Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 143-143)

Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ولمَّا جاء مُوسَى لميقَاتِنا } للوقت الذى وقتنا له ، وهذه لام التوقيت كقولك جاء لصلاة الظهر إذا أردت أنه جاء عندها ، وقولك كتبته لسبع مضين من المحرم ، وسماها جار الله لام الاختصاص ، أى خص مجيئه ميقاتنا ، وابن حكام يفسرها بمعنى عند ، والميقات اسم زمان على غير قياس ، وياؤه عن واو . { وكلَّمه ربُّه } خلق له الكلام فى بعض الأجرام ، أو فى الهواء ، والله على كل شىء قدير كما خلقه مخطوطا فى اللوح المحفوظ ، وكتبه القلم فيه بلا كتاب ، وعن ابن عباس كلمه أربعين يوما وأربعين ليلة ، وكتب له الألواح ، وقيل كلمه أول الأربعين ، وإن قلت إذا كان كلامه مخلوقا فى بعض الأجرام فكيف يتم لذلك الجرم أن يقول { إنى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى } وغير ذلك مما يشرك قائله ؟ قلت يتم له حكاية عن الله كما يقول جبريل ذلك عن الله ، هذا مذهبنا ومذهب المعتزلة ، وهذا الكلام الذى تكلمت به الشجرة ، أو خلق فى الهواء حروفا وأصواتا مقطعة سمعها موسى من كل جهة . وزعم الحنابلة أن كلام الله مطلقا حروف وأصوات مقطعة قديم ، ويرده أنه إن كانت إلى الآن يصوت بها متكررة أو غير متكررة ، فهذا عين الحدوث ، وإن انقطع التصويت بها فقد فنيت ، وما فنى فحادث وهذا المصوت إن كان الله حاشاه فقد جعلوه محلا يخرج منه الصوت ، وإن كان غيره فالكلام لغيره لا له . وقال جمهور المتكلمين كلام الله صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات ، وتلك الصفة قديمة أزلية ، فقالوا إن الله قدير أن يسمع موسى تلك الصفة ، مع أنها غير حرف وغير صوت ، كما قدر أن يخلق فى الجارحة ما ليس من طبعها ، مثل أن يجعل الأذن مبصرة ، والعين سامعة ، وقلنا معشر الأباضية إن كلام الله قسمان الأول خلق الأصوات فى جسم أو عرض . والثانى نفى الخرس ، يقول الله مكلِّم تريد أنه لا يجوز وصفه بالخرس . وزعم أهل السنة وجمهور السلف والخلف من غيرنا أن كلامه قديم أزلى ، وسكتوا عن الخوض فى حقيقته ، قال وهب بن منبه كلم الله موسى فى ألف مقام كان يرى كلامه نورا على وجهه ثلاثة أيام أثر كل مقام ، وما أظنه صحيحا ، وما قرب موسى النساء منذ كلمه الله فيما قيل ، والواو فى كلمه عاطفة على جاء موسى أو واو الحال بلا تقدير قد عند مجيز مجىء الحال جملة ماضوية مجردة ، من قد مقرونة بالواو مثبتة ، وبتقديرها عند مانع ذلك والعطف أولى . { قالَ ربِّ أرنى أنْظُر إليْكَ } الرؤية بصرية متعدية إلى اثنين بالهمزة ، والثانى محذوف أى أرنى نفسك ، وقرأ عمرو وابن كثير فى رواية عنهما أرنى بإسكان الراء تخفيفا أو إلغاء للمحذوف الذى بنيت الكلمة على حذفه ، ونظيره إعراب بعض الكلمات على عين مثل { وله الجوار } بضم الراء فى بعض القراءات ، ومعنى أرنى على القراءتين اجعلنى متمكنا من رؤيتك بأن تكشف عن بصرى ، أو بأن تتجلى لى كما يتجلى مخلوق لمخلوق . { قالَ لَنْ تَرانى } أى لن يتصل بى بصر عينيك ، ولن تدركنى ، ولكون المعنى هكذا لم يقل لن تنظر إلىَّ مع أنه أنسب لقوله { أنظر إليك } وذلك أن النظر توجيه البصر