Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 115-115)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ اللهُ } اجابة لدعاء عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام . { إِنِى مُنَزِّلُهَا } باسكان النون وتشديد الزاى عند نافع وابن عامر وعاصم ، وقرأ غيرهم بفتح النون وكسر الزاى مشددة . { عَلَيْكُم فَمَن يَكْفُر بَعْدُ } بعد تنزيلها . { مِنْكُم فَإِنِى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً } اسم مصدر مفعول مطلق ، أى أعذبه تعذيباً أو مفعول به على نزع الخافض ، أى بعذاب على أن يراد بالعذاب المعنى الحاصل بالمصدر . { لا أُعَذِّبُهُ } الهاء مفعول مطلق ، لأنها بمعنى المصدر لعودها الى العذاب الواقع بمعنى التعذيب ، أو على تقدير الباء ، أى لا أعذبه وفى الهاء على الوجهين استخدام لا نفى لتذيبه مبنى لفظاً على أمكن ثبوته ، تقول لا يبصر فيمن يمكن أن يبصر ، وللقول جدار أعمى لا يبصر ، فعلمنا أن هذا استخدام لأن تعذيب ذلك لا يعذب به ذلك بل مثله من جنسه . { أحَداً } مفعول به لأعذب ، وليس له مفعولان ، لأن الهاء مفعول مطلق ، أو على تقدير الباء وجملة لا أعذبه نعت عذاباً . { مِّنَ العَالَمِينَ } نعت لأحد ، وذلك التعذيب فى الدنيا وهو مسخهم قردة وخنازير ، والمراد بالعالمين العالمون مطلقاً ، فان المعتدين فى السبت مسخوا قردة فقط ، ومن وراء عذاب الدنيا عذاب الآخرة ، وقيل المراد عالموا زمانهم ، وقيل مسخوا خنازير ولم يمسح قبلهم أحد خنزير ، أو قيل المراد عذاب الآخرة ، قال ابن عمر أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . قال قتادة ، عن حلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت المائدة عليها خبز ولحم " وذلك أن عيسى عليه السلام سألوه طعاماً يأكلون منه ، ولا ينفد فقال ، لهم انى فاعل ، وانها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا ، فان فعلتم ذلك عذبتم ، فما مضى يومهم حتى خبئوا وخانوا ، وفى بعض الروايات أن بعضهم سرق منها وقال لعلها ترفع فلا تنزل أبداً فرفعت ، ومسخوا قردة وخنازير . وروى أنه لما صاموا الثلاثين يوماً التى أمرهم بها قالوا صمنا وجعنا ، فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، فلبس المسوح ، وافترش التراب ، ودعا الله عز وجل وقال اللهم أنزل علينا مائدة من السماء ، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة ، وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس ، كما أكل منها أولهم . وعن عطاء ، عن زادان وميسرة كانت المائدة اذا وضعت لبنى اسرائيل اختلفت عليها الأيدى بكل طعام الا اللحم ، وقيل نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شىء ، وعن قتادة كانت مائدة تنزل من السماء ، وعليها ثمر من ثمار الجنة ، تنزل بكرة وعشية ، حيث كانوا كالمن والسلوى ، وقيل كانت تنزل ويأكلون منها ما شاءوا . وعن وهب بن منبه أنزل الله قرصة من شعير وحيتاناً ، وما كان ذلك يغنى عنهم شيئاً ، ولكن الله أضعف لهم البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ويأتى آخرون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل . وقال كعب الأحبار رضى الله عنه نزلت مائدة منكوسة ، تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، وعليها كل طعام الا اللحم ، وقال مقاتل والكلبى استجاب الله تعالى لعيسى عليه السلام وقال { إِنِى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } كما سألتم ، فمن أكل من ذلك الطعام ثم لم يؤمن جعلته مثلا بعده ولعنته ، ثم قالوا رضينا ، فدعا شمعون الصفار ، كان رأس الحواريين فقال هل معك طعام ؟ قال نعم ، معى سمكتان صغيرتان وستة أرغفة ، فقال على بها فقطعهن صغاراً ، ثم قال اقعدوا فى روضة وترافقوا رفاقاً ، كل رفقة عشرة ، ثم قال عيسى عليه السلام ودعا ربه سبحانه فاستجاب له ، وأنزل بها البركة ، فصار خبزاً صحيحاً وسمكاً صحاحاً ، ثم قام عيسى عليه السلام ، فجعل يلقى فى كل رفقة ما حملت أصابعه ، ثم قال باسم الله ، فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم ، فأكلوا ما شاء الله ، وفضل منه والناس خمسة آلاف ونيف . فقال الناس جميعاً نشهد أنك عبد الله ورسوله ، ثم سألوا مرة أخرى ، فدعا عيسى عليه السلام فأنزل الله تعالى خمسة أرغفة وسمكتين ، فصنع عيسى ما صنع فى المرة الأولى ، فلما رجعوا ونشروا هذا الحديث ضحك منهم قوم ممن لم يشهد وقالوا لهم ويحكم انما سحر أعينكم ، فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرة ، ومن أراد الله به فتنة رجع الى كفره ، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبى ولا امرأة ، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام وهلكوا ، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا . عن عطاء بن أبى رباح ، عن سلمان الفارسى لما سأل الحواريون المائدة ، لبس عيسى الصوف وقال { اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء } الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها ، وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون اليها ، وهى تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه السلام وقال