ، حتى وقف الموقف الذى يقفه فقال اللهم إن أيوب يرى أنه إذا متعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطى على ولده فإنهم الفتنة المضلة والمصيبة التى لا تقوم لها قلوب . فقال الله سبحانه قد سلطتك على ولده ، فجاءهم فى قصورهم فزلزلها بهم ، ووقعت عليهم . فجاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذى يعلمهم الحكمة ، مخدوش الوجه ، سائل الدموع فقال لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف نُكسوا على رءوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم من أنوفهم وأفواههم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم ، لتقطَّع قلبك فلم يزل يقول هذا ويردده حتى رق قلب أيوب ، فبكى . فوضع قيل قبضة من التراب على رأسه ، فاغتم إبليس ، فصعد سريعاً يجزِّع أيوب ، ثم تفكَّر أيوب وتاب . فسبقت ملائكته بتوبته إبليس . فوقف خاسئًا فقال يا إلهى إنما هَوَّن على أيوب مالَه وولدَه ، أنه يرى أنك إذا متعته بنفسه أعدْتَ له المال والولد ، فهل أنت مسلطنى على بدنه ؟ فقال قد سلطتك عليه إلا لسانَه وقلبَه ، فأسرع إليه ، فوجده ساجدا ، فجاءه من تحت الأرض ، فنفخ فى منخره نفخة ، فخرج من قرنه إلى قدميه ثآليل مثل ليات الغنم ، ووقعت به حِكة لا يتماسك عنها ، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حك بالمسوح الخشنة ، فلم يزل يحكها حتى تقطَّع لحمه وتغير وأنتن . فأَخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة لهم ، وجعلوا له عريشًا ، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته رحمة بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب وكانت تختلف بما يصلحه ويكرمه . فلما رأى أصحابه الثلاثة ما ابتلاه الله به اتهموه من غير أن يتركوا دينه . فلما طال عليه البلاء انطلقوا إليه ووفى بلائه فبكَّتوه ولاموه وقالوا له تب إلى الله من الذنب الذى عوقبت به . وحضر معهم فتى حديث السن ، وقد كان آمن به فقال إنكم تكلمتم أيها الكهول ، ولم تدروا حتى من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومَن الرجل الذى اتهمتم ؟ ألم تعلموا أن أيوب نبى الله وحبيبه وخيرته وصفوته من أهل الأرض ؟ ولم تعلموا أن الله سخط شيئا مِن أمره ، منذ آتاه الله النبوة . فإن كان البلاء هو الذى أزرى بكم عنده ، ووصفه فى أنفسكم . وقد علمتم أن الله تعالى ابتلى المؤمنين والنبينن والصديقين والشهداء والصالحين . وليس بلاؤه لأوليائه على سخط عليهم ، ولا هوانهم عليه ، ولكنها كرامة ، وخير لهم . ولو كان أيوب على غير هذه المنزلة إلا أنكم صحبتموه ، فليس للحليم أن يعزل عن أخيه عند المصيبة ، ولا أن يعيب ما لم يعلم ، بل يرحمه ويبكى معه ويستغفر . فالله لله أيها الكهول ، قد كان لكم فى عظمة الله ما يقطع ألسنتكم ، ويسكِّن قلوبكم . ألم تعلموا أن لله عبادا سكَّنتهم خشيته من غير عمى ولا بَكَم ، وإنهم لهم الفصحاء النبلاء ، العالمون بالله وآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله ، انقطعت ألسنتهم ، واقشعرت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاما لله ، وإعزازا وإحلالا ، يستَبقون إلى الله بالأعمال الزاكية ، يعدون أنفسهم مع الخاطئين المفرِّطين ، لا يستكثرون الله الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال ، فهم ورعون خاشعون . فقال أيوب إن الله يزرع الحكمة بالرحمة فى قلب الصغير والكبير . فمتى ثبتت فى القلوب أظهرها الله على اللسان . وليست الحكمة من قِبَل السن والتجربة فإذا جعل الله العبد حكيما فى الغيب ، لم تسقط منزلته عند الحكماء ، وهم يرون من الله تعالى عليه نور الكرامة . ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال أتيتمونى غضابا قبل أن تُستغضبوا ، ورهبتم قبل أن تُسترهبوا ، وبكيتم قبل أن تُضربوا كيف بكم لو قلت لكم تصدقوا عنى بأموالكم ، لعل الله يخلصنى ، أو قربوا عنى قربانا لعل الله يقبله ويرضى عنى ، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم ، ولكم عيوب سترها الله بالعافية ، وقد كنت موقراً مسموع الكلام ، وليس لى اليوم رأى ، ولا كلام معكم . أنتم اليوم أشد من مصيبتى . ثم أعرض عنهم . فقال يا رب لأى شئ خلقتنى . ليتنى إذ كرهتنى لم تخلقنى . يا ليتنى كنت حيضة ألقتنى أمى ، ويا ليتنى قد عرفت الذنب الذى أذنبت ، فصرفتَ عن وجهك . لو أمتَّنى وألحقتنى بالموتى كان أجمل لى . إلهى ألم أكن للغريب والمسكين قراراً ، ولليتيم وليا ، وللأرامل قيّما ؟ إلهى أنا عبد ذليل ، فإن أحسنت فالمنة لك ، وإن أسأت فالعقوبة بيدك ، جعلتنى للبلاء عَرَضا ، وللفتنة نُصْبا ، وقد وقع علىَّ بلاءٌ لو سلطته على جبل ضعف عن حمله . إلهى تقطعت أصابعى ، فلا أرفع أكلة إلى فمى إلا على الجهد . إلهى تساقطت لهوانى ولحم رأسى فما بين أُذنىَّ من شئ ، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى ، وإن دماغى ليسيل من فمى . إلهى تساقط شعر عينى وحدقتاى مائلتان على خدى ، وَوَرِمَ لسانى فىَّ ، حتى ملأ فمى ، فما أدخل فيه طعامًا إلا غَصَّنى ، وَوَرِمَت شفتاى حتى غطت العُليا أنفى ، والسفلى ذقنى ، وتقطعت أمعائى فى بطنى ، وإنى لأُدْخِلُ الطعام فيخرج كما دخل ، ولا ينفعنى . إلهى ذهبت قوة رِجْلَىَّ فلا تحملانى ، وذهب المال ، فصرت أسأل بكفى ، ويُطعِمُنى مَن كنت أمونه ، وأُعَيَّر بهلاك أولادى ، ولو بقى واحد أعاننى على بلائى . إلهى ملَّنِى أهلى ، وعقّنى أرحامى ، وتنكَّرت إلىَّ معارفى ، ورغب عنى صديقى ، وقطعنى أصحابى ، وجُحدت حقوقى ، ونُسِيَت صنائعى . أصرخ فلا يُصرِخونى ، وأعتذر فلا يعذرونى ، وأدعو غلامى فلا يجيبنى ، وأتضرع لأمَتى فلا ترحمنى . كذا قيل ، ولعله تمثيل للإهانة ، وإلا فلا غلام ولا أَمَة له إذ ذاك ، وإن قضاءك هو الذى أذلنى ، وسلطانك والذى أسقمنى وأخلَ جسمى ، فلو أطلق لسانى حتى أتكلم . ثم قال لو كان ينبغى للعبد أن يحاجج عن نفسه لرجوت أن تعاقبنى عند ذلك مما بى ، ولكنه ألقانى فهو يرانى ولا أراه ، ويسمعنى ولا أسمعه . قال ذلك أيوب ، وأصحابه عنده ، فأظلته غمامة ، حتى ظنوا أنه عذاب فنادته الملائكة منها ، أو خلَق الله فيها كلاما يا أيوب إن الله قريب منك فى كل حين ، فأَدْل بعذرك ، وتكلم ببراءتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد عليك إزارك ، وقم مقام جبار ، فإنه لا ينبغى أن يخاصمنى إلا جبار مثلى إلا مَن يجعل السِّخال فى فم العنقاء ، واللخام فى فم التنِّين ، ويكيل مكيالا من الريح ، ويصر صرة من الشمس ، وبرد أمِس . لقد تمنت نفسك أمراً ما يبلغ بمثلك ، أم أردت أن تكابرنى بضعفك ، أو تخاصمنى بفمك أو تحاججنى بخطئك ؟ أين أنت يوم خلقت الأرضين ؟ هل علمت عَلاَمَ وضعت أساسها ؟ وكم قدرها وبُعد زواياها ؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض ؟ أم بحكمنك كانت الأرض غطاء للماء . أين أنت يوم رفعت السماء سقفًا ؟ وهل يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أين أنت يوم سخرت البحار ، وفلقت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحر على حدودها ؟ أم فتحت الأرحام ؟ أين أنت يوم خلقت البهموت ، وجعلت مكانه فى منقطع الثرى ؟ وأين أنت يوم خلقت الجبال ؟ وهل تدرى بأى مقدار وزنت ؟ وعَلامَ أرسيت ؟ وهل لك ذراع تحملها بها ؟ وهل تدرى من أين الماء ؟ ومم أنشئت السحاب ؟ أمِن خزانة الثلج ؟ أم من جبل البرَد ؟ وأين خزانة الليل بالنهار ؟ وخزانة النهار بالليل ؟ وأين خزانة الريح ؟ وبأى لغة تتكلم الأشجار ، ومَن جعل العقول فى أجواف الرجال ؟ وشق الأسماع والأبصار ؟ ومَن ذلت الملائكة لملكه ؟ وقسم الأرزاق بحكمته ؟ أين أنت يوم خلقت التنين رزقه فى البحر ، ومسكنه فى السماء ، وعيناه تتوقدان نارا ، ومنخراه ينثران دخانا ، وفوه يثور منه نار ، جوفه يحترق ، ونفسه يلتهب وزبده جمر كالصخور ، وصرير أسنانه كأصوات الصواعق ، ونظر عينيه كلمع البرق ، والحديد عنده كالتبن ، والنحاس كالخيط يسير فى الهواء كالعصفور ، ويهلك كل ما مر عليه . هل أنت آخذه وواضع اللجام فى شدقه ؟ هل تحصى عمره ؟ هل تدرى ما خرب من الأرض ؟ وماذا يخرب فيما يفنى من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب ؟ أم تأمر فيطيعك . قال أيوب إلهى قصرت عن هذا الأمر الذى عرض علىَّ . ليت الأرض انشقت لى فذهبت فيها ، ولم أتكلم بشئ يسخط ربى . اجتمع علىَّ البلاء ، وقد علمت أن ذلك كله صنعك ، وأعظم منه . ولا تخفى عنك خافية ، ولا يعجزك شئ . وقد علمت فى بلائى هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت أن يكون أمرا أكثر مما كان . إنما كنت أسمع بصوتك ، والآن شاهدت . تكلمتُ حين تكلمتُ لتعذرنى ، وسكتُّ حين سكتُّ لترحمنى كلمة زلت على لسانى فلن أعود ، وقد وضعت يدى على فىّ ، وعضضت على لسانى ، وألصقت بالتراب خدى ، ودسست فيه وجهى لضاربى ، فما غفر لى ما قلت . فلن أعود لشئ تكرهه منى . واستجرتك من جهد البلاء . فأَجِرْنِى ، واستعنت بك من عقابك فأعنى ، وتوكلت عليك فاكفنى ، واعتصمت بك فاعصمنى . فقال الله يا أيوب نَفَذَ فيك حكمى ، وسبقت رحمتى غضبى . قد غفرت لك ورحِمتُك ، ورددت عليك أهلك ومالك ، ومثلهم معهم ، لتكون لمن خلفك آية ، وعِبرة لأهل البلاء ، وعزاءً للصابرين . اركض برجلك هذا مغتسَل بارد وشراب ، فيه شفاء ، وقرِّب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصونى فيك . فغسل وأقبلت امرأته تلتمسه فى مضجعه فلم تجده فَولِهتْ وقالت يا عبد الله هل لك لرجل المبتلَى الذى كان ها هنا ؟ فقال لها وهل تعرفينه إذا رأيتِه ؟ قالت نعم . ومالى لا أعرفه ! وتبسم . وقال لها أنا هو . فعرفته لما تبسم ، فاعتنقته . قال ابن عباس فوالذى نفسى بيده ما فارقته من عناقه ، حتى مر بهما ما كان لهما من المال و الولد . وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أيوب نبى الله لبث فى بلائه ثمانى عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوته يغدوان إليه ويروحان . فقال أحدهما لصاحبه والله لقد أذنب أيوب ذنبا ، ما أذنبه أحد من العالمين . فقال له صاحبه وما ذاك ؟ فقال منذ ثمانى عشرة سنة ، لم يرحمه الله . ولما راحا إلى أيوب ، ذكر الرجل ذلك له . فقال أيوب ما أدرى ما تقول غير أنى كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتى ، فأكفِّر عنهما كراهة أن يذكرا الله تعالى فى حقى . قال وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسك امرأته بيده حتى يبلغ منزله . ولما كان ذات يوم أبطأ عنها . وذلك أنه أوحى الله تعالى إليه اركض برجلك فاستبطأته فتلقته لتنظر ما شأنه ، فأقبل عليها وقد أذهب الله عنه ما أصابه من البلاء ، وهو أحسن مما كان . ولما رأته قالت له هل رأيت نبى الله هذا المبتلى ؟ " . قال لها أنى أنا هو . وكان له أندران أندر للقمح ، وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين أفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب حتى فاض ، والأخرى على أندر الشعير الفضة حتى فاض . وروى أن الله بعث إليه ملكاً وقال إن ربك يَقْرؤُك السلام بصبرك ، فاخرج إلى أندرك . فخرج إليه ، فأرسل الله إليه جرادا من الذهب ، فطارت واحدة ، فأتبعها وردها إلى أندره . فقال له الملك أما يكفيك ما فى أندرك ؟ فقال له هذه بركة من بركات ربى ، ولا أقنع من بركاته . وعنه صلى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا ، مر عليه جراد من ذهب ، فجعل يحشى فى ثوبه . فناداه ربه ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال بَلى يا رب ، ولكن لا غِنى لى من بركتك . وعن وهب لم تكن بأيوب أَكَلة . وإنما كان يخرج منه مثل ثدى المرأة ثم ينفقع . قال الحسن لم يبق له غير امرأته رحمة ، صبرت معه ، تتصدق وتأتيه بطعام وتحمد الله تعالى معه إذا حَمِده . وكان أيوب على ما به لا يفتر عن ذكر الله ، والثناء عليه ، والصبر على ما ابتلاه . فصرخ اللعين صرخة ، جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعًا من صبر أيوب . فلما اجتمعوا حوله قالوا له ما جزعك ؟ قال لهم أعيانى هذا العبد الذى سألت ربى أن يسلطنى على ماله وولده ، فلم أدَع له مالا ولا ولدا ، فلم يزده ذلك إلا صبرا وثناء على الله تعالى ، ثم سُلِّطتُ على جسده ، فتركته كخرقة ملقاة على كناسة ، لم يقربه أحد إلا امرأته ، لقد افتصحت من ربى ، واستعنت بكم لتعينونى عليه . فقالوا له أين مكرك ؟ أين علمك الذى أهلكت به من مضى ؟ قال بطل ذلك فى أيوب . فأَشيروا علىَّ . قالوا نشير عليك بما أتيت به آدم . قال من قِبَل امرأته ؟ قالوا شأنك بأَيوب مِن قِبَل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، وليس أحد يقربُه غيرها . قال أصبتم . فانطلق إبليس إلى امرأته ، فوجدها وهى تتصدق ، فمثل لها فى صورة رجل فقال لها أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت هو ذلك يحك قروحه ، وتتردد الدواب فى جسده . فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع ، فوسوس إليها وذكّرها ما كانت فيه من النعيم والمال ، وذكّرها جمال أيوب وشبابه ، وما هو فيه من الضر ، وأن ذلك لا ينقطع أبداً . قال الحسن فصرخت . فلما صرخت علم أنها قد جزعت . فأتاها بسخلة فقال لها ليذبح هذه أيوب لغير الله ويبرأ . فجاءته وهى تصرخ وقالت يا أيوب إلى متى يعذبك ربك ! ألاَ يرحمك ؟ أين المال ؟ أين الماشية ؟ أين الولد ؟ أين الصديق ؟ أين لونك الحسن ؟ اذبح هذه النخلة لغير الله وتستريح . قال لها أيوب أتاك عدو الله تعالى فنفخ فيك ؟ ! ويلك . رأيت ما تبكين عليه ، مما كنا فيه من المال والولد والصحة . مَن أنعم بها علينا ؟ قالت الله عز وجل . قال وكم متعنا به ؟ قالت ثمانين سنة . قال فمنذ كم ابتلانى الله تعالى بهذا البلاء ؟ قالت مذ سبع سنين . قال ويلك ما عدلتِ ، ولا أنصفتِ ربك . ألا صبرتِ فى هذا البلاء الذى ابتلانا به ربنا ثمانين سنة كما كنا فيه من الرخاء ؟ ! والله لئن شفانى الله لأجلدنك مائة جلدة ، حيث أمرتنى أن أذبح لغير الله . طعامُك وشرابُك الذى تأتينى به علىَّ حرام . فاذهبى ولا تأتينى . ولما رأى أنه لا طعام ولا شراب ، وقصرت امرأته ، خر ساجدا وقال رب إنى مسنِى الضر وأنت أرحم الراحمين . فقيل له ارفع رأسك ، فقد استجيب لك . اركض برجلك فركض فخرج ماء ، فاغتسل منه ، وذهب ما به . وشرب وذهب ما فى باطنه . وقيل ركض برجله أيضًا ، فتبع فشرب . وجعل يتلفت ، ورأى جميع ما كان له من مال وولد ومثله معه . فقعد فى مكان مشرف ثم إن امرأته قالت أرأيت إن طردنى إلى مَن أكِلهُ ؟ أأدَعُه يموت جوعًا ، وتأكله السباع ؟ ! والله لأرجعن . فرجعت للكناسة ولم تجده ، فوجدت الأمور قد تغيرت ، وجعلت تبكى ، وأيوب يراها . فدعاها فقال لها يا أمة الله ما تريدين ؟ فبكت وقالت أردت ذلك المبتلى الذى كان منبوذًا على الكناسة ، ولا أدرى أصاع أم ماذا فُعل به ؟ قال لها أيوب ما كان منك ؟ فبكت وقالت بعلى وقال لها أتعرفينه إذا رأيته ؟ قالت وهل يخفى على أحد . ثم جعلت تنظر إليه وهى تهابه . قالت أمَا إنه أشبه خلق الله بك إن كان صحيحا . قال فإنى أنا أيوب . أمرتِنى أن أذبح لإبليس ، فأطعت الله ، وعصيت إبليس - لعنه الله - فدعوت الله ، فردَّ علىّ ما تريْن . قال وهب فلما غلب أيوبُ إبليسَ ، اعترض امرأتَه فى موكب عظيم ليس كموكب الناس ، وفى هيئة وجمال ، ليس كجمال بنى آدم فقال لها أنتِ صاحبة أيوب المبتلَى ؟ قالت نعم . قال لها هل تعرفيننى ؟ قالت لا . قال لها أنا إله الأرض ، وأنا الذى صنعت بصاحبك ما صنعت . وذلك أنه عَبَدَ إله السماء وتركنى ، ولو سجد لى سجدة رددت عليه ما كان لكما من مال وولد ، فإنه عندى ، ثم أراها إياهم ببطن الوادى الذى لقيها فيه . قال وهب وقد سمعت أنه قال لو كان صاحبك أكل طعاما لم يُسمِّ عليه لعُوفِى . وفى بعض الكتب أنه قال لرحمة وإن شئتِ فاسجدى لى سجدة واحدة حتى أردّ لك الأولاد والمال ، وأعافى زوجك . فذكرت لأيوب ذلك . فقال ذلك إبليس - عدو الله - أراد أن يفتنك عن دينك . وأقسم لَئِن عافانى الله لأضربنَّك مائة جلدة . وذُكر أنه قال له الله اركض برجلك . فركض فنبع ماء اغتسل به . ولما اغتسل تطاير من الماء الذى كان يغتسل منه جراد من ذهب ، فجعل يضمه إلى صدره فقال له ألم أغنك عن ذلك ؟ قال بَلَى ، ولكن من يشبع من بركتك ! ومشى أربعين خطوة ، وأمره أن يركض ، فركض بالأخرى ، فتبع ماء ، وشرب منه . وظاهر الآية التى فى ص أن الركض واحد ، وكانت امرأته تكسب وتقوته ولما طال الأمر شتمها الناس ، ولم يستعملها أَحد . فحزّت قَرنا من رأسها باعته ، وأتته بثمنه طعاما . فقال لها أين قَرنك فأَخبرته . فقال رب إنى مسَّنِى الضر . وقيل قال ذلك لتعرُّض إبليس لزوجته أن تسجد له ، ولأمره أن تذبح لغير الله ، ولأمره أن يسجد له . وقيل لشماتة أصدقائه به . وقيل لطرده إياها . وقيل لقصد الدود قلبه ولسانه فخشى أن يبقى منقطعا عن الذكر والفكر . وكانت الدودة . قيل كالذراع . وقيل قال ذلك لما وقعت دودة فردَّها لموضعها ، وقال لها قد جعلنى الله طعامك ، فعضته عضة زاد ألمها على ما قاسى من عقر الديدان . وعن عبد الله بن عمر كان له أخوان ، فقاما من بعيد لنتنه . فقال أحدهما لو علم الله فيه خيراً ما ابتلاه . فسمع ذلك ، وما كان شئ أشد عليه من كلامه . فقال ربى إنى مسنى الضر ، وأنت أرحم الراحمين . اللهم إن كنتَ تعلم أنى لم أبت قط شبعانَ وأنا أعلم بمن كان جائعًا فصدِّقنى . فصُدِّق من السماء ، وهما يسمعان . فخر ساجدا لله فكلام الرجل هو الضر الذى مسه . @ كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الحسَّاد إن المصائب تنقضى أيامها وشماتة الأعداء بالمرصاد @@ قال الجُنَيد عرَّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكثرة النوال . ومات . قيل وهو ابن ثلاث وتسعين سنة . وسماه الله صابراً مع قوله رب إنى مسَّنى الضر لأن قوله هذا ليس بشكوى ، بل دعاء - كما مر - بدليل { فاستجبنا له } . وأيضًا إظهار الشكوة ولو للناس مع الرضى بالقضاء ليس جزعًا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لجبريل فى مرض موته أجدنى مغمومًا . أجدنى مكروبًا . وقالت عائشة وارأساه . فقال بل أنا وارأساه . وقيل فى رحمة إنها بنت يوسف الصديق . وقيل فى أيوب إنه من بنى إسرائيل لا من الروم . وروى أنه إذا وقعت دودة ردَّما ، وقال كلى رزقك ، وأنه دعا حتى مر عليه أعداء له فشمتوا به ، وأنه لما أمطرت عليه سحابة من ذهب ، جعل يجمع ما طار أو بَعُدَ فى ثوبه . وروى أن الله أذن لإبليس فى هلاك قرابة أيوب ، كما أذن فى أولاده . وروى أن إبليس - لعنه الله - قال لأيوب عيانا اذبح سَخْلة . قال لا ولا كفًّا من تراب . { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } اصبروا كما صَبر ، وتُثابوا كما أثيب فى الدنيا والآخرة . ذكر الشيخ هود عن ابن مسعود أنه لا يبلغ المرء الإشراك بالله حتى يصلى لغير الله ، أو يدعو غير الله ، أو يذبح لغير الله . وذكر عن الحسن أن الله جل وعلا يحتج على أهل الجمال - إذا قالوا آتيتنا جَمالا ، أشغلَنا عن العبادة - يوسف . ويقول جَمالكم خير أم جَماله ؟ فيقولون جَماله . فيقول لم يشغله ، وعلى أهل البلاء بأيوب . وعلى أهل الملك بسليمان . ويسألهم مَن أشد ؟ فيقرون . ويقول لم يشغله ذلك . وذُكر عن الحسن أنه لم يبلغ شئ فى أيوب مثل قولهم لو كان نبيًّا ما ابتلى بذلك . ودعا عند سماعه قولهم ذلك اللهم إن علمت أنى لم أعمل حسنة فى العلانية إلا عملت مثلها فى السر ، فاكشف ما بى من الضر .