إلى شىء يدرك به ، سواء أدركه أم لا ، وليس مطلوبه به مجرد التوجيه ، بل التوجيه لأجل الإدراك ، فنفى الله سبحانه الإدراك ، لأنه محال من حيث إن ما تراه العين لون ، والله منزه عن اللون ومحدود بالجهات ، وحال فى مكان أو فى الهواء ، والله منزه عن ذلك ، فإنه يلزم من رؤية الله حاشاه أن يكون على لون من الألوان ، وأن يكون فى جهة ، وأن يكون له الجهات والحدود ، وأن يحل فى مكان ، أو فى هواء ، وأن يكون جسما أو عرضا ، وأن تخلو عنه الأمكان التى ليس فيها عند رؤية الرائى ، وذلك تشبيه بالخلق ، ومستلزم للحدوث ، فإنه يكون بين الحادثين ، وعلى الحادث من هو حادث ومستلزم للتركيب ، والتركيب مستلزم للحدوث وللجهل ، يحل الأشياء ، وإن قيل يدرك بغير اتصال شعاع العين به ؟ قلنا هذا نفى لرؤيته بالعين كما قلنا ، وإثبات للعلم بحقيقته كما قال الغزالى والفخر وغيرهما من المحققين إن رؤيته أن يحصل للبشر إدراك بالنسبة إلى ذات الله تعالى ، كنسبة الإبصار إلى المبصرات فى قوص الظهور ، وللمنقول محلها العين ولا غير العين . قال الغزالى إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما نريد بها ، وظن أنا نريد بها حالة تساوى الحالة التى يدركها الرائى عند النظر إلى الأجسام ، والألوان ، هيهات نحن نعترف باستحالة ذلك فى حق الله تعالى ا هـ . وهذا أيضا لا نقبله عنه ، فإن ذات الله أعظم من أن تدركها عقول البشر ولا غيرها ، أو تحيط به ، وليس عند البشر معرفة كنه الله ، وما عرفنا بالأدلة إلا أنه موجود عالم ، قادر حى ، مريد قديم ، باق لا جسم ولا عرض ، وغير ذلك من الصفات ، ولو جازت عليه الرؤية بالعين لجاز عليه اللمس والذوق والشم والسمع ، تعالى الله عن ذلك . وأجاز عليه بعض السنية ذلك كله ، لأن علته الوجود فلزمه ما لزم على الرؤية من التحييز والحلول والحدوث ، فإن الجسم والعرض مخلوقان ، وليست العلة الحدوث ، فإنه الوجود بعد العدم ، والقيد العدمى لا يصلح علة للموجود ، وإن قيل إنما لزم ما كرهتم على رؤيته بقياس الله على ما شاهدتم من خلقه ، ولا يقاس غير المشاهد على المشاهد ، قلت ذلك الذى هو محذور ومكروه ومحرم ، من نحو الحدوث والتخيير ، لازم على مجرد إثبات الرؤية ولو مع قطع النظر عن القياس المذكور ، وإن التزمنا أن ذلك بالقياس ، وأن ذلك القياس غير جائز ، فما أثبتم من رؤيته قياس على الخلق وهو باطل ، وإلا كان جوهرا أو عرضا ، وكان محلا للحوادث حاشاه . وإن قيل أثبتنا رؤيته للأحاديث والقرآن . قلنا الأحاديث موضوعة مفتراة لمنافاتها القرآن ، وقابلة للتأويل ، والقرآن يصدق بعضه بعضا ، والمصير إلى المتبادر أولى ، ولا دليل أشد مبادرة فى نفى الرؤية من قوله سبحانه { لا تدركه الأبصار } على ما مر من البحث فيه ، فيحال عليه قوله { إلى ربها ناظرة } كما يأتى إن شاء الله . إن قيل الرؤية تتعلق بكل موجود . قلنا الموجود المشاهد جسم ، ومنه ما لا يرى كالجن والملائكة ، وعرض وأنت خبير بأن الشم والذوق ، واللمس والسمع ، والرؤية والصوت والرائحة أعراض لا ترى ، ولو جازت رؤيتها لجاز تعلق السمع باللون ، وما ذكروا بها ، والذوق واللمس فلا يكون فى الاختصاص فائدة ولا حكمة ، فيكون فعله عبثا ، ولجاز ذلك فى المعدوم ، والله سبحانه غير جسم وغير عرض ، فلا يصح لكم قياسه على ما يرى من الأجسام والأعراض ، وإن جعلتموه منها فمن أين لكم أنه من الأجسام أو الأعراض التى ترى ؟ ولو جازت عليه الرؤية واللمس والشم وغير ذلك من غير اتصال لجاز أن يكون جسما من غير تركيب ، كما زعم كثير حاشاه . ولو كانت الرؤية لازمة لكل موجود لزم أن ترى إرادته وقدرته وعلمه وغير ذلك ، وتلمس وتذاق وتشم وتسمع ، ولجاز أن تركه البهائم ، وتدرك ما ذكر بحواسها الخمسة ، وتدرك ذلك منا أيضا ، ومن بعضها لبعض ، لأن العلة واحدة ، ولو جازت عليه الرؤية فى الآخرة لجازت فى الدنيا . وإنما طلب موسى الرؤية لظنه أنه تجوز عليه فيما قال الشيخ هود وبعض المخالفين ، وهو باطل ، لأنه أعرف بصفات الله من ذلك ، ولأنه قال لما طلبوها { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } فسماهم سفهاء ، فهذا تجهيل لهم يلزم منه أنه قد نهاهم فبطل قول القاضى أنه لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجعلهم ويزيح شبهتهم ، وقد أزاحها كما يأتى الآن ، أو طلبها ليجاب بنفيها ردعا لقوله ، وإزاحة لشبهتهم إذ قالوا لا نؤمن إلا إن رأينا الله ، وألحوا على الرؤية بعد ما أنكر عليهم وقال { أرنى أنظر إليك } دون أرهم ينظرون إليك ، مع أنهم الطالبون لها ، لأنها إذا منعت منه فهم أولى بمنعها ، ولأن ما خوطب به رسول الله خطاب لأمته ، فلن ترانى بمنزلة لن ترونى ، ولن لتأكيد النفى وتأبيده فى المستقبل كما قال الربيع بن حبيب ، وكما قال جار الله وبعض المرجئة فنفى رؤيته موبد دنيا وأخرى ، أو تأبيده فى الدنيا بلن ، وفى الآخرة بدلائل أخرى قد مرت وهى دلائل على نفيها فى الدنيا كما علمت . وإن قلت لو كانت للتأبيد لما قال الله فى اليهود { ولن يتمنوه } أى الموت { أبدا } لأنهم قد تمنوه ، إذ قالوا كغيرهم فى الآخرة { يا مالك ليقض علينا ربك } و { يا ليتها كانت القاضية } قلت التأبيد فى كل شىء بحسبه ، فتأبيد لن فى شأن اليهود فى نفى تمنى الموت فى الدنيا ، لأن الكلام فيه ، ولأنه فى عدة تمليهم معجزة ، ولئن سلمنا ما قلت فلتكن لفظة أبدا لا تفيد التأبيد ، لأنها مذكورة فى الآية ، ولأنا نقول بتأبيد النفى بلن عند عدم القرينة ، وتمنى الموت فى الآخرة موجود نصا ، فلا يرد علينا { فلن أكلم اليوم إنسيا } لوجود قرينة هى اليوم فبطل قول ابن هشام لو كانت للنفى التأبيدى لم يقيد منفيها باليوم ، قال لو كانت للتأبيد لكان ذكر الأبد فى { ولن يتمنوه أبدا } تكرارا ، والأصل عدمه . قلنا إن أراد بالتكرار التأكيد فالقرآن مشحون به ، وهو المطلوب فى مثل هذه الآية ، فهو أول مما هو أصل ، وكم موضع التأكيد فيه أبلغ مع أن أبدا إن كان تأكيدا فتأكيده لبعض معنى لن ، وهو التأبيد لجملة ، وإن أراد بالتكرار الإعادة فليس تكرارا باللفظ لمخالفة لفظ أبدا للفظ لن ، ولا بالمرادف لأن الاسم لا يرادف الحرف ، ولأن التأبيد معنى مطابق الابد ، ومعنى تضمنى للن لأن معناها المطابق مجموع التأبيد والنفى المؤكد والاستقبال . قال السعد العقل إذا خلى ونفسه لم يحكم بامتناع رؤيته ما لم يقم له برهان على ذلك ، مع أن الأصل عدمه ، ومن ادعى الامتناع فعليه البيان ، قلنا لا يحكم العقل بجواز الرؤية فإنها مشروطة بكون المرئى فى مكان وجهة ومقابلة من الرأى ، وثبوت مسافة بينهما بحيث لا يكون فى غاية من القرب ، ولا فى غاية البعد ، واتصال شعاع من الباصرة بالمرئى ، وكل ذلك مع ما يلزم عليه مما مر حال فى حق الله ، وإن قيل يرى لا فى مكان ولا وجهة من مقابلة واتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائى والله تعالى . قلنا هذا إما مناقض لإثبات الرؤية ، وإما تحول إلى الرؤية العلمية ، أما العلم بحقيقته فليس فى طاقة الخلق ، وأما بوجوده وسائر صفاته فمسلم صحيح ، وإن قالوا إنا قاطعون برؤية الأعيان والأعراض ضرورة أنا نفرق بالبصر بين جسم وجسم ، وعرض وعرض ، ولا بد للحكم المشترك من علة مشتركة وهى إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان ، إذ لا رابع مشترك بينهما ، والحدوث عبارة عن الوجود بعد العدم والإمكان عن عدم ضرورة الوجود والعدم ، ولا مدخل للعدم فى العلية ، فتعين الوجود وهو مشترك بين الصانع وغيره ، فيصح أن يرى من حيث تحقق علة الصحة وهى الوجود . قلنا إن أريد الفرق برؤية البصر فمصادرة ، أو باستعمال البصر فلا يفيد ، لأنا نفرق مثلا بين الأعمى والأقطع بالبصر ، والفرق بمدخل من البصر لا يقتضى كون المغروق مبصرا ، ولا نسلم أيضا أنه لا رابع مشترك بينهما ، فإن وجوب الوجود بالغير والمقابلة ، بل الأمور العامة كالماهية والمعلومية والمذكورية أمور مشتركة بينهما ، ولا يقال الأمور العامة تستلزم صحة رؤية الواجب ، ولا ضرر فى النقص بها على أنها تقتضى صحة رؤية المعدوم ، لأنا نقول يجوز أن تشترط بشىء من خواص الموجود الممكن ، ولا نسلم أن الوجود علة الرؤية كما مرّ سلمناه ، لكن فيما نشاهد من جسم وعرض ، ولا نقيس عليهما ما ليس جسما ولا عرضا ، ويلزم رؤية كل موجود كالكلام والشم كما مر . وإن قيل إنما لم ير الكلام والشم ونحوهما ، لأن الله سبحانه لم يخلق فى العبد رؤيتها ، لا لامتناع رؤيتها قلنا هى أعراض خلقها الله على كيفية لا ترى لا على كيفية ترى ، ومنعها عن أن ترى أو منع الأبصار عن أن تراها ، وعلى كل حال فليست رؤيته ممكنة لآرائها إلى محال وهو تحيزه ، وما يؤدى إلى محال ، فالتحيز استحالته عن واجب الوجود ، مانعة عن رؤيته ، وأيضا الصحة عدمية فلا تستدعى علة ، ولو سلم فالواحد النوعى قد يعلل بالمختلفات ، وكالحرارة بالشمس والنار ، فلا يستدعى علة مشتركة ولو سلم ، فالعدمى يصلح علة للعدمى ولو سلم ، فلا نسلم اشتراك الوجود . وإن قيل المراد بالعلة متعلق الرؤية ، والقابل لها ، وهو وجودى تعالى . قلنا ليس يقابل لها لأدائها إلى التحيز المستحيل ، وإلى الجسمية والعرضية ، وإن قيل لا تلزمان لأنا أول ما نرى شبحا من بعيد ، إنما ندرك منه هوية ما دون خصوصية جسمية أو عرضية أو إنسان أو فرسية ونحو ذلك ، وبعد رؤيته برؤية واحدة متعلقة بهويته ، قد تقدر على تفصيله إلى ما فيه من جواهر وأعراض ، وقد لا نقدر ، فمتعلق الرؤية هو كون الشىء له هوية ما ، وهو المعنى بالوجود ، واشتراكه ضرورى . قلنا حاصل هذا الكلام هو أن متعلق الرؤية أمر مشترك فى الواقع ، وهو لا يدفع الاعتراض ، ويستلزم استدراك التعرض لأجل رؤية الجسم والعرض ، ولاشتراك الصحة بينهما ، والاشتراك فى المعلوم لا يستلزم الاشتراك فى العلة ، وأيضا إذا رأيت شبحا من بعيد أيقنت أنه إما جسم أو عرض ، ونفى هذا مكابرة ، وأيضا مفهوم الهوية المطلقة أمر اعتبارى ، كيف تتعلق بها الرؤية ، بل المرئى خصوصية الموجود ، فلعل تلك الخصوصية لا مدخل لها فى تعلق الرؤية ، وأيضا ذلك الدليل منقوض بصحة الملموس ، وأيضا يجوز أن يكون متعلق هو الجسمية وما يتبعها من الأعراض من غير اعتبار خصوصية ، تعالى الله عن الجسمية والعرضية ، وقد علق الله رؤيته باستقرار الجبل ، واستقراره ولو كان ممكنا فى الجملة ويطمع فيه إنسان لكن بعد إخبار الله أنه جُعِل دكا كان محالا ، وما علق بالحال محال ، وذلك كحياة زيد غدا فإنها ممكنة ، وإن جاء الوحى بأنه يموت قبل الغد علمناها محالا ، ولسنا نحتاج إلى أن نقول المعلق عليه استقرار الجبل حال تحركه وهو محال ، فضلا عن أن يرد علينا أن ذلك خلاف الظاهر . وكون قوم موسى مذبذبين لم يكتفوا بمنع موسى الرؤية ، فاحتاج إلى أن سألها ليجاب بالمنع ، فاتضح بطلان قول السعد إنهم إن كانوا مؤمنين كفاهم منع موسى ، أو مشركين لم يكونوا مصدقين فى حكم الله بالامتناع ، وذلك أنهم كانوا مذبذبين كما مر ، أو مثبتين لله منازعين فى رسالة موسى . وقول القاضى إنه قال { لن ترانى } دون لن أرى ، ودون لن تنظر إلىَّ تنبيها على أنه قاصر عن رؤية لتوقفها على المعنى معد فى الرائى لم يوجد فيه بعد هو ادعاء محض ، لا دليل عليه مسلم ، وكما يفيد قولك لن أرى عدم الرؤية على الإطلاق يفيدها { لن ترانى } من حيث إنه إذا كان لا يراه موسى فغيره أولى بأن لا يراه ، سلمنا أن هذا دون ذلك فى حد ذاته ، لكن باعتبار ما يلزم على الرؤية ، مما مر يتبين أن المراد بهما سواء ، لكن عبر بهذا ليعقبه بقوله { ولكن انظر } الخ . وأما لن تنظر إلىَّ فلا يصح ، لأن النظر توجيه البصر نحو الشىء ، سواه أبصره أم لم يبصره ، والإخبار عن عدم رؤيته دليل على أن لا يراه موسى أبدا ، لأن النفى بلن وهى للتأبيد على البحث السابق ، وأما أن لا يراه غيره فالدليل عليه أنه إذا لم يره موسى لم يره غيره ، ولتعليقها بالمحال ، وذلك المحال بالنظر إلى موسى محال بالنظر إلى غيره ، وما تعلق بمحال حال ، وذلك كله فى الآية بمعونة أن رؤيته تؤدى إلى التحيز وغيره مما لايجوز على الله ، فبطل قول القاضى أن الاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ الخ . وقد مرَّ ردّ ما بقى من كلامه ، وأشار بقوله لم يوجد فيه بعد إلى أنه سيوجد فى الآخرة معنى معد فى الرأى فيراه ، وهذه الرؤية بالمعنى المعد إما بالعين وإما بالعلم ، وكلتاهما باطلة لما مر ، وأيضا هذا المعنى إما تغير الله إلى ما طبع العين على إدراكه ، أو الله سبحانه لا يتغير ، وإنما نقل العين إلى الإدراك بالدليل ، فذلك علم لا رؤية ، وتقرر ضرورة أن ما امتنع لذاته لا يدرك إلا بتحويل المدرِك أو المدرَك ، وقد قال أبو حنيفة يرى بحاسة سادسة وهى العقل ، وهذا رجوع إلى رؤية العلم ، ومر ما فيها ، وذكر السعد أن الأمة مجمعون قبل ظهور البدع على أنه يرى فى الآخرة وهو خطأ ، وقد قال ابن عباس وغيره لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة ، فانظر ما يأتى فى سورة القيامة ، فبطل زعمه أنهم مجمعون قبل البدع على أن الآيات الواردة فى ذلك على ظاهرها ، وأيضا فليحمل لا تدركه الأبصار على ظاهره . { ولكنِ انْظُر إلى الجَبَل } الذى هو أقوى منك ، إنما صح استدراكا لما قبله على أن معنى النظر إلىَّ لا يمكن لأنى لست فى جهة دون أخرى فلا تطلبه ، ولكن { فإنِ استقرَّ مكانَه فَسوفَ تَرانى } وليس بمستقر ، فلست ترانى ، وذلك الجبل الطور ، وقيل زبير بفتح الزاى ، وقيل زبير والطور اسمان لجبل واحد . { فلمَّا تجلَّى ربُّهُ } أى آية ربه ، وقدرته وعظم شأنه { للجبل جعله دكًّا } مصدر بمعنى اسم مفعول أى مدكوكاً أى مدقوقا ، والدكّ والدق أخوان كالشك والشق ، وقرأ حمزة ، والكسائى ، وابن عباس ، والربيع بن خيثم دكاء بالمد والتشديد ، أى رأيته مرتفعة كرابية التراب ، أو أرضا مستوية ، يقال ناقة دكاء أى متواضعة السنام ، وقرأ يحيى ابن وثاب دُكا بضم الدال وتنوين الكاف جمع دكاء بالفتح والمد أى قطعا . { وخَرَّ مُوسَى صَعِقاً } وقع بسرعة مغشيا عليه غشية كالموت من هول ما رأى ، كما كان الجبل دكا لذلك ، ولطلب الرؤية ، وقد خلق له تمييزا فيما قال بعض ، والصعق صفة مشبهة من الثلاثى المكسور اللازم المطاع للثلاثى المفتوح المتعدى ، يقال صعقه فصعق ، وذلك مأخوذ من الصاعقة ، ويقال أيضا الصاعقة من صفة إذا ضربه على رأسه . وقال قتادة الصعق الميت ولا يناسبه لفظ الإفاقة . { فَلمَّا أفاقَ } من غشيته { قالَ سُبْحانك } عن الرؤية وغيرها مما لا يليق { تُبتُ إليكَ } من جريان طلب الرؤية على لسانى من غير أن تأذن لى فيه ، وقد كان الأولى إذا طلبها قومه وهى أمر لا يجترأ عليه أن يقول اللهم إن قومى طلبوا الرؤية وأنت أعلم ، فمرنى بأمرك . ويجوز أن يكون معنى أرنى أنظر إليك عرفنى نفسك تعريفا واضحا جليا ، كمن شاهد شيئا ، ومعنى { لن ترانى } لن تطيق ذلك ، فانظر إلى الجبل فى قوته فإنى أخلق له تمييزا ، فإن أطاقها أطقتها ، وليس بمطيق { وأنَا أوَّلُ المؤمنينَ } من بنى إسرائيل عند ابن عباس ومجاهد ، أو من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق ، أو أول المصدقين بأنك لا ترى فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ولا تدرك بحاسة من الحواس ، ففيه إيماء بأن مثبت رؤيته غير مؤمن بل منافق إن أثبتها فى الآخرة ، ومشرك إن أثبتها فى الدنيا كما نص عليه أصحابنا ، ونص الشيخ هود أنه قد آمن الناس قبله ، فالأولية بالنظر إلى أمر الرؤية أو إلى قوم مخصوصين . قال صاحب عرائس القرآن وغيره لما مضت أربعون يوما تطهر وطهر ثيابه ، وأتى طور سينين ، وكلمه ربه وقربه ، قال وهب كان بين الله وموسى سبعون حجابا ، فرفعها كلها إلا حجابا واحدا ، وهذا خطأ فاحش ، فإن الحجاب مؤد إلى التحيز والجهات ، وإثبات لإدراكه فى الدنيا ، فإن الحجاب لو ثبت كان مقابلا له ، ولا فرق بينك يا أيها الإنسان وبين الحجاب ، كلاكما مخلوق . وقال سهل بن سعد الساعدى بينهما سبعون ألف حجاب ، وفيه ما فى قول وهب ، وذلك إثبات رؤيته ، وإن قالوا ذلك الحجاب لم تخلق فيه رؤية بقى عليهم التحيز وإثبات إمكان الرؤية ، فإن من لولا الحجاب لكان مرئيا معدودا فى جملة من يرى . وقد زعمت جماعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء ، وأن موسى قال سبحانك تبت إليك لعلمه أن الرؤية فى الدنيا مختصة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قالت عائشة من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية . وكان أحمد بن حنبل يقول رآه بعين رأسه ، وكرر ذلك يوما حتى انقطع نفسه توكيدا للرؤية ، وزعم القاضى أبو بكر أن موسى رآه ولذا صعق ، وأن الجبل رآه ولذا اندك ، ولما كلم موسى عليه السلام استحلى كلامه واشتاق قيل إلى الرؤية وطمع فيها وقال " يا رب أرنى أنظر إليك " . قال السدى لما كلم الله تعالى موسى غاص إبليس حتى خرج من بين قدمى موسى ، فوسوس إليه فى قلبه أن مكلمك شيطان ، فسأل الرؤية ، وقد روى أن الله سبحانه أنزل ظلمة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية ، وطرد عنه الشياطين وهوام الأرض ، وكشط له السماء ، ورأى الملائكة قياما فى الهواء ، وبرز له العرش ، وقربه حتى سمع صرير الأقلام على الألواح . قال السدى فقال له لن ترانى ، وليس يطيق البشر النظر إلىَّ فى الدنيا ، من ينظر إلىَّ مات ، قال إلهى سمعت كلامك فاشتقت إلى رؤيتك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إلىَّ من أن أعيش ولا أراك ، فقال له انظر إلى الجبل وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير ، وذلك أن الجبال لما أعلمت أن الله يريد أن يتجلى لجبل منها ترافعت رجاء أن يتجلى عليها ، وجعل زبير يتواضع ، فتجلى عليه قال ابن عباس بنور ظهر للجبل فصار ترابا . قال الضحاك أظهر الله من النور مثل منخر الثور ، وعبد الله بن سلام وكعب مثل سم الخياط ، والسدى قدر الخنصر . وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية وقال " هكذا " فوضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل أى غار ، وفى رواية بطرف إبهامه على أنملة الخنصر من اليد اليمنى ، وقال سهل ابن سعد قدر الدرهم ، فجعل الجبل دكا أى متسويا بالأرض ، وعن السدى قدر جناح البعوضة ، وعن الحسن أوحى الله إلى الجبل هل تطيق رؤيتى ؟ فغار وساخ فى الأرض وموسى ينظر حتى ذهب أجمع ، فذلك التجلى ، وعن بعض تجلى الله للجبل وأشغل موسى بالنظر إلى الجبل ، ولولا ذلك لمات . قال أبو بكر محمد بن عمرو الوراق عذُبَ إذ ذاك كل ماء ، وآفاق كل مجنون ، وبرؤكل مريض ، وأزال الشوك عن الأشجار ، واخضرت الأرض ، وأزهر النبات ، وأخمدت نيران المجوس ، وخرت الأصنام على وجهها . قال سفيان ساخ الجبل حتى وقع فى البحر وهو يظهر فيه ، وقال عطية العوفى صار رملا هائلا ، وقال الكلبى كسر جبالا صغارا ، وفى الحديث عن أنس " أنه صار ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء " وقيل فنى بجملته ، قيل ذهب أعلاه وبقى أكثره ، وقيل تفتت وصار غبارا تذروه الرياح . وعن سفيان ساخ وأفضى إلى البحر الذى تحت الأرضين ، قال ابن الكلبى فهو يهودى إلى يوم القيامة ، وقال أبو بكر الهذلى ساخ فى الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة ، قال الكلبى صعق موسى يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر . قال الواقدى لما خر موسى صعقا قالت الملائكة ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ قال جار الله وروى أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه ، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت فى رؤية رب العزة . قال وهب لما سأل موسى الرؤية أرسل الله سبحانه الضباب والصواعق والظلمة ، والرعد والبرق ، فأحاطت بالجبل الذى عليه موسى ، وأمر الله ملائكة السماوات يتعرضوا على موسى أربع فراسخ من كل ناحية . قال السدى حف حول الجبل بالملائكة ، وحف حول الملائكة بالنار ، وحف حول النار بملائكة ، وحف حول الملائكة بالنار ، ثم تجلى للجبل . وعن وهب مرت به ملائكة السماء الدنيا بتسبيح وتقديس كثيرين كصوت الرعد الشديد ، فقال يا رب إنى كنت عن هذا غنيا . ثم ملائكة الثانية كالأسود بتسبيح وتقديس بصوت أشد من الأول ، واقشعرت كل شعرة فى رأسه وبدنه وقال لقد ندمت على مسألتى فهل ينجينى من مكانى الذى أنا فيه شىء ؟ فقال له جبريل اصبر لما رأيت ، فقليلا من كثير رأيت . ثم ملائكة الثالثة كالنسور ، وألوانهم كالنار بتسبيح وتقديس أعظم مما قبل ، فاشتد فزعه وأيس من الحياة ، فقال له مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه . ثم ملائكة الرابعة كالثلج بصوت تسبيح وتقديس أشد مما قيل ، فاصطكت ركبتاه ، وأرعد قلبه ، واشتد بكاؤه فقال له اصبر فقليل من كثير ما رأيت . ثم ملائكة الخامسة فى سبعة ألوان ، ولم يستطع نظرهم ولا سماع صوتهم ، وامتلأ رعبا وحزنا ، وكثر بكاؤه فقال يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه . ثم ملائكة السادسة فى يد كل واحد حربة كالنخلة العظيمة أشد ضوءًا من الشمس ، لباسهم كلهب النار إذا سبحوا سبح من كان قبلهم يقولون بشديد صوت سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت ، فى رأس كل واحد أربعة أوجه ، ولما رآهم رفع صوته فسبح باكيا ويقول رب اذكرنى ولا تنس عبدك ، لا أدرى هل أتخلص مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت ، وإن مكثت مت فقال له قد أوشك يا ابن عمران أن يشتد خوفك ، وينخلع قلبك . وأمر الله ملائكة السابعة أن يحملوا العرش ، ولما بدا شىء من نور العرش اندك الجبل ، وكل شجرة فيه ، ورفعت الملائكة كلهم أصواتهم بالتسبيح فخر صعقا على وجهه بلا روح ، ثم ردها الله إليه فقلبت عليه الحجر الذى كان عليه ، فصار كالقبة عليه لئلا يحترق ، ثم أفاق فقال { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } وقال آمنت أنك ربى ، وصدقت أنك لا يراك أحد فيحيا ، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب ، وإله الآلهة ، وملك الملوك ، والإله العظيم الذى لا يقوم لبطشته شىء ، ولا يعدله شىء ، ربِّ تبت إليك ، والحمد لك ، لا شريك لك ، ما أعظمك وما أجلك يا رب العالمين . هذا ما رواه المخالفون ، ونص أصحابنا أنه لا يقال ما أعظم الله ، ولا أعلمه ولا ما أكرمه ونحو ذلك ، وأجازه بعضهم فى الأفعال لا فى الصفات ، نحو ما أحسن صنع الله لا ما أعلمه وأبصره وأقدره ونحو ذلك ، قيل كانت الجبال قبل أن يتجلى الله صما ملسا وصارت الجبال بعد ذلك شقوقا وغبراناً .