اللهم اجعلنى من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، واليهود ينظرون اليها ، ينظرون الى شىء لم يروا مثله قط ، ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليه السلام ليقم أحسنكم عملا ، ويكشف عنها وذكر اسم الله ويأكل منها ، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين أنت أولى بذلك منا ، فقال عيسى فتوضأ وصلى صلاة طويلة ، وبكى كثيراً ، ثم كشف المنديل عنها وقال باسم الله خير الرازقين ، فاذا هو بسمكة مشوية ، ليس عليها فلوس ولا شوك ، تسيل دسماً وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحواليها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، واذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثانى عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى ليس من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنة ، ولكنه شىء افتعله الله بقدرته العالية ، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله ، فقالوا يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى معاذ الله أن آكل منها ، انما يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها عيسى عليه السلام أهل الفاقة ، وأهل البرص والجذام ، والمقعدين والمبتلين ، فقال كلوا من رزق الله ، ولكم الهناء ولغيركم البلاء ، فأكلوا وصدروا عنها ألف وثلثمائة من رجال ونساء حتى شبعوا ، ثم نظر عيسى الى السمكة ، فاذ هى كهيئتها حين نزلت من السماء ، ثم طارت الى السماء ينظرون اليها حتى توارت ، فلم يأكل منها مبتلى الا عوفى ، ولا فقير الا استغنى ، ولم يزل غنياً حتى مات وندم الحواريون ، ومن لم يأكل منها . وكانت اذا نزلت اجتمع اليها الأغنياء والفقراء ، والكبار والصغار ، والرجال والنساء ، ولما رأى ذلك عيسى عليه السلام جعلها نوبة بينهم ، فلبث أربعين صباحاً تنزل ضحى فلا تزال منصوبة ، يؤكل منها حتى يفىء الفىء طارت ينظرون فى ظلها تنزل يوماً ، ولا تنزل يوماً فأوحى الله الى عيسى عليه السلام اجعل مائدتى ورزقى للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شككوا الناس فيها . ويروى أنه لما قال كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله ، فقال الحواريون يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال عيسى عليه السلام يا سمكة احيى باذن الله ، فاضطرت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ، ففزعوا فقال عيسى عليه السلام ما لكم تسألون أشياء ، فاذا أعطيتموها ما أخوفنى عليكم أن تعذبوا يا سمكة كونى كما كنت باذن الله ، فعادت كما كانت السمكة مشوية ، فقالوا يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها ، فقال معاذ الله انما يأكل منها من سألها الى آخر ما مر ، ولما عظم على الأغنياء تخصيص الفقراء بها بعد اشتراكهم ، صعب عليهم فقالوا للناس أترون أن المائدة تنزل من السماء حقاً ، فأوحى الله عز وجل الى عيسى عليه السلام أنى شرطت أنه من كفر بها بعد نزولها عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، فزعم بعض أن عيسى قال فى ذلك { ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم } فمسخ الله منهم ثلثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم ، ثم أصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات ، يأكلون العذرات . ولما رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى عليه السلام وبكوا ، ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطوف به ، وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم لا يقدرون على الكلام ، وماتوا لثلاث ليال . وعن ابن عباس فى المائدة كل طعام الا اللحم وعنه خبز وسمك يأكلون منها أين ما نزلوا ومتى شاءوا ، وقيل مسخ منهم ثلاثة وثمانون ، وقيل لما شرط الله عليهم فى انزالها تعذيب من لا يؤمن بها عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين استعفوا وقالوا لا نريد فلم تنزل ، وأن معنى { إنِى مُنَزِّلُهَا } أى أنزلها على ذلك الشرط ان قبلتم فلم يقبلوا ، فلم تنزل ، وعن الحسن والله ما نزلت ، ولو نزلت لكانت عيداً الى يوم القيامة ، والصحيح أنها نزلت وهو الموافق لقوله تعالى { إنِى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } وهو رواية عن مجاهد ، والأخرى عنه كقول الحسن ، وعن مجاهد أنها لم تنزل ولم يكن الكلام فى المائدة حقيقة ، ولكن المائدة مثل ضربه الله لمقترحى المعجزات . قال القاضى ، وعن بعض الصوفية المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف فانها غذاء الروح ، كما أن الأطعمة غذاء البدن ، وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا فى حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها ، فقال لهم عيسى عليه السلام ان حصلتم الايمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها ، فلم يقطعوا عن السؤال وألحوا فيه ، فسأل لأجل اقتراحهم ، فبين الله تعالى أن انزالها سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة ، فان السالك اذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ، ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيداً .