Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 1-1)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بسم الله الرحمن الرحيم { الحمدُ للهِ الَّذى خَلَق السَّماوات والأرضَ } إخبار بأن الله جل جلاله هو أهل الحمد ، فإذا كان إهلاله وجب حمده ، فهو مقيد للأمر من هذه الجهة ، وقيل اللفظ إخبار ، والمعنى أمر ، أى احمدوا الله ، أو قالوا " الحمد لله " ولو قال احمدوا الله لم يفد الدوام والثبوت ، ولم يفد تعليل صفة الحمد ، وعلل الحمد بخلق السماوات والأرض ، لأن فيهن منافع الدنيا والآخرة لنا ، ولكونهن منافع وعبراً ، وأعظم ما ترى من الأجسام خصَّهن بالذكر ، فهو حقيق بالحمد لخلقه هذه المنافع والأجسام العظام ، حمد أو لم يحمد ، فهو حجة على الذين كفروا وعدلوا بربهم ، وجمع السماء دون الأرض ، مع أن الأرض أيضاً أرضون ، لأن طبقات السماوات مختلفات ، بعضها موج ، وبعضها فضة ، وهكذا … ومتفاوتات الآثار والحركات والأرضين كلهن تراب وحجر ، ساكنات لا تفاوت فيهن بحركة أو أثر . وقدم السماوات لشرفهن بالملائكة وبالعبادات الدائمة والخلو عن المعاصى ، وبالنيرات ، وعلوّ مكانهن وتقدم وجودها كذا قيل إنه تقدم وجودها ، وذلك تفضيل يظهر للحسن ، وأما باعتبار أن رسول الله صلى الله وسلم خلق من الأرض ، فهذه الأرض أفضل ، وذلك الحمد شكر أيضاً لتعلقه بالمنافع ، وإنما جعلت قوله { الذى خلق } تعليلا وتعليقاً ، لأن الموصول وصلته كالوصف ، وتعليق الحكم بالوصف يؤذن بعليته . وحكى الفخر عن سيبويه أنهُ لا يقال الحمد بالتعريف إلا فى الله ، لأنه يدل على التعظيم ، وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من شئ أحب إلى الله من الحمد " وقالوا أبلغ الحمد الحمد لله على كل حال ، وما من نعمة عظمت إلا والحمد لله أعظم منها ، والمراد خلق السماوات والأرض وما فيهما وغير ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم " أذن لى أن أحدث عن ملك من حملة العرش ، رجلاه فى الأرض السفلى ، وقرناه على العرش ، ما بين شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير مسيرة مائة عام ، وهو يقول سبحان الله ، وهو اسمه روقيل " { وجَعَل الظُّلمات والنُّور } جعل بمعنى أنشأ ، ولذلك تعدى لواحد ، والفرق بين الجعل الذى بمعنى أنشأ الخلق ، وأن الخلق فيه معنى التقدير ، والجعل فيه معنى التضمين ، قال السعد فى حاشية الكشاف معنى التضمين جعل شئ فى ضمن شئ ، بأن يحصل منه أو يصير إياه ، أو ينتقل منه إليه ، وذلك أن النور والظلمة لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية وهم مجوس ، وخلق الظلمة إلى هرمز وهو الشيطان ، وبنوا على ذلك أن الله خلق الخير ، والشيطان خلق الشر . زعمت المنانية منهم أن النور والظلمة حيان فعالان درا كان حساسان ، وما زالا مفترقين حتى بغت الظلمة على النور فمازجته ، فعند ذلك تكونت الأشياء من امتزاجهما ، فكل ما حدث من نور وخير وعلم وبر ، فهو من الأصل النورى ، وكل ما يحدث من ظلمة وشر وجهل وفجور ، وكل شئ قبيح ، فهو من الأصل الظلمى ، ورد عليهما أن افتراقهما قبل الممازجة إن كان لطبيعة فلا يتمازجان بعد ، لأن الطبيعة تلزم ، وإن كان اختياراً فلعلهما قد امتزجا قبل هذا الافتراق الذى أثبتم ، ومن أين لكم أنهما لم يمتزجا قبل ، ويرد عليهما أيضا أنهما لم يزل بصفة كذا لا يزول عنها ، فإذا قلتم ، لم يزالا مفترقين فكيف يزول الافتراق ؟ فإن ما لا أول لهُ لا يزول ، وأيضا إن لم يحدث عن ممازجتهما شئ فلعلهما لم يفترقا ، وإن حدث بها نور أو ظلمة لزم حدوث النور كله أو الظلمة كلها ، لأن الشاهد يدل على الغائب ، والقليل على الكثير ، والكثير على القليل ، وأنتم قلتم لم يزالا قديمين ، وإن حدث شئ غير نور ولا ظلمة بطل قولهم إذا ثبتوا ثالثاً ، وأيضا إن كان الامتزاج لتحركها إلى النور حتى مازجته فالتحرك أماله ابتداء فقبله سكون طبعى لها فلا تتحرك ، أو سكون غير طبعى كتحرك غير طبعى ، فلزم الاختيار وأقروا بالحادث وأما ما لتحريكها ابتداء فكيف تصل النور والمسافة بينهما لا تتناها ؟ وأيضا من أين لهم انهما امتزجا ثم افترقا ، ولا يمتزجان أبداً ، ولعلهما يمتزجان ويفترقان ألف مرة فأكثر ، وأى شاهد لهم على ذلك . وأيضا إن قتل رجل رجلا فإن قالوا قتله النور تركوا قولهم ، وإن قالوا الظلمة فقد أقرت والإقرار خير لا شر ، فإن تاب وقالوا تابت الظلمة ، ففساد قولهم ظاهر ، وإن قالوا تاب النور فلا قتل له فضلا عن أن يتوب ، فكذب النور وكان فاعلا للشر وهو الكذب ، وإن أقرت الظلمة بالقتل واعترفت ، فذلك صدق ، والصدق خير . وأيضا من فعل خيراً ثم شراً فإن قالوا الذى فعل الشر هو الذى فعل الخير تركوا مذهبهم ، وإن قالوا غيره فهذا هو أعجب شئ فى الدنيا ، رضى عمرو على زيد ، ولما غضب عليه صار غير عمرو . وأيضا إن أراد رجل قتل آخر ، فجاء من شفع فإن كان مريد القتل النور تركوا مذهبهم ، وإن كان الظلمة فالشافع إما ظلمة والشفعة خير ، وأما نور فمريد القتل الظلمة وعفت ، والعفو خير ، وإن عفا نور فالعافى مريد الشر ، ومن قال أنا ظالم فإن كذب فالنور لا يكذب ، وإن صدق فالظلمة لا تصدق . وقالت الديصانية كالمنانية ، إلا أنهم قالوا النور حى والظلمة ميتة ، وأن النور هو الذى مازج الظلمة ، ويرد عليهم أن هذه الممازجة إن كانت خيراً فكيف تكون ممازجة الخير لشر خيراً ؟ وإن كانت خيراً لقدرته على التخلص منها ، فعدم مخالطته لها أولى ، وكان هو الحكمة ، وهو أولى بالحكمة ، وإن مازجها ليدع فيها جزءاً منها تستلذ به ناحيتها ، فلعل هذا الجزء لا يتخلص فيعود من جنسها . وأيضاً إذا كانت الظلمة ميتة فكيف تفعل الشر ، فإن فعله النور فهو لا يفعل الشر ، وإن كذب فالكاذب غير حكيم ، ولا يتناقض قوله أو قوله مع فعله ، وما ورد على المنانية ورد عليهم ، وكل ما يرد به على الدهرية يرد به عليهما وعلى المرنية أيضا ، الزاعمين أن الأشياء من نور وظلمة قديمين وثالث متوسط بينهما وهو الإنسان . والرد عليهم فى نحو الممازجة كالرد عليهما . وإن قالوا الإنسان طلب المزاج بينهما بنفسه ، فإن كان شريراً فلا يكون ثالثاً لهما وهو جاهل شرير التحق بالظلمة ، والظلمة شر منه ، وإن كان خيراً التحق بالنور ، وإن كان حكيما فكيف يجب ممازجة الظلمة ، وجمع الظلمة لكثرة أسبابها ، والأجرام حاملة لها ، وسببها تخلل الجرم الكثيف بين النير وبين ما يقع عليه نوره ، بخلاف النور ، فسببه النار والشمس والقمر وسائر الكواكب والبرق ونحو ذلك ، والنور كيفية محسة تدركها الباصرة أولا بواسطتها تدارك سائر المبصرات ، والظلمة عدم النور فى الجسم الذى فى شأنه قبول النور . وقيل الكيفية الوجودية المضادة للنور زعما أن الإعدام غير مخلوقه والحق إلا الإعدام الصرفة غير مخلوقة ، كعدم خلق جبل فى موضع من الأرض ليس فيها ، وكعدم خلق زيد قبل أن يخلق ، والإعدام الوجودية مخلوقة كالظلمة إذا قيل إنها عدم النور ، فقبلت الجعل لأنها ليست عدماً محضاً ، والموت إذا قيل إنه عدم الحياة والتقابل بين النور والظلمة تقابل العدم والملكة ، أى الوجود إذا قلنا إنها عدم النور عما من شأنه أن يقبل النور أو استدل على أنها عدم بقوله " جعل الظلمات والنور " ولم يقل خلق وهو استدلال مشكل لذكر النور يجعل أيضا . والدليل على أنها أمر عدمى رؤية الجالس فى الغار المظلم الخارج إذا وقع على الخارج ضوء ، والخارج عنه لا يرى الجالس فيه ، فهذا مما يبطل قول من قال إنها كيفية وجودية مانعة عن الإبصار وإن تقابل بينها وبين النور تقابل الضدين ، فهى عرض مضاد للنور ، ولو كانت الظلمة أمراً حقيقياً قائماً بالهواء ، مانعاً من الإبصار لم ير أيضاً داخل الغار خارجه الواقع عليه الضوء ، إلا أن يقال قد يكون العائق عن الرؤية ظلمة تحيط بالمرئى ، لا الظلمة المحيطة بالرائى ، ولا الظلمة مطلقاً ، كما أن شرط الرؤية ضوء محيط بالمرئى لا الضوء مطلقاً ، ولا الضوء المحيط بالرائى ، ومراد بالإحاطة أن يحيط بما رئى وبعضاً ، فإذا رئى بعض الإنسان فقط لكون باقيه فى الظلمة ، فقد أحيط بذلك لبعض ، واستدل أيضا بكونها عدمية بأنا إذا قدرنا خلو الجسم من النور من غير انضياف صفة أخرى إليه ، لم تكن حاله إلا هذه الظلمة التى نتخيلها أمراً محساً فى الهواء ، وليس هناك أمر محس . ألا ترى أنا إذا أغمضنا العين كان حالنا كما إذا فتحناها فى الظلمة الشديدة ، ولا شك أنا لا نرى فى حال التغميض شيئاً فى جفوننا ، بل لنا فى هذه الحالة أن لا نرى شيئاً فنتخيل أنا نرى كيفية السواد ، وكذا الحال فى تخيلنا الظلمة أمراً محساً ، والضوء شرط وجود اللون فى نفسه ، فاللون إنما يحدث فى الجسم بالفعل عند حصول الضوء فيه ، وأنه أى اللون غير موجود فى الظلمة ، لفقد شرط وجوده ، بل الجسم فى الظلمة مستعد لأن يحصل فيه عند الضوء اللون المعين ، فإنا لا نراه فى الظلمة ، فعدم رؤيتنا له إما لعدمه فى نفسه أو لوجود العائق وهو الهواء المظلم ، والثانى باطل ، لأن الهواء المظلم غير مانع من الإبصار ، فإن الجالس فى الغار المظلم يرى من وقع عليه الضوء خارجه ، فلم يعقه الهواء المظلم بينهما ، والمختار عندى وعليه الفخر أن الضوء شرط لرؤيته لا لوجوده ، لأن رؤيته زائدة على ذاته ، والمتحقق المتيقن عدم رؤيته فى الظلمة ، وأما عدمه فى نفسه فلا . والجالس فى الغار إنما لا يراه الخارج لعدم إحاطة الضوء به ، والألوان تصفف بحسب ضعف الضوء ، فكل طبقة من الضوء شرط الطبقة من اللون ، فإذا انتفى طبقات الأضواء انتفى طبقات الألوان ، كذا قيل . قلت لا يصح بل الألوان باقية فى الظلمة ، لكن عجزت الأبصار عن إدراكها ، فالمختلف بحسب مراتب الأضواء الرؤية لا اللون ، فالرؤية جلاء وخفاء بحسب شدة الأضواء وضعفها ، والمرئى باق على حاله من اللون ، والله أعلم . وقيل إن الظلمات الشرك والمعاصى والجهل ، وإن النور غير ذلك من الهدى ، وعلى هذا فجمع الظلمات التعدد الضلال والحق واحد ، وقدم الظلمات لتقدم وجودها ، والنور حادث ، وكذا الذى هو مطلق عدم المعرفة بالله ، وعدم العمل سابق حتى الذى يولد على الفطرة وهو الطفل ، فقد مضى وقت وليس موجوداً فى البطن ، ومضى عليه وقت فى البطن لا روح فيه ، وعن قتادة والسدى وجمهور المفسرين الظلمات الليل ، والنور النهار ، والظلمة سابقة على النهار ، والأولى أن ينسب إلى الجمهور أن الظلمات كل ظلمة ، ولو فى نهار كظلمة البيت المغلق ، والنور كل ضوء ولو ليلا ، ولعل هذا المراد ، والليل والنهار تمثيل ، وقيل الظلمات الجهل ، والنور العلم ، وقيل هما الجنة والنار ، والجنة مخلوقة قبل النار ، والسماوات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، قاله قتادة ، وقيل خلقت الأرض قبل السماء ثم دحيت بعد السماء . { ثم الَّذين كَفرُوا بربِّهم يَعْدِلُونَ } العطف على قوله " الحمد لله " وثم تفاوت وتباعد أن يسووا غير الله به فى العبادة ، ويميلوا منه إلى غيره ، ويكفروا نعمته التى هى من السماوات والأرض ، ومن الظلمات والنور ، فمن منفعة الظلمة استراحة البصر عن النظر المؤدية إلى النوم ، مع أن غيره لا يقدر على خلق السماوات والأرض ، ولا جعل الظلمات والنور ، ولا على ترتيبهم من طور إلى طور ، والله هو المربى لهم ، أو العطف على خلق السماوات والأرض عطف اسمية على فعلية ، فهى صلة للذين أيضا بواسطة العطف ، والرابط هو لفظ رب من وضع الظاهر موضع المضمر ، ليدل أنه مربيهم بمنافع السماوات والأرض ، والظلمات والنور ، فكيف يكفرون نعمته ، ويميلون عنها إلى غيره ، أو يسوون به غيره ، مع أن غيره لا نعمة له عليهم بالحقيقة ، ولا يخلق ما يخلق الله . والباء على كل وجه تتعلق بيعدلون ، سواء فسر بيميلون عن عبادة الله وشكر نعمه ، أو يسوون به غيره ، وعلى كل وجه أيضاً يجوز تعليقها بكفروا ، أى الذين كفروا بربهم يعدلون به غيره ، أو يميلون عنه فيعدلون بمعنى يميلون متعد بالحرف ، أى يميلون عنه ، وبمعنى يسوون متعد بنفسه ، أى يسوون به غيره وهو ما يعبدون من الأصنام وغيرها ، والمستبعد على تعلق الباء بيعدلون هو قوله " بربهم " فقدم لذلك ، والفاصلة إذا كانوا يعدلون ، فكيف يكون العدول بربهم ، والمستبعد على تعليقه بكفروا هو قوله يعدلون ، قال النظر بن شميل الباء بمعنى عن متعلق بيعدلون بمعنى يميلون ، قال عمرو بن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق خلقه فى ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